ترتبط الهوية بمسائل عديدة، منها قديمة، ومنها حديثة. إن هوية الأفراد متعددة، ومن العبث تصنيمها بهويّةٍ واحدة، وهي تختلف من الزاوية الاجتماعية عن السياسية عن الاقتصادية مثلاً. وكذلك، حينما يصبح الفرد لاجئاً، فتضاف إليه هويات جديدة، باعتباره يقيم علاقات مجتمعية واسعة في البلد الجديد، ولديه طموحاتٍ سياسية وسواها، وبالتالي ليست هوية الفرد بسيطة، وهي متعدّدة بتعقد أعماله وثقافته ومسؤولياته.
الهوية ليست جامدة أيضاً، هي تتغير وفقاً لتغيّر الأعمار وللنوع، ويمكن أن تتشوّه كثيراً، وبالتالي ليس من اتفاقٍ حوله ماهيتها. أيضاً، هناك هويات دينية متغايرة، وكذلك عقائدية، وقومية، ولكل فئة مجتمعية أو سياسية هويتها. الهوية القومية، هي الهوية السياسية للشعب في العصر الحديث، ووفقها تتشكل الدولة الحديثة، ويؤدي تراجعها إلى تأزمٍ شديدٍ في المجتمع والسياسة وفي حياة الأفراد، حيث يقترن التراجع بتقدم الهويات الدينية المطيفة. في الدولة الحديثة، الهوية الدينية محصورة بالحقل الاجتماعي والفردي، ولكن وحينما تتشكل السلطة أو الدولة وفقها، فهي تكون دولة التمايز الديني والطائفي، دولة القرون الوسطى؛ فتنعدم المساواة والمواطنة، وتنتفي فيها أية أشكال لفصل الدين عن الدولة، وعادة ما تكون وصفة لحروبٍ طائفية، وتفكيك كافة بنى المجتمع الحديثة.
برز لدى السوريين، وبشكل كبير بعد 2011، مسألة التهجير واللجوء والهجرة الواسعة. تكثفت الهجرة في الأعوام الأخيرة بعد فقدان الأمل بوضعٍ أفضل وبزمنٍ قريب.وإذا كانت عودة اللاجئين من دول الجوار ممكنة حينما يتحقق الحل السياسي، حيث لا يحوزون على حقوقٍ مساوية لأبناء تلك الدول، فإن الأمر غيره في الدول الأوربية وسواها. إن معاناة اللاجئين من نزعات شعبوية عنصرية، ومحاولات إعادتهم إلى سورية، تقابلها وترفضها نزعات إنسانية أوربية مخالفة للأولى، وأغلبية اللاجئين ساعين إلى البقاء، والاندماج وعدم التمايز. الفكرة الأخيرة، قد تتخلف عنها مجموعات ليس بالقليلة، فتعيش العزلة والانزواء، ولكنها تحوز على حقوق المواطنة أيضاً. أكثرية اللاجئين السوريين سيندمجون، ويتبنون قيماً وأفكاراً وسياسات جديدة، ووفقاً للتعددية السياسية والثقافية والمجتمعية في دول اللجوء تلك، والسؤال هنا: هل يتخلى اللاجئون عن حياتهم السابقة، وهوياتهم القديمة، وينسلخون عن مشكلات بلادهم، ومجتمعاتهم القديمة؟
الحقيقة إن اللاجئين سينشغلون بشكل كبير بقضايا الاندماج، وسيطمحون إلى أعمالٍ ومسؤوليات تتناسب مع قدراتهم، وهذا يقتضي منهم الكثير، ليصبحوا محط ثقةٍ من المجتمع الجديد، وينافسون أبنائه في كافة الميادين، بما فيه الميدان السياسي. إن المجتمعات الأوربية قائمة على مبدأ المواطنة، والذي يعني المساواة الكاملة بين الأفراد، ومهما كان الدين أو القومية أو الجنس، وهذا يقتضي بالضرورة فصل الدين عن الدولة، أي القيام بإجراءاتٍ علمانية كثيرة، وهي تتبني النظام الديموقراطي. اللاجئون يتخوفون من أيّة قراراتٍ عنصرية جديدة، قد تهددهم بالعودة، وأغلبيتهم، وفي حال حصل الانتقال السياسي في سورية لن يعودوا، وربما يعود البعض فقط من أجل زيارة الأقارب وتسوية شؤون ممتلكاتهم وسوى ذلك.
