استخدم النظام السوري الطائفية و التطييف الواسع كأداة سياسية أثناء الثورة والحرب لاحقاً. هو نظام استبدادي يقوم على حكم العائلة، وبعض الشخصيات المختارة بدقة من قبل الحاكم، ويمكن أن تكون من كل الطوائف. واستخدام الطائفية ليس جديداً، ولكن بعد 2011 أصبح أكثر تبلورا وكثافة . ضمن ذلك، ومن أجل تعزيز تلك الطائفية في المجتمع والدولة، عمل على أن تكون أغلبية قيادات الجيش والأمن من طائفة الحاكم، بينما في المجالات الأخرى يمكن أن يكونوا من طوائف أخرى.
قاس النظام الثورة في 2011 على مقاس أحداث والحرب ذات الصبغة الطائفية 1980، ووجد أن الخلاص منها يكمن بتطييفها، وبمزيدٍ من التطييف في أوساط الجيش والأجهزة الأمنية، وعسكرتها بالتأكيد. بالضفة المقابلة تناسلت تدرجياً القوى الإسلامية الطائفية، وأكملت دور النظام في تشويه الثورة والحراك الشعبي، ودُفعت الأوضاع نحو حرب بصبغة طائفية، وجُلب الخارج ليعبث بمستقبل سورية؛ بدأ النظام ذلك، وأكملته المعارضة المكرسة والمسيطرة.
عدا كل ما ذكرنا، نعم هناك إشكالٌ طائفيٌّ كبير في سورية، ويتعلق بشعور الأغلبية الدينية، أي السنة، بأن الحكم يجب أن يكون لها، وقام النظام المستبد ومنذ السبعينيات بتهميش مراكز القوة “السنيّة” واستبدلها بشخصيات ممالئة له ومتوافقة مع مشروعه، ولن نسهب في أن سياسة التأميم والإصلاح الزراعي، والتي استفادت منها قطاعات شعبية كبيرة، “طفشت” البرجوازية “السنية”. في حرب الثمانينيات التصقت تلك الشخصيات به، وكافأها بطرق شتى، وتعمق الإشكال الطائفي، والنظام لم يتصالح مع الشعب بعد ذلك العقد، والتي وإن لم تكن حرب سنّةٍ ضد علويين، بل حرباً بين قوى طائفية مناهضة للنظام وبين نظام يستخدم الطائفية لتعزيز سلطته العائلية بالدرجة الأولى، وضمن ذلك تتشكل مافيات الفساد والنهب والأموال وتتشوه “تتسمّم” الحياة بكل أشكالها.
إذاً الحياة السورية وليس السياسية فقط ملوثة بالطائفية، ووعي الأفراد ينطلق بصورته العامة من المنظار الديني أو الطائفي! وهناك أشكال أخرى في الوعي ولكنها غير مهيمنة، كالوعي الوطني والقومي والمناطقي والعلماني واليساري والقومي، وسواه. هذا التلوث المفروض، المفروض بقوة الاستبداد والافقار، هدفه تهميش حقوق الشعب ومصالحه وإضعاف الاندماج المجتمعي، وبالتالي وبعد أن أدارت الدولة ظهرها للشعب، ذهب الأخير نحو التديّن والتطييف للشعور بالقوة والهوية والملجأ والأمان. ذلك الذهاب، ليس نهاية المطاف، وليس من وعيٍّ ثابت وخالد، بل هو متعدد، وقابل للتغيير، سلباً أم ايجاباً أو خليطاً من الأمرين معاً. جاءت الثورة بسياقٍ ثورات شعوب المنطقة وربيعها، وضمن أفكار وأهداف تتعلق بالحقوق العامة، وبالانتقال الديموقراطي والعدالة الاجتماعية والحريات العامة ومنها الدينية بالطبع، ولم تكن إسلامية أو بقصد بناء نظام إسلامي. هذا الأمر راقبه السوريون بالبداية، وكانت السمة الغالبة للثورة “وطنية”، أي لم تقم بها طائفة وضد طوائف أخرى، بل وحَدّدت في مرحلتها الأولى أنها ضد شخصيات بعينها، القصد أنها كانت تفصل بين طائفة الأفراد ، وبين دورهم الكارثي في الافقار والقمع والنهب وغياب الحقوق، وكذلك طيٍّ أثار الثمانينات “الطائفية”.
