عاد الملف السوري إلى سلّم أولويات الولايات المتحدة الأميركية مجدداً، ضمن اجتماع ترأسه وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكين، على هامش مؤتمر روما للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش؛ ويبرز تزايد الاهتمام الأميركي عبر توسعة الاجتماع، ليضم الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي وقطر وتركيا والمبعوث الأممي غير بيدرسون، وتغيب عنه كل من روسيا وإيران.

أرادت واشنطن من اجتماع روما تقديم استراتيجيتها الجديدة حول الملف السوري، والتي تتلخص في كيفية تمرير المساعدات عبر الحدود، في حال تعنَّتَ روسيا، وأشهرت مجدداً حق النقض، الفيتو، في مجلس الأمن، في وجه تمديد القرار الأممي الخاص بالمساعدات الإنسانية عبر الحدود.

كما ترغب واشنطن أيضاً، باستمرار وقف إطلاق النار في سوريا وتثبيت مناطق النفوذ، ودفع الدول العربية إلى التريث في التطبيع مع نظام الأسد تحت تهديد عقوبات قانون قيصر، والتي لا تزال سارية المفعول، لكن دون إصدار حزم عقوبات جديدة، إضافة إلى تفعيل ملف المحاسبة، في حين أن إخراج إيران من سوريا لم يعد ضمن الشروط الأميركية الملحة في سوريا، حيث تحاول واشنطن استيعابها، بما يخدم مجريات مفاوضات الملف النووي الإيراني.

اجتماع روما الموسَّع جاء للضغط على روسيا، ومحاصرتها في الملف السوري، بسبب تصاعد التوتر بينها وبين الحلف الأميركي الأوروبي؛ فقد عزّزت موسكو تحالفاتها العسكرية والأمنية مع الصين، مع وجود تنسيق سياسي عالي بين الطرفين، تحوّل إلى تحالف استراتيجي يزعج واشنطن والغرب، إضافة إلى تحديث موسكو لقدراتها النووية، وعدم الاستجابة للطلب الأميركي حول الحد من سباق التسلح، ومؤخراً أعلنت روسيا من مركزها في حميميم، بأن سوريا باتت قاعدة عسكرية متقدمة لها على البحر المتوسط، وقد استقدمت إليها مقاتلات متطورة وحاملات صواريخ وقاذفات قادرة على حمل سلاح نووي، في مناورات ضمن ما أسمته “التدرب على ضمان أمن  القاعدتين، الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس”، ما شكل تحدياً للسيطرة العسكرية الأميركية على مياه المتوسط.

رفع سقف التحدي الروسي، جاء أيضاً، للرد على المناورات الأميركية في أوكرانيا في البحر الأسود، وتمدد حلف الناتو إلى حدودها الغربية، ونشر الدرع الصاروخية في دول أوروبا الشرقية، إضافة إلى دخول سفن بريطانية إلى البحر الأسود، بالقرب من منطقة دونباس المتنازع عليها في أوكرانيا.

تصعّد روسيا ضد تمديد إدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى مع تركيا، وضد توسيع القرار ليشمل معابر أخرى، بحثاً عن صفقة مقابلة تتعلق بعودة اللاجئين وملف إعادة الإعمار، وتريد من المجتمع الدولي التعامل مع نظام الأسد بوصفه السلطة الشرعية الوحيدة في سوريا، تمهيداً لقبوله والحد من عقوبات قانون قيصر، وبقائه في الحكم دون حل سياسي.

بالنسبة لروسيا، بقاء الأسد في الحكم يعني ضمانة لمكاسبها الاقتصادية والعسكرية في سياق المواجهة مع الحلف الغربي. لا توجد مشكلة لدى هذا الحلف حول أن سوريا باتت منطقة نفوذ لروسيا، لكن لديه مشكلة في توسع هذا النفوذ في الشرق الأوسط، وفي مياه المتوسط، خاصة أن روسيا باتت حليفاً استراتيجياً للصين، وتحالفت مع إيران في سوريا، وتتحالف مع تركيا وقدمت لها المنظومة الدفاعية إس 400، لضرب حلف الناتو.

الولايات المتحدة لا تريد الوقوع تحت الابتزاز الروسي، وتسعى عبر الحلف الجديد إلى توفير طرق لتوصيل المساعدات إلى مناطق المعارضة، في حال استخدم الروس الفيتو؛ بينما تريد روسيا عبر ملف المساعدات الإنسانية إعادة تأهيل النظام. استخدام الفيتو الروسي في مجلس الأمن على قرار إدخال المساعدات، يعني تجميد الصراع السوري، واستنقاعه، ويعني أيضاً تصعيداً أكبر بين روسيا والحلف الغربي.

دعت واشنطن كل من الدوحة وأنقرة للمشاركة في اجتماع روما حول سوريا، لضرب منصة الدوحة التي شكلتها روسيا بخصوص إدخال المساعدات الإنسانية عبر دمشق، وكذلك لتعزيز دور المعارضة السورية مجدداً، بعد تراجعها مع سيطرة النظام على مناطق واسعة، والتي سلمتها المعارضة وفق اتفاقات خفض التصعيد وأستانة، ضمن التحالف الثلاثي الروسي التركي الإيراني، وزاد الانقسام الخليجي من ضعف المعارضة، وبالتالي قد تشهد الأسابيع المقبلة تشكيلات جديدة للمعارضة السياسية، بغرض إضعاف موقف النظام وروسيا ضمن مداولات اللجنة الدستورية وأية مفاوضات مقبلة.

أكد المجتمعون في روما على أن التسوية يجب أن تكون وفق القرار الأممي 2254، لكن لا خطوات ملزمة يملكها المجتمع الدولي لتطبيق هذا القرار، سوى التوافق مع روسيا، والذي تحول دونه ملفات كثيرة عالقة وخلافات عميقة وشد وجذب بين روسيا والغرب؛ فهناك ملف جزيرة القرم، والخلافات على حدود أوروبا الشرقية.

هناك أيضاً مفاوضات الملف النووي الإيراني، والتي قد تطول، خاصة مع وجود عراقيل كثيرة، وصعوبة التنبؤ بالسلوك الإيراني بعد انتخاب ابراهيم رئيسي، رئيساً لإيران، وهو من تيار الولي الفقيه. وبالتالي، واقع الحال هو الاحتفاظ بالوضع السوري على حاله حتى الانتهاء من المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، وكذلك حل الملفات الأخرى على حدود روسيا الغربية.

يستمر الغرق الروسي في المستنقع السوري؛ حيث تُعتَبر سوريا بالنسبة لموسكو دولة ذات أهمية استراتيجية، عسكرية وسياسية واقتصادية، ولن تقدم التنازلات فيها، باعتبارها مركز قوة وضغط ونافذة لتهديد للحلف الغربي الأميركي- الأوروبي؛ وقد عززت تواجدها العسكري في القاعدتين الجوية والبحرية، وتسعى لضمان أمنهما بقوة الأمر الواقع، في حال حصل أي تغيير سياسي في سوريا، بينما يصعب عليها ضمان مصالحها الاقتصادية مع الحكومات القادمة، وضمان جني غلة إعادة الإعمار، لذلك ألحت على النظام مؤخراً لإنجاز الاتفاقية الاقتصادية الحكومية الروسية- السورية.

لا يبدو أن التحركات السياسية المقبلة في أستانة وجنيف ومجلس الأمن، كما هي في روما، ستقدم الكثير على صعيد الحل السوري، وبالتالي يبدو استمرار الفوضى سيكون عنوان المرحلة القريبة المقبلة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.