بعد عشر سنوات على انطلاق ثورات “الربيع العربي”، يبدو المشهد اليوم أبعد ما يكون عن الأهداف المنشودة لتلك الهبات والتحركات الشعبية التي انطلقت من تونس ثم انتقلت سريعا إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن والعراق ولبنان والجزائر وغيرها من البلدان العربية، ما أصاب جميع الأنظمة بالذعر من ان تسقط الواحدة تلو الأخرى، على نحو سلس إلى حد ما، كما حصل في تونس ومصر، أو بشكل دموي كما جرى في ليبيا.
الوصفة المشتركة التي جربتها جميع الأنظمة حينما وصلت التحركات الشعبية، إلى درجة من الخطورة، هي محاولة شيطنة تلك التحركات وربطها بالتخريب والإرهاب والعمالة للخارج، ومن ثم زج الجيش في مواجهتها، بهدف إجبارها على التسلح، ليتحول الأمر إلى صراع عسكري بين قوة “شرعية” هي جيش النظام وأجهزته الأمنية، وفصائل مسلحة ممولة من الخارج وتقع تحت شبهة الإرهاب والتطرف، ما يخلق صعوبة في حصولها على دعم خارجي، لأن الخيار أمام الغرب (الذي تعول عليه جميع الأنظمة في علاقاتها الخارجية) هو الاختيار بين السيئ أي الأنظمة، والأسوأ وهي التنظيمات المتشددة.
والحاصل، أن مجمل ثورات الربيع العربي تحولت إلى مواجهات عسكرية أو سياسية، ودخلت المنطقة في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار والصراعات الطائفية والعشائرية والعرقية، بعد أن كانت في البدء ثورات تطالب بالديمقراطية والعدالة.
لم تحقق الديمقراطية ولم ترس أسس الانتقال السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، باستثناء تونس، التي تدفع أثمانا باهظة جراء تدخلات خارجية تستهدف إجهاض التجربة الوحيدة التي اقتربت ثورتها من تحقيق أهدافها.
وبعد عقد كامل من هذه الصراعات، تبدو الأنظمة قد نجحت في إجهاض أقوى موجة تغيير سياسي عرفتها المنطقة منذ عقود، وبتنا اليوم أمام خرابٍ شامل وفوضى عارمة في واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم، حيث نشهد دفن مصالح وآمال جيل من الشباب راودتهم أحلام التغيير، ووضع مجتمعاتهم على سكة الحضارة الحديثة بمفرداتها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية.
ولا يهون من الأمر بعض التغيير الذي حصل هنا أو هناك، حيث باتت حتى الثورة اليتيمة التي راهن عليها الجميع في تونس، تترنح تحت ضربات قوى الثورة المضادة، بينما اختطف العسكر الهبة الشعبية في السودان، ولم تتمكن الاحتجاجات الشعبية في العراق من ترجمة مطالبها إلى وقائع ملموسة على الأرض، وكذا الحال في لبنان والجزائر. أما سوريا، فإنها تسجل المثل الأبرز على فشل ثورات الربيع العربي، حيث انقلبت وبالا على الناس، وبقي النظام ومعه الجيوش والميليشيات الأجنبية، متربعين على أنقاض البلاد.
والواقع ان الحكم الديمقراطي، أي كنظام سياسي يقوم على التعددية، والحريات الفردية والعامة، والانتخابات، واستقلالية القضاء.. الخ مفهوم مستجد في المنطقة إلى حد ما، حتى على صعيد الوعي والإدراك المجتمعي، فضلا عن الممارسة العملية التي ما زالت بعيدة عن متناول مجمل المجتمعات المشرقية وأنظمتها السياسية المختلفة في شكلها بين جمهورية وملكية، والمتشابهة في مضمونها، كأنظمة شمولية، عسكرية، عائلية أو قبلية، تفتقر إلى الكفاءة وينخر فيها الفساد.
طبعا، لا نغفل هنا أن العديد من دول المنطقة عرفت منذ مطلع القرن الماضي أشكالا من الممارسات الديمقراطية، حتى في ظل الاحتلالات الأجنبية، وهي تجارب استمرت إلى ما بعد الاستقلال كما في سوريا ومصر، لكنها قطعت وتم وأدها بفعل الانقلابات العسكرية، ومن ثم سيطرة الحزب الواحد الذي تكرست معه ثقافة الاستبداد ومفرداته، وتراجعت قيم الديمقراطية، وقبول الآخر.
اليوم، وبعد عقد من ثورات الربيع العربي، تبدو المجتمعات العربية في حالة كمون وترقب وقلق، نتيجة الضربات التي وجهتها قوى “الثورة المضادة” للتحركات والهبات الشعبية المطالبة بالحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة، حتى ان الكثير من المواطنين باتوا أقل حماسة لأية تغييرات سريعة في مجتمعاتهم، وربما باتوا يفضلون حصول إصلاحات سياسية متدرجة في ظل النظام القائم، بدل المضي نحو الفوضى والحرب الأهلية، أو المجهول في أحسن الحالات، مستخلصين “العبر” من تجارب التغيير الدموية في سوريا وليبيا واليمن، وهو ما تعمل على تكريسه الآلة الإعلامية السلطوية والتي تحرك معظمها القوى الممانعة والمتربصة بالتغيير المنشود.
