“على البركة” وبدون أي حسابات… عقبات كثيرة أمام استثمار السوريين في أوروبا

“على البركة” وبدون أي حسابات… عقبات كثيرة أمام استثمار السوريين في أوروبا

منذ العام 2011 لم تكن أوروبا الخيار الرئيسي الأول لمجتمع الأعمال السوري، رغم كونها سوقا مهما لمختلف المنتجات التقليدية السورية، لاسيما النسيجية والغذائية، ولكن بعد العام 2015 ومع التدفق الكبير للاجئين السوريين نحو “القارة العجوز”، وجد بعض رجال الأعمال السوريين خيارا آخر بديلا يتمثل في تسويق المنتجات السورية ضمن البلدان الأوروبية.

من باب “تخفيف آلام الغربة”، استطاع سوريون نقل مأكولاتهم وصناعاتهم الغذائية المتميزة بنكهتها وطريقة إعدادها إلى مصر وتركيا وغيرها من الدول القريبة من سوريا، لكنهم في نفس الوقت لم يتمكنوا من ترك بصمة خاصة لهم في السوق الأوروبية، المشبعة بخيارات أغزر من المنتجات، ومنها المنتجات التركية واللبنانية.

فأمام الاستثمار في أوروبا عقبات كثيرة، أولها استخراج التراخيص اللازمة لتشغيل أي مشروع، بما في ذلك المشروعات ذات الحجم الصغير أو المتوسط، التي يفضلها السوريون بشدة.

كثرة الاشتراطات، التي لم يعتد السوريون عليها في بلدهم والبلدان المحيطة به، دفعت بعضهم لتفضيل خيار العمل “في الظل”، بكل ما في هذا “الظل” من عوامل مخاطرة وعدم استقرار، وقد رافق ذلك ضعف أو غياب للخطة التسويقية، وتذبذب في تصريف المنتجات، لاسيما مع اعتماد أسلوب النشاط الفردي المؤسس على قاعدة الربح السريع، دون شديد اكتراث بوضع خطط وأهداف بعيدة المدى.

هذا فيما يخص المشروعات الصغيرة، لاسيما ذات الطابع الفردي، أما الشركات فإن أغلبها شركات مساهمة لا تحمل أسماء رجال أعمال، وإنما شركاء متضامنين، باستثناء بعض العلامات الفارقة.

استثمارات تقليدية

ولالقاء مزيد من الضوء على واقع المشروعات السورية في أوروبا، اخترنا أخذ النشاط السوري في فرنسا كنموذج، حيث يرى الباحث والخبير الاقتصادي، يونس الكريم، أن أغلب المشروعات السورية في فرنسا يتم التعامل معها بأسلوب المقاربة أو المغامرة، بدلا عن دراسة الجدوى الاقتصادية، ومن هنا تقع كثير من هذه المشروعات في الخسارة وتحصد الفشل، على خلاف النجاح الذي تتمتع به مثيلتها من المشروعات اللبنانية أو التركية.

الكريم في حديثه لـ”الحل نت”، أشار إلى نقطة ارتفاع كلف التشغيل مقارنة بالأرباح، فالبيئة الضريبية في أوروبا مختلفة تماما عن سوريا وجوارها، وهذا العبء الضريبي المرتفع، أغرى –وللأسف- بعض أصحاب المطاعم أو مالكي المشروعات الغذائية لخفض الجودة.

والأهم بحسب الكريم أن الاستثمارات السورية في معظمها استثمارات تقليدية، تدفع للضرائب نحو 45 بالمئة من الأرباح، فضلا عن غلبة النشاط الفردي وغياب أي تكتلات لرجال أعمال أو مستثمرين سوريين، يمكن أن تشجع بعض الحكومات الأوربية لمنح مزايا أو تسهيلات وإعفاءات ضريبية تفضيلية، أو حتى تيسر عملية إدخال أموال السوريين من خارج الاتحاد الأوروبي.

ووفق رأي الكريم، فإن السوق الأوروبية لا تعد سوقا ضخمة لتصريف المنتجات السورية أو تشغيل الأموال، مقارنة بأسواق بلدان مثل تركيا أو مصر، حيث الربحية الأعلى والاشتراطات الأقل.

