كثيراً ما كانت تصريحات المسؤولين في الحكومة السورية على مدار عشر سنوات من الحرب، تعتبر أن الدواء هو من الخطوط الحمراء لا يمكن تجاوزها، بينما على أرض الواقع فإن هذا الكلام أشبه بزوبعة في فنجان، ضعيف الأثر ولا يلمس الواقع الملموس على الأرض.

الملاحظات التي تلاحق سوق الدواء في سوريا متنوعة سواء كان الدواء من إنتاج محلي أو مستورد أو إن كان مهرباً، وهذا دليل على أن الجهة الناظمة لسوق الدواء، غائبة عن المشهد تماماً، لأن هناك مافيات تتحكم بهذه السلعة، تتاجر بها وتدخلها بطرق غير قانونية إلى حدود البلاد، دون التحقق من مصدرها الحقيقي.

إلا أن هذا لا يهم أمام حاجة المواطن السوري إلى الدواء، فسوريا في الوقت الراهن تشهد عتبة أزمة دوائية لا مثيل لها في ظل توقف الكثير من المعامل عن الإنتاج، وفي وقت كانت سوريا قبل سنوات الحرب تشهد اكتفاء ذاتيا في توفر الدواء،  وتصدّر فائض  إنتاجها.

نشأت صناعة الدواء في سوريا منذ تأسيس «الشركة العربية لصناعة الأدوية» في عام 1968، ومن ثم تم إحداث شركتي «الديماس» التي تنتج المضادات الحيوية وأدوية التخدير و شركة «تاميكو» التابعة لوزارة الصحة التي تنتج أدوية السيتامول والسكري والضغط و السيرومات.

وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي سُمح للقطاع الخاص بالاستثمار في الصناعة الدوائية، وحصلت شركة «أوبري للصناعات الدوائية» عام 1989 على أول ترخيص لصناعة الأدوية من القطاع الخاص، لتحصل بعدها قفزة في الصناعة الدوائية السورية، ووصل عدد مصانع الأدوية إلى نحو 70 معملاً عام 2011 تنتج أكثر من 8000 صنف، وكانت تغطي 93% من احتياج السوق المحلية مع فائض للتصدير لأكثر من 40 دولة.

أثر العقوبات الاقتصادية

وبحسب الأرقام الرسمية، فإن هذه الصناعة تضررت في الحرب كباقي القطاعات الأخرى، حيث خرج  أكثر من 19 معملاً لصناعة الأدوية من الخدمة، وتراجع الإنتاج بنسبة 75% وقطاع صناعة الدواء كباقي القطاعات الصناعية الأخرى يعاني من العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا.

وأسهمت أسباب أخرى جوهرية في تراجعا الإنتاج، كهبوط قيمة الليرة السورية وتراجع القدرة الشرائية للمواطن السوري، واتجاهه إلى تأمين احتياجاته الغذائية على حساب صحته.

كما أن غياب حوامل الطاقة وارتفاع سعرها قد ساهم من زيادة تكلفة المنتج وضاعف من سعر الدواء كما بات أصحاب المصانع في قطاع الأدوية عاجزين تماماً عن استيراد الآلات وقطع الغيار بسبب العقوبات، ناهيك عن استيراد المواد الخام من مصادر معروفةٍ لإنتاج الأدوية.

وهذا أكده  “مدين دياب” مدير عام هيئة الاستثمار السورية بقوله إن «هيئة الاستثمار حريصة على تأمين كافة احتياجات المصانع من المواد الأولية المنتجة للأدوية محلياً عبر طرح مجموعة من الفرص الاستثمارية بالتنسيق مع وزارتي الصحة والصناعة».

التوزع الجغرافي للمعامل

وتوفر معامل الأدوية المحلية نحو 90 في المئة من حاجة السوق المحلي وفق مصادر وزارة الصحة من خلال 70 معملاً قيد الإنتاج والعمل، و تتوزع هذه المعامل في محافظات ريف دمشق وحلب وحمص وحماة وطرطوس واللاذقية.

