الثورة تنهزم أو تنتصر، هي ليست قدراً أو حتمية، هي محضُ ميولٍ تاريخية، وليست قوانين معروفة ومحدّدة للتنفيذ وتتطلّب ثلّة من الثوار؛ فإن لم تَلتقِط اللحظة الثورية، وتعي شرطها التاريخي، وتقبض عليه، وتُسقِط النظام القائم، تنهزم.

الثورة السورية، قِيل ونقول إنّها شعبية، ولكنها لم تستطع الحفاظ على شعبيتها وسلميتها، وتُبرِز قيادة لها؛ وبالتالي لم تتوسع تباعاً لتشمل كافة قطاعات المجتمع. تلك القطاعات التي بدأت فئاتٌ منها بالانخراط فيها، كما جرى في السويداء وحمص والسلمية واللاذقية، وسواها عام 2011.

في الأشهر الأولى، كانت “العدوى” الثورية تنتقل وتشتد. الطرف الآخر، وأقصد النظام، قرأ جيّداً طبيعتها الشعبية، وأن هناك إمكانية لأن تنتصر عليه؛ ومن أجل إيقاف ذلك، وفي الوقت الذي لم تنتبه لخطورة الاتجاهات السلفية والجهادية والإسلامية، والدينية المحضة، التقط النظام نقاط الضعف في الثورة، فأخرج لها جهاديين كثر من معتقلاته، بالتوازي مع فتح حدود العراق والأردن وتركيا لآخرين، ودفع بالمعارضة لمغادرة سوريا، وتبنّت الإسلاميةُ منها قضية تحرير المدن وليس خوض حرب عصاباتٍ أو الحفاظ على شعبيتها وسلميتها.

كان ذلك التحرير بقصد استدعاء الخارج وفقاً للمثال الليبي، أي “افتعال” حروب ومجازر في المدن لذلك الاستدعاء. النظام قرأ المشهد الدولي جيّداً، فليس هناك تدخلٌ كما حالة ليبيا، وأن سوريا متروكة ليقضي هو على الثورة؛ وهذا غير ممكن دون دمار هذا البلد، وهو ما كان!.

بدأت عملية انهزام الثورة منذ تلك اللحظة؛ حيث انخرط الإخوان والسلفيون في مشروع أسلمتها وتطييفها، وهذا أوقف توسعها، وحصَرَها، وتم تسليحها. نُشِرَتْ دراسات كثيرة تؤكد رفض القوى السلفية العناصر المنشقة عن الجيش النظامي! واستلمت القيادات الإسلامية العمل العسكري بنفسها، وهي لا تفهم فيه أبداً؛ والأسوأ أنّها شكلت “دروعاً مسلحة خاصة بها”.

إن غياب قيادة شعبيّة وثوريّة، وازدياد ثقل القوى السلفية تدريجيّاً، واعتماد النظام في قمعه على ممارساتٍ طائفية، خلق وعياً طائفيّاً لدى فئات واسعة لدى الثورة.

عدا ذلك، إمّا اعتُقِلَت الفئات الشبابية الثورية الأولى أو لوحقت فتركت البلاد، وبالتالي، قويت الميول الطائفية على طرفي الصراع؛ فإذا كان النظام مدعوماً من إيران وميلشياتها، فإن القوى السلفية دُعمت من تركيا والخليج، وراح الطرفان يُوجهان الصراع نحو الطائفية، وبذلك كُتِبَ على سوريا الدمار والتخلف، وانتهت الثورة الشعبية، وهذا قَوّى الجوانب الطائفية لدى النظام ذاته.

إذاً هُزمت الثورة السورية، وهنا بدأت الأسئلة لماذا حصل ذلك؟ وما السبب، وكيف لا تنهزم مرّة أخرى، وهل المشكلة في النظام السياسي أم أن المجتمع غير مؤهل للقيام بالثورة، ولن ننشغل بمن اعتقد أن الثورة بالأصل كانت إسلاميّة؛ فهذا الرأي يتجاهل أن الثورة في سوريا هي جزء من الثورات والاحتجاجات العربية، التي اندلعت في دولٍ كثيرة، وكانت لها أهدافٌ متعدّدة؛ اقتصادية وسياسية واجتماعية، وتبتغي إنهاء النظام الاستبدادي وتحقيق الانتقال الديموقراطي.

الثورة سياسيّة بطبيعتها، وغياب قوى سياسية تساهم في اندلاعها، لا يغيّر من ذلك؛ فهي تبتغي تغييراً في طبيعة النظام الحاكم. إذاً، لماذا ظهر سؤال الثقافة مع الهزيمة، ولم يتقدم النقاش نحو دراسة أسباب إخفاقها، والتي هي بدورها وبالدرجة الأولى أسباب سياسيّة؛ داخلية، وتخص المشاريع التاريخية للمعارضة وللنظام، وخارجية وتخص التدخل الإقليمي والدولي. هنا يجب النقاش؛ ولكن اتجه كثير من الإسلاميين والعلمانيين، واليساريين، وكذلك الوطنيين، وهناك القوميين، للبحث في الأسباب الثانوية بدلاً من الرئيسية.