التديّن لم يكن طائفيّاً أصيلاً في سورية ولا هو يساوي الطائفية، ولم يكن عائقاً أمام تبني الأهداف السابقة الذكر. كل ذلك رفضته قطاعات من المعارضة وتنويعات الجهاديين والسلفيين لاحقاً، وكذلك رفضه النظام وعمل من أجل جعلها ثورة إسلامية، ولكتلة محدّدة من هذه الطائفة، حيث أغلبية سورية منها، وانقسمت بين كتلة ضد النظام وكتلة معه “سَمِها، صامتة، رمادية، مغلوب على أمرها، مؤيدة له وسواها” الأخيرة لم يثق بها النظام، ولا يستطيع تبني أفكارها ورؤيتها من أصله، فهو استبداديٌّ، ومشكوك بصفته الدينية وطائفيته لا علاقة لها بالإسلام والسنة وحتى لا علاقة لها بالطائفة العلوية، وهناك التدخل الإيراني الكبير، والمؤثر على بنية السلطة بعد 2011، حيث أصبح هو الفاعل الأول في توجهاتها السياسية والعسكرية وسواه.
النظام الذي توسل الطائفية والتطييف لحرف الثورة، لم يقبل عدم الانخراط الواسع من “سنُته” في حربه، وكان نفاق مشايخه السُنّة أكثر من بادٍ له، وبالتالي اندفع نحو إحكام السيطرة على المجال الديني العام، وتحديداً السني. رؤية النظام تنطلق من زاوية ضيقة، فمن لا يصطف معه، ليس وطنياً وليس مسلماً وليس مؤمناً؛ إن غياب شخصيات سنية قوية وفاعلة، وقادرة على مواجهة النظام، وهناك الموقف الإيراني الكامل إلى جانبه، دفعه إلى خطوته الأخيرة، بإلغاء منصب الإفتاء وجعله من نصيب “المجلس الفقهي العلمي”.
الآن هناك نقاشات واسعة عن خطورة ذلك الإلغاء على الهوية السورية وتحكم الإيرانيون بأوقاف أهل السنة في سورية، وهذا النقاش وإن كانت تشوبه الكثير من الرؤى الدينية أو الطائفية، فإن الموضوعية يجب أن تكون منتهاه، وهذا أمر معقد للغاية مع تعقيدات الوضع السياسي والديني.
الأكيد أن الهوية الدينية لا تتغير بسهولة، وليس منصب المفتي من يثبتها أو يلغيها بإلغائه، وانتخاب الشيخ أسامة الرفاعي لمنصب المفتي العام للجمهورية العربية السورية لن يثبت الهوية تلك، الإسلامية. إن الهوية ليست أمراً ثابتاً، وهناك تغييرات كبرى متعلقة بالهوية، لننظر إلى خمسة عقود خلت مثلاً، ولننظر الى سورية الآن، المقصد هنا إن إلحاق النظام للمنصب بالمجلس الفقهي، ربما يستهدف إرضاء كل من إيران وروسيا، حيث ترفض الدولتان أن تظل الأكثرية سنية في سورية أو أن تظل للمؤسسات الدينية السنية فاعلية كبرى في سورية، وبالوقت ذاته إشراك غير السنة بذلك المجلس يعد تهميشاً للسنة، ورفعاً من قيمة تلك الطوائف ومنها الشيعة. إن منظور النظام هذا، أحدث تطييفاً واسعاً لدى السوريين، ولهذا سارع المجلس الإسلامي السوري ومجموعة مشايخ معارضين للنظام إلى انتخاب أسامة الرفاعي مفتياً عاماً للجمهورية.
خطوة الانتخاب هذه، يرى البعض إنها إيجابية، وضربة لمساعي النظام إلى تغيير الهوية. إن الهوية السورية تتعرض لمشكلات كبرى، وانتخاب الشيخ أسامة لن يوقف ذلك، وهو زاد الطين بلّة، حيث كان النظام يبحث عن تحريف لأزمته الاقتصادية والاجتماعية العنيفة، ووجد أحد مداخل تشويهها الآن بذلك الإلغاء، وبالتالي الدخول في معركته تلك، ليس عملاً صائباً، سيما انه سيعني، والشيخ أسامة يقدم نفسه من الثورة، سيعني أن الثورة كانت سنيّة منذ البداية! من سيستفيد من ذلك الآن؟ ما هي فائدة ذلك من أصله، ألم يكن حريّاً البحث عن شيخٍ وازنٍ كأسامة، ولكنه بعيد عن السياسة. لو فعلت مشايخ سورية