وتنتج كل المستحضرات الطبية باستثناء أدوية السرطان، والهرمونات، إضافة إلى مستحضرات الحقن، والكريمات، والمعقمات، والكبسولات، والمحافظ، والأقراص، الملبسة، والمحاليل، والقطرات، والمعلقات الجافة و الأدوية السائلة، التي تعالج الأمراض المزمنة كالسكري، والضغط، والقلب، ومضادات الحساسية، والالتهابات، والكورتيزون، وأدوية التخدير، وغيرها.

لائحة الأدوية الوطنية

وأوضح مصدر في وزارة الصحة لموقع (الحل نت)، أن لائحة الأدوية الوطنية وزمرها حددتها وزارة الصحة وتشمل أكثر من ثلاث وعشرين زمرة من أبرزها: أدوية التخدير، المرخيات العضلية و مثبطات الكولين استراز، الأدوية القلبية الوعائية والمدرات، الهرمونات، الأدوية السرطانية ومثبطات المناعة، مضادات الانتان، المسكنات وخافضات الحرارة، مضادات باركنسون والاختلاج والصرع والتحسس، الأدوية النفسية، أدوية الدم والجهاز الهضمي والتنفسي والجلدية والنسائية، والفيتامينات والمعادن.

  صناعة للمواد الأولية

بالمقابل يعتبر الصيدلاني “خضر عدنان” المتخصص في التركيب الدوائي أن الصناعة الدوائية المحلية تندرج تحت عنوان الصناعة الصيدلانية، أي تحويل المادة الأولية إلى شكل صيدلاني ليتناوله المريض، ولا يوجد حتى الآن في سوريا توجه للدخول في مجال صناعة المواد الأولية رغم الأهمية القصوى لها في الصناعة الدوائية.

وأكد الصيدلاني عدنان لموقع (الحل نت) أنه لكي تصنّف أي دولة ضمن الدول المصنعة للدواء يجب أن يكون لديها صناعة تنتج عدداً من المواد الأولية الدوائية، عندئذ تدخل السوق الدوائية بقوة ولا تبقى أسيرة للشركات المصنعة للمواد الأولية،  هذا إضافة إلى إمكانية التصدير، فتصدير المواد الأولية أكثر رواجاً من تصدير الأدوية الجاهزة.

لعبة سوق!!

إلا إن تعدد مصانع الدواء في سوريا وتحضيرها لذات النوع منه، دخلت في عملية المضاربة السعرية، أي في لعبة السوق،  ليصبح الدواء سلعة يخضع للعرض والطلب وهذا ما انعكس على النوعية والفاعلية، ويقول الصيدلي “أسامة علي” من ريف دمشق إن  «معامل الدواء  أو الموزعون يعرضون علينا حسومات على سعر الدواء وذلك على شكل عروض تجارية، ويسمونها بونص (bonus ) أي مكافأة على المبيع، للتشجيع على استجرار أكبر كمية من الدواء، وتصل أحياناً العروض إلى ضعف الكمية من الدواء.

وهذا الأمر يثير الريبة في المادة الفعالة فيه، ويضيف أسامة : بأن هناك عروض أخرى يحصل عليها الصيدلي تسمى (عروض على الصافي) أي أن الحسم يكون على السعر مباشرة، وبالتالي فإن أسعار الأدوية المصنعة محليا تختلف أسعارها بين صيدلية وأخرى وبنسب متقاربة، بحسب علي.

استثمار في الشهادات

ويشهد  سوق الدواء في سوريا فوضى عارمة وبخاصة في ظل الأوضاع في سوريا، وأصبح يعد تجارة مربحة للكثير من المتطفلين على مهنة الصيدلة، حيث اعتبروها استثماراً ناجحاً من خلال تأجير الكثير من الصيادلة لشهاداتهم العلمية، والحصول على دخل ثابت دون العمل.

وفي هذا السياق أكدت الصيدلانية (رشا. م) أن الإجراءات القانونية لوزارة الصحة في قمع ظاهرة عمل أشخاص غير مؤهلين للعمل الصيدلاني ما تزال قاصرة، مشيرة إلى أن إغراء بيع الدواء وأرباحه الكبيرة وخاصة للدواء المهرب من الخارج، قد شجع على تطفل الكثير على هذه المهنة.