واستدل الباحث الاقتصادي بقطاع المطاعم، متحدثاً عما سماه غياب العلامة الفارقة للمنتجات السورية أمام المأكولات اللبنانية، فالمطاعم السورية هنا لم تقدم نكهتها الخاصة ولم تستطع استقطاب ذلك القدر من الزبائن الفرنسيين.

وقد زاد من حدة مغامرة الاستثمار السوري هنا، الافتقار إلى المعرفة ببيئة الأعمال الفرنسية، وهذه المعرفة الضئيلة قللت فرص الحصول على تسهيلات أو قروض، من شأنها التخفيف من وطأة الضرائب المرتفعة.

ويبقى هنا عامل آخر مهم، يسميه الكريم غياب الولاء للمنتج السوري والتضامن معه، وهو على ما يبدو انعكاس لنوع من الخلافات السورية-السورية التي نقله البعض إلى أوروبا، ما شكل عائقا أمام العمل الجماعي.

دراسة السوق

أغلب المشروعات السورية في أوروبا، سواء الصغيرة أو متناهية الصغر، لاتقوم على أساس دراسة الجدوى الاقتصادية وإنما “على البركة”، بدون أي حسابات مالية أو ضريبية، ولعل القسم الأكبر من أصحاب هذه المشروعات لم يسبق لهم إدارة مشروع مطعم أو محل تجاري.

ومعظم هذه المشروعات قائم بالأساس وفق نموذج شركة الشخص الواحد (بدون موظفين)، التي يعتقد السوريون أنها الأسهل والأقل ترتيبا للأعباء على مشروعاتهم، ولكن الواقع يشهد أن الحسابات العملية مختلفة بدرجة كبيرة عن تلك النظرية.

فمهما كان المشروع صغيرا، فإنه يتطلب من صاحبه تخصيص أغلب نهاره لمتابعة شؤونه، ومع ذلك غالبا ما يفاجأ بعجزه عن توفير عائد يضمن تغطية تكاليف التشغيل والضرائب، ليجد نفسه أمام نزيف مالي وسلسلة خسائر، قد تسرع قراره بإغلاق مشروعه كليا، علما أن أي مشروع يحتاج أكثر من عامين للدخول في مرحلة تحقيق الأرباح، ولكن قلة صبر الكثيرين وعدم تحمله ضغوط العمل وما يترتب على مشروعه من ضرائب، غالبا ما تسدد ضربة مبكرة لاستثماراتهم وتدفعهم لرفع الراية البيضاء، ولكن بعد أن يكونوا قد تكبدوا خسائر مالية، ربما تمثل كل أو معظم ما ادخروه سابقا.

عدنان علي، إعلامي سوري وصاحب مطعم في فرنسا، يروي لـ “الحل نت” طرفاً من قصته، التي تصلح أن تكون قصة فئة عريضة من السوريين في أوروبا.

يقول عدنان علي: «لم استطع ممارسة عملي في الإعلام داخل فرنسا لأني لم انقطع عن ممارسة العمل الإعلامي خارج فرنسا، لكن السلطات هنا لا تعترف بالعمل خارج البلاد فلا تستطيع التقدم للجنسية مثلا بناء عليه أو اخذ قرض من البنك، ولذا كانت لي تجربة افتتاح مطعم في الربع الأخير من عام 2019، وكان هذا أول عمل أقوم به خارج العمل الصحفي منذ 35 عاما، لتأمين المعيشة، لكن التجربة لم تكلل بالنجاح، لقلة خبرتي في هذا المجال من جهة، وعدم دراسة السوق بشكل جيد من جهة أخرى، إضافة لوجود صعوبات في تسديد الضرائب والمدفوعات المالية وأجور العمال، وغيرها من مصاريف أخرى نثرية كثيرة تجعل الاستمرارية صعبة للغاية».

ويعتقد علي أنه وقبل إطلاق أي مشروع يجب التعرف على قوانين السوق والتجارة في فرنسا، فافتتاح مطعم أو أي مشروع تجاري يتطلب تأسيس شركة.

