القانون في خدمة الأنظمة القمعية

تعتاد الشعوب المحكومة من أنظمة قمعية على الشعارات الجوفاء التي تستخدمها السلطة عبر كل أشكال المنابر المتاحة، وتصبح جزءاً من المَشاهد الحاضرة بصورة بديهية، حتى تغدو غير ملحوظةٍ بسبب تكرارها في يوميات الجماعة وأفرادها، مع عدم إمكانية إخضاع هذا الحضور الأجوف للمساءلة أو النقد.

أما الطامة الكبرى فهي أن منهج تجويف وتفريغ المقولات من مضامينها لا يتوقف عند الشعارات أو الأهداف المرفوعة في الحملات الانتخابية أو أدبيات كُتّاب ووُعاظ السلاطين في هذه الأنظمة القمعية، بل يتعداه ليطال العقد الاجتماعي وأدواره الوظيفية التي وُجد لأجلها.

ويجري تحوير دور الدستور من كونه القانون الأعلى الذي ينبغي أن يحدد نوع الحكم وشكل الدولة والعلاقات بين السلطات، ليُختزل إلى “مختبر” يجري فيه تحسين صور منظومة الحكم القائمة، وإنتاج نسخ مُفارقة للواقع من هذه الصور، يجري ترويجها للداخل حيناً وللخارج أحياناً، وفقاً لحاجة أصحاب السلطة.

في حين يبقى الواقع قائماً على ما هو عليه، قاتماً ومُفارقاً لأية ضوابط حقيقية وفعالة يمكن أن تخرجه من أزماته المتعاظمة.

قانون حقوق الطفل في سوريا وإعلان إعادة إعمار الإنسان

في 15 آب/ أغسطس 2021 أصدرت الحكومة السورية القانون رقم 21 “قانون حقوق الطفل”، والذي جاء في 65 مادة موزعة على 12 فصل هي على التوالي: تعريفات، مبادئ عامة، الحقوق الأسرية، الحقوق الصحية، الحقوق التعليمية والثقافية، والوصول إلى المعلومات، عمل الأطفال، الحق في الرعاية الاجتماعية، الحق في الحماية والأمان الشخصي، العدالة الإصلاحية، اللجنة الوطنية لحقوق الطفل، العقوبات، أحكام عامة.

تضمَّن القانون تجميعاتٍ من فصولٍ وموادَّ تتعلق بالطفل كانت متفرقةً في قوانين أخرى سابقة، كقانون العمل وقانون الأحداث والعقوبات وسواها.

كما تضمن بعض الإضافات الجديدة من قبيل إيجاد “شرطة خاصة بالأطفال تضم عناصر مؤهلة ومدربة لهذا الغرض، يُراعى فيها وجود العنصر النسائي” و”توفير جميع الخدمات القانونية” مجاناً للطفل حين يكون “في حالة نزاع مع القانون”.

وهي التسمية التي جاءت بديلاً للمصطلح “الأحداث الجانحون” التي استخدمت في النصوص القانونية سابقاً.

نشرت وكالة سانا الحكومية نص القانون يومَ صدوره، تحت عنوان “تعزيزاً لدور الدولة في حماية الأطفال ورعايتهم.. الرئيس الأسد يصدر قانون حقوق الطفل”.

وفي ندوةٍ بثتها القناة السورية بعد يومين في 17 آب/ أغسطس تحت العنوان السابق نفسه، تابع الإعلام السوري الرسمي حملة الترويج للقانون الصادر عن “النظام العصري” الذي “أتى استجابةً للحاجة التي وُجدت بعد الحرب” وفقاً لتعبير ضيوف الندوة، والذي له “أهمية استثنائية” هي أنه “يهدف لتنشئة جيل سليم” لأن “الأطفال هم رجال الغد” على حد تعبير القاضي المستشار “عبد الحميد النقري” عضو مجلس الشعب.

أما القاضية “فاطمة الزهراء أحمد حلي” وهي عضو في إدارة التشريع في وزارة العدل، فقد اعتبرت أن “صدور القانون في هذا الوقت هو إعلان من الدولة بأننا بدأنا بإعادة إعمار الإنسان”.