وما يلاحظ نتيجة لذلك انه باتت هناك حماسة أقل في الشارع العربي للاحتجاجات الشعبية في الشارع، مقابل ارتفاع في مستوى الاحتجاج على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي مساحة لم تستطع الأنظمة السيطرة عليها تماما حتى الآن، لكنها تحاول استخدامها بدورها من أجل بث ثقافة جديدة، لتكرس الوضع القائم بوصفه أفضل الخيارات، حتى انتقلت هذه الثقافة إلى النخب نفسها التي بات بعضها يردد مقولات مثل أن المجتمعات المحلية غير جاهزة للديمقراطية في الوقت الراهن بسبب قلة التعليم، وهيمنة رواسب الماضي، وأن المطلوب ليس تغييرات راديكالية سريعة، بل حاكم عادل ( المستبد العادل) يشرف على تطوير الدولة سياسيا واجتماعيا كي تصبح مؤهلة لتقبل نظام ديمقراطي، كما حدث في سنغافورة وكمبوديا والهند.
وتسعى القوى الحاكمة اليوم في المنطقة إلى تكريس نفسها كخيار “عقلاني” وأن الخيارات الأخرى مجرد مؤامرات أو مغامرات متهورة، دون أن يكون لديها استعداد حقيقي لرعاية عملية تحديث وتطوير متدرجة لأنظمتها السياسية، بل الاكتفاء بالتركيز على بعض المظاهر الخارجية للديمقراطية، مع مواصلة سيطرة أفراد أو فئات قليلة على السلطة والثروة، وممارسة القمع متعدد الأشكال بحق المعارضين لها.
ومن هنا، فان المنطقة لم تشهد حتى الآن، بما في ذلك خلال مرحلة ثورات الربيع العربي، أي تداول للسلطة خارج إطار التوريث والانقلابات، باستثناء تونس، حيث أدرك حزب النهضة الإسلامي بقيادة راشد الغنوشي أن الاستئثار بالسلطة، وإقصاء الآخرين، سيكون وصفة للفشل، كما حدث في مصر بعد الإطاحة بنظام حسني مبارك.
وفضلا عن ذلك، فان ضعف ثقافة الديمقراطية في المنطقة هي حقيقة واقعة، يتشارك فيها الحاكم والمحكوم معا، وكلاهما يركن إلى وهم امتلاك الحق والحقيقة المطلقة، وهذا ينطبق على مجمل التلاوين الفكرية والثقافية السائدة، الإسلامية، الليبرالية، القومية، اليسارية.. الخ.
وهذه الثقافة الأحادية- الاقصائية مصدرها قرون من التسلط حاولت خلالها القوى الحاكمة تسخير النص الديني لمحاصرة العقل العربي و تأطيره في نطاق ضيق يقوم على الولاء والطاعة، وتكريس صورة الحاكم ليس كموظف عام، بل كولي أمر ونعمة، طاعته واجبة.
وفي القرن الماضي أسهمت عوامل عدة في تكريس وديمومة نمط الحاكم المستبد، منها العامل الخارجي، حيث لم تساند الدول الغربية بوصفها النموذج والحامي للنظام الديمقراطي العالمي، كما تقدم نفسها، أية تحولات أو تغييرات سياسية في العالم العربي باتجاه الديمقراطية، بل على العكس تحالفت مع الأنظمة الاستبدادية القائمة بهدف تأمين مصالحها، دون أن تأبه بانتهاكات هذه الأنظمة بحق شعوبها. كما أن الثروة النفطية كان لها تأثير سلبي على المسار الديمقراطي، لأن الأنظمة وضعت يدها على هذه الثروات وتقاسمتها مع حاميها الأجنبي، لتستقوي بها على شعوبها على حساب التطور الطبيعي للمجتمع المدني. وجاء الصراع مع إسرائيل، وما فرضه من عسكرة وشعارات تتصل بالمواجهة، ليسهم في عسكرة العقلية العربية، وفي تقديم شعارات المواجهة والصراع، على ضرورات البناء الداخلي، والتطور السياسي.
واليوم، فان محاولة تحديث الديكتاتورية وتجميلها بحجة أنها البديل العقلاني عن مغامرة التغيير، لن تنجح على الأغلب، لأن مجتمعات المنطقة التي عرفت عن كثب خلال السنوات العشر الماضية مدى فظاعة أنظمتها الحاكمة، واستعدادها لتدمير بلادها عن بكرة أبيها، مقابل التمسك بالسلطة، أيقنت أنه لا مناص من التخلص من هذه الأنظمة، التي وان كانت استخدمت كل ما بحوزتها من أدوات قمع لإحباط تحركات شعوبها، فإن ما جرى كشف أيضا مدى هشاشة هذه الأنظمة، وأجبرها على القبول ببعض التغييرات ولو كانت شكلية، مثل وجود أحزاب معارضة، وإعلام آخر، غير تابع للنظام، وهي تغييرات أسهمت فيها أيضا التكنولوجيا الحديثة التي مكنت من تدفق المعلومات بالغصب من رقابة الأنظمة، وبالتالي تمكين المواطنين العرب من سماع الرأي الآخر، وكسر النمطية الأحادية للنظام الدكتاتوري التي كانت سائدة في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
والنتيجة التي وصل إليها الربيع العربي لا يمكن اعتبارها نهائية، ويجب النظر إليها كمحطة مهمة في سلسلة طويلة من التحولات السياسية، على غرار الثورات التي شهدتها سابقا مناطق شتى من العالم والتي سلكت مسيرتها منحنيات كثيرة، لكنها ظلت تحافظ على جذوتها، طالما الأسباب التي أدت لهذه الثورات ما تزال قائمة، وهو ما يجعل اندلاع موجة أخرى من الثورات في المنطقة أمر وارد جدا، مع صعوبة توقع وقت حصول ذلك.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.