ويشير في حديثه إلى أن افتتاح مطعمه تزامن مع فترة فرض الحظر والإغلاق بسبب انتشار “كورونا” في فرنسا، وعليه لم يستفد من التعويض الذي قدمته الحكومة للمتضررين، لان افتتاح المطعم كان بفارق يوم واحد فقط عن التاريخ المحدد لأولئك الذين يستحقون التعويض، ورغم رفع الإغلاق عن قطاع المطاعم لاحقا، فقد جاءت الخطوة متأخرة بالنسبة لـ علي الذي كان حينها قد فقد القدرة على الاستمرار بالعمل، بعد 9 أشهر من الخسائر.

ومع ذلك، يرى أن التجربة منحته فرصة للاطلاع على أحوال السوق وتفاصيل البيع والشراء، وكذلك إجراءات تأسيس الشركات.

فشلت أمام امتحان الجودة والسلامة الغذائية

انقسام رجال الأعمال السوريين بين مؤيد ومعارض للحكومة السورية، عمق الرغبة في العمل الفردي أمام العمل الجماعي، فحتى اليوم لا توجد جهة واحدة تجمع شمل السوريين في أوروبا، بهدف تطوير المشروعات وتبادل الخبرات.

أما الاشتراطات فلها حديث آخر، فلكي يتمكن المستثمر من افتتاح مطعم أو مركز لبيع المنتجات الغذائية، عليه أن يحقق مجموعة من الشروط فيما يتعلق بالنظافة وصلاحية الأطعمة وكيفية تخزينها، وكذلك طريقة التقديم ومدى التزام المطعم بمعايير الصحة والسلامة المنصوص عليها.

وفي هذا السياق، يوضح رجل أعمال سوري مقيم في أوروبا لـ “الحل نت”، أن هناك من أنشأ في سوريا (ضمن المناطق الشمال الغربي من سوريا) شركات على عجل، وظيفتها تصدير منتجات سورية إلى أوروبا، لكن تلك الشركات فشلت أمام امتحان الجودة والسلامة الغذائية، لا بل إن بعض المنتجات المعروفة، تم إرجاعها أو سحبها من الأسواق، نظرا لمخالفتها أنظمة السلامة الغذائية.

ولكن في الجانب الآخر، يشير “رجل الأعمال”، الذي فضل عدم ذكر اسمه، إلى وجود شركات مساهمة كبيرة تقوم بإنتاج المواد الغذائية في تركيا وتوزيعها في دول الاتحاد الأوروبي، وإلى قيام عدد لا بأس به من هذه الشركات بتوسيع أعماله وافتتاح فروع في أوروبا، وهناك كذلك توسع في قطاع المخابز والأفران التي باتت تنافس الخبز اللبناني.

ويذكّر أن كلامه يخص المشروعات الصغيرة أو الفردية، أما الشركات الكبرى فمعظمها شركات مساهمة لا تحمل أسماء رجال أعمال وإنما شركاء يتقاسمون الأرباح، باستثناء علامة “الدرة” لصاحبها عدنان النن.

وبين المشروعات الصغيرة والشركات الكبيرة، وجد عدد ملحوظ من السوريين طريقه للعمل في حقل “اقتصاد الظل ” أو “الاقتصاد الأسود”، في أسلوب معروف للالتفاف على الضرائب وتجنب دفعها، ولكن هذا النشاط غير القانوني وفق التصنيفات الأوروبية يبقى نشاطا غير قابل للقياس أو خاضع للإحصاء، لأنه في النهاية نشاط يتم في الخفاء، ولا سبيل للدولة ولا لأجهزتها في تعقبه وتقدير حجمه الحقيقي.

وعلى نفس المنوال، يشق على الباحثين والإعلاميين الحصول على أي تقديرات منصفة لحجم التبادل التجاري بين دول الاتحاد الأوروبي وسوريا، نظرا لصعوبة رصد الأماكن التي تجري فيها أنشطة الأفراد والشركات، رغم أن المواد الغذائية السورية منتشرة بكثرة في مختلف المدن الأوروبية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.