مُفارقات طلائعية

القانون الذي ينص في المادة 9 من فصله الثاني على أنه “لا يجوز قبول انتساب الطفل إلى أي حزب سياسي” وفي فصله الثامن “يحظر تجنيد الطفل أو إشراكه في عمليات قتالية أو غيرها من الأعمال المتصلة بها” يتعامى عن جهود منظمة طلائع البعث وميليشيا “كتائب البعث” في تجنيد الأطفال.

الأمر الذي أكدته مجموعة صور تداولها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي عام 2019، وقام مركز توثيق الانتهاكات VDC بالتحقق من صحتها وتبين أنها صُوِّرت أثناء تدريب عناصر من “كتائب البعث” لأطفال/ طلاب على استخدام السلاح داخل مدارسهم/ن في محافظة السويداء جنوبي سوريا.

لا يمكننا سوى التوقف أمام كلمة “استثنائية” التي تصف هذا القانون والقيام بمقارنة سريعة مع التقارير التي صدرت خلال الأعوام الأخيرة عن قضية “تجنيد الأطفال” على يد الميليشيات الموالية للحكومة السورية، كقيام جمعية مرخصة في سوريا تحت اسم “كشافة المهدي” بإعداد و”أدلجة” وتجنيد الأطفال لصالح الميليشيات الإيرانية في دمشق وريف دمشق ودير الزور.

أو مقارنته بميليشيات الدفاع الوطني في محردة والسقيلبية بريف حماة، التي تكفي زيارة منصاتها الرسمية على وسائل  التواصل الاجتماعي للتحقق من ضلوعها في تجنيد الأطفال واستخدام المدارس لتقديم دورات تدريب عسكرية وقتالية تحت مسمى “أشبال الدفاع الوطني”.

وهذا ليس سوى غيض من فيض المفارقات التي يغصُّ بها القانون “الاستثنائي” الذي أقرته “القيادة السورية الاستثنائية” وشكل “الاستجابة المثلى في هذا الظرف الاستثنائي” -على حد تعبير المهلّلين- للواقع الذي تعكسه الأرقام المرعبة التي صدرت خلال هذا العام 2021 في تقارير المنظمات الدولية والمحلية حول الحرمان من الغذاء والمياه والسكن الملائم وسواها من الحقوق الأساسية المتعلقة بالحياة والسلامة الشخصية والحرية، والتي يعانيها غالبية متعاظمة من الأطفال في مناطق سيطرة الحكومة السورية اليوم. الأمر الذي تؤكده مشاهدات يومية تغص بها صفحات وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام في سوريا.

وفي زمانٍ ومكانٍ ليسا بعيدين عن الجوقة التي كانت تسوق عبر الهواء لمقولة “بدأنا بإعادة إعمار الإنسان في سوريا”، كانت المدفعية التابعة لذات القيادة تقصف الأحياء السكنية في درعا وقراها، وكعادتها لم تكن لتستثنِ من ضحاياها الأطفال.

صرخة أطفال سوريا الوحيدة

تقول الحكاية أن رجلين نصابين أقنعا الملكَ أنهما يستطيعان حياكة ثوبٍ فاخرٍ لا يراه إلا الأذكياء، وحين أتما حيلتهما عليه وأوهماه أنهما يلبسانه ثوباً مزعوماً لم يره. خرج الملك عارياً في موكبٍ أمام شعبه، ولم يجرؤ أحد على الاعتراف بأنهم لا يرون رداءً، بل عريَّ ملكهم وعورته.

إلى أن صرخت طفلة من الفقراء وسط الحشود معلنة أن: “الملكُ عارٍ لا يرتدي أية ثياب!”.

في مشهد من الكوميديا القاتمة، يبدو قانون حقوق الطفل الذي ناقشه وأقره مجلس الشعب السوري ووقعه الأسد منذ أيام، ضرباً من ضروب “الثوب الفاخر الذي لا يراه إلا الأذكياء”، في حين مازال مقدراً لأطفال سوريا أن ترتفع صرخاتهم/نَّ، وتعلو وسط ضجيج المنافقين، لتؤكد وحدها عُري الملك، وزيف ثوبه المزعوم، وعُهرَ ناسجيه.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.