ورغم الملاحظات أعلاه نسأل:هلْ انسلخ اللاجئون عن مجتمعاتهم وقضاياه؟ هل شطبوا هوياتهم السابقة؟ كما يتوهم البعض، وأصبحوا ألماناً أو فرنسيين وغيره؟ لا شك أن اللاجئ الطموح يتبنى هويات جديدة، وطموحه السياسي يتطلب منه أن يصبح عارفاً للحقوق والواجبات العامة، وملتزماً بها بشكل دقيق، حيث من غير الممكن أن تمتلك طموحاً سياسًياً، كما حدث مع بعض السوريين الذين فازوا بالانتخابات النيابية الأخيرة في ألمانيا، دون معرفة دقيقة لما ذكرنا. ولكن هل هم نجحوا، وسواهم، وفي مجالات متعددة،علمية وثقافية وطبية، لأنهم انسلخوا عن أبناء جلدتهم؟
لا يمكن للمرء أن ينسلخ خلال عدة سنوات، وكثير من الأجيال الرابعة للاجئين من المغرب العربي خاصة، نراهم يتشبثون بهوياتهم التاريخية، ويحاولون التعرف عليها، ويتابعون حياتهم في المجتمعات التي ولدوا فيها، ولن نتكلم عن اللوبيات التي تتشكل في الدول العظمى، ويكون ولاؤها لدولها الأصلية! وعدا كل ذلك، فهناك الدفاع عن القضايا العادلة في الغرب، كقضية فلسطين مثلاً، حيث تتبناها أهم الشخصيات الثقافية في العالم، وبالطبع يحمل أغلبية الفلسطينيين قضيتهم في كل دول العالم. القضية السورية أيضاً، قضية مظلومية كبيرة، ولا يمكن لأيّة شخصية مثقفة ووازنة عدم التضامن مع شعبٍ أغلبيته تعيش بين لجوءٍ ونزوح واعتقال وعطب وموت.
السوريون الطامحون إلى مناصبٍ سياسة في هذا البلد الأوربي أو ذاك، لا يمكن أن يتجاهلوا قضية بلادهم، والدفاع عن الأغلبية السورية في الداخل والخارج، وعن حق السوريين بالانتقال السياسي. بعض ممن انتُخب في البرلماني الاتحادي أو المحلي مؤخراً في ألمانيا كان ناشطاً سياساً لأمدٍ قريب، وبعضهم كان منشغلاً بالمواءمة بين الديمقراطية و الإسلام، وربما آخرون منشغلون بمسائل خاصة بالمشكلات الألمانية.
قصدت أن البشرية، ومنذ عقودٍ أصبحت تتحرك في إطار نظامٍ عالمي رأسمالي معولم، وتتبنى في المستوى السياسي هويات متعددة؛ محلية وقومية، وعالمية، وغيرها كثير. الرؤية المحدودة والقاصرة هي التي ترى أن السوريين في الخارج، ينجحون لأنهم انسلخوا عن مجتمعاتهم، وأصبحوا ألماناً، أو فرنسيين. إن الديموقراطيات الأوربية ليست منشغلة فقط بقضايا مجتمعاتها، ونقاشات برلماناتها تتداول بشكل كبير مشكلات اللاجئين، وهناك مواقف عنصرية أو إنسانية، ولكن الأكيد أن من يعرف بدقة أوضاع البلدان العربية كسورية أو فلسطين أو اليمن أو ليبيا، سيبادر للدفاع عن حقوق شعوبها المظلومة.
ما حدث في سورية ومنذ 2011، يدفع السوريين في الداخل والخارج، ومن اندمج بالبلدان الأوربية إلى عدم شطب هوياتهم، وهذا غير ممكنٍ أصلاً؛ فهناك حياة كاملة عاشها ببلده، وهناك أهل بلاده. إضافة لذلك، إن حيازة الأفراد وعياً متقدماً ستدفعهم إلى تبني قضايا مجتمعاهم وبالضد من مختلف أشكال الاستبداد والتخلف والطائفية.
إن الهوية لا تشكلها الأنظمة المستبدة ولا تذهب ممارساتها العنفية أو التمييزية بها، بل تتشكل في إطار المجتمع والتاريخ وحاجات التطور والنهوض. إن الأنظمة تشوّه الهوية بأيديولوجيتها وممارساتها التمييزية، بينما الوعي “المثقف”، يساهم في تشكيل هوية المجتمع والأفراد،وبشكل إيجابي وبعيداً عن التعصب والمحدودية والضيق ويربط الماضي بالحاضر انطلاقاً من حاجات الحاضر؛ إنه يساهم في تشكيل هوية متعالية عن الهويات القديمة؛ وإنهاض المجتمع وتلبية حاجات الأغلبية، ومهما تعددت قوميات هذا المجتمع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.