وكثير من الأطباء يكتبون على وصفة المريض ( يرجى من الصيدلي عدم تبديل الدواء) ويكون هذا الدواء مهرباً لذلك نلجأ للحصول على الدواء بطرق غير نظامية وتوفيره للمريض، بحسب الصيدلانية رشا.

في حين يقول أحد الصيادلة إنه يرفض التعامل بالأدوية الأجنبية المجهولة المصدر، لكن قراره خلق تبعات عليه، وأهمها أنه خسر الكثير من زبائنه.

على الأرض

وخلال جولة سريعة لموقع (الحل نت) واستطلاع آراء الناس حول توفر الدواء، الأغلبية اعتبروا أن الدواء غير متوفر بشكل منتظم ويتحكم به شركات التوزيع والصيادلة، و باتت تجارة مربحة لهم بعد ارتفاع أسعاره حوالي 200%.

ويقول الحاج “إسماعيل” من ريف دير الزور الذي يعاني من مشكلة جلدية إنه يستخدم دواء (ciproxal)  وكان يحضر علبة الدواء بداية العام الجاري 2000 ليرة سورية، بينما الآن قفز سعرها إلى حدود 5000 ليرة بعد رفع وزارة الصحة أسعار الأدوية.

بدورها تقول “أمل عبيد” وهي والدة لأربعة أطفال أن أسعار أدوية مسكنات الألم تجاوز سعرها أربعة أضعاف، فعلبة دواء الباراسيتمول الشراب أو التابلت كانت تشتريها بحدود 1200 ليرة، واليوم يتجاوز سعرها 2500 ليرة.

وأشارت أمل إلى أن والدها مرَّ بأزمة قلبية وكان بحاجة إلى دواء  “ماجيهارت magiheart” الذي يعطى في حالات الذبحة الصدرية، ولم يكن متوفرا في الصيدليات، حتى تم الحصول عليه تهريباً عن طريق لبنان.

من جانبها، أكدت أم سليمان أن جارتها امرأة مريضة سرطان دم في ريف حماة بحاجة لدواء اسمه (هيدريا) كانت تشتريه ولكن وضعها  لا يسمح لها بشرائه، فنشرت حاجتها للدواء عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي طالبة للمساعدة.

وفي ظل نقص الدواء في السوق السورية نشطت مجموعات التواصل الاجتماعي في المساعدة في تحقيق التواصل بين الناس لتوفير الدواء للمحتاجين من خلال تبادل المنشورات بين المرضى، وكان من أبرز هذه المجموعات على الفيس مجموعة اسمها (دواك مؤمن) وتضم أكثر من 700 ألف عضو ونشأت كخدمة إنسانية في توفير الدواء.

الدواء المهرب 

لم يغب الدواء المهرب عن السوق السورية، حيث الكثير من الأطباء يفضلون الدواء الأجنبي عن المحلي،  لعدم ثقتهم بالمادة الفعالة للدواء المحلي، ومع بداية الأزمة في سوريا، فقد نشط سوق الدواء المهرب من لبنان بعد إغلاق الكثير من المعامل، حيث معظم السائقين العاملين على خط النقل ما بين دمشق وبيروت ينشطون في تجارة الدواء المهرب.

ويقول السائق (عمر.ب) أن لديه زبائنه من الصيادلة معظمهم من دمشق وريفها، ويطلبون بشكل مستمر الأدوية ذات المنشأ الخارجي وأغلب هذه الأدوية ترتبط بالأمراض المزمنة كالسرطانات والأنسولين وقطرات العيون وغيرها.

إلا أنه لا بد من التنويه الى أن الدواء المهرب لا يأتي من لبنان إلى سوريا فقط بل يأتي من دول الجوار كالعراق والأردن وتركيا حيث يدخل عبر المناطق الشمالية الغربية وتدخل إلى مناطق سيطرة السلطات السورية عبر سيارات النقل الشاحنات أو أشخاص يمتهنون هذه المهنة، بعيدا عن عين الرقابة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.