السؤال غير السياسي عن سبب هزيمة الثورة، يدفع نحو نفول القيام بها. فمن ينطلق من الاقتصادي سيقول لم تظهر احتجاجات سابقة على الثورة؛ توطن فكرتها وضرورتها وتدفع نحوها؛ أي لم تظهر أزمة اجتماعية واقتصادية كبيرة.

نلاحظ أن الليبراليين لا يعترفون بهذه الأزمة، ويقولون عن الثورة أنها ثورة من أجل الديموقراطية ولإنهاء الاستبداد؛ أيضاً تيار من اليساريين يقول بالأمر عينه، كي يبرروا عدم الانخراط فيها، وأن الممكن في 2011 بعض الإصلاحات، وسوريا لم تكن مؤهلة لها. إذاً هناك لقاء “عاطفي” بين الليبراليين واليساريين وعن ذات الفكرة.

الإسلاميون رأوها ثورة إسلامية ورفضوا الاعتراف بشعبيتها وسوريتها حتى! واعتبروها استكمالاً للاحتجاجات في 1980، وأن النظام “علوي” ولهذا يجب تغييره، وهذا غير ممكن دون تدخلٍ خارجي.

هذا التصوّر لا يتحسّس أن الثورة انهزمت، ولا يجد ضرورة لتفكيك رؤيتهم الخاطئة لها، وأن لتلك الرؤية ولممارساتهم دوراً مركزياً في الهزيمة، وأنّها كانت شعبية كما في بقية الدول العربية، وأن للثورة أهدافاً متعدّدة، وليس من بينها العامل الديني.

إن الدين قضية شخصية ودينية للجماعات، وليست قضية ثورية، وأن استخدام الدين عاد بالفائدة الكاملة على النظام، الذي دفع هو بذاته نحو استخدامه لإفشال شعبية الثورة، والتي كانت تشمل فئات كثيرة من السوريين، وكادت أن تهزم النظام في السنة الأوّلى.

الهزيمة المرّة، قد تدفع نحو أسئلةٍ خاطئةٍ، وغير سياسيّة، وهذا ليس بجديدٍ؛ فبعد هزيمة حزيران اتجهت الأقلام الثقافية للبحث في تكوين المجتمع كمصدرٍ لها، أو نحو الوعي الديني، وألحقوا العامل السياسي “دور الأنظمة” في العامل التاريخي “تأخر المجتمع” كسببٍ مركزي للأزمة، بينما كان عام 1967، والآن السبب الأساسي للهزائم سياسيٌّ بامتياز، كما حدّدناه أعلاه، في طرفي النظام والمعارضة وفي الخارج أولاً، وثانياً في غياب الوعي الثوري قبل الثورة.

الفكرة الأخيرة تدفع نحو نقاشٍ جادٍ هنا: لماذا كان الوعي في سوريا بوجهه الغالب قبل 2011 دينيّاً أو طائفيّاً أو قبليّاً أو قومياً لدى الكُرد خاصة، لماذا لم يكن وطنيّاً أو اشتراكيّاً أو قوميّاً؛ أيضاً، ألم يكن الميل الأقوى في الوعي في الخمسينيات والستينيات يساريّاً، بعثيّاً وماركسيّاً وقوميّاً وحتى الإسلاميين اتجهوا نحو اشتراكية إسلامية. وطبعاً كانت هناك اتجاهات طائفية، أو أشكال من الوعي القديم، ولكنها لم تكن مسيّسة، وكانت أقرب للوعي الاجتماعي والتمايز الديني والمذهبي الشعبي!.

النقاش هذا، يرفض نقل التفكير في الثورة من السياسي نحو الثقافي والديني؛ فالهزيمة لم تكن لأنّ الوعي دينيّ والمجتمع متأخر. إن النظام عبر مؤسساته المتعددة، كان سبّباً في غياب الوعي الثوري، وغياب السياسة ذاتها؛ فأغلبية القوى السياسية اعتُقلت، ولم تراكم الحياة السياسية بعد عام 2000 قوىً سياسيّة، ورغم أنها بأغلبيتها ليبرالية، فقد تعرضت للتنكيل والاعتقال، والقوى اليسارية ظلّت هامشية أو تتحرك وفقاً للتعليمات الأمنية عبر الجبهة الوطنية التقدمية وسواها.

السؤال الثقافي أكثر من ضروري، ويتناول كافة أوجه المجتمع والوعي وأشكال الثقافة والتراث وقضاياه الكثيرة، وهو أساسيٌّ لتفكيك واقع الهزيمة والواقع السوري بعامةٍ.

ولكنه يفشل بشكل كامل إن قرأ الهزيمة من زاوية الثقافة؛ كأن يقول إن وعي السوريين لم يكن مؤهلاً للقيام بالثورة، أو أن الواقع الاقتصادي لم يكن مكتملاً ليفجر ثورة تعمُّ البلاد من أقصاها لأقصاها، ويخلق وعيّاً بضرورتها، وكأنّ الثورات الأخرى عمّت كافة أنحاء البلاد أو كان هناك وعي اقتصادي مسبق بضرورتها!

إن قراءة هزيمة الثورة تنطلق من دراسة أوضاع طرفي الصراع، ودور العوامل الخارجية؛ فهي من ساهم في هزيمتها ودمار سوريا وإضعاف النظام وتبعيته للخارج وأن تصبح سورية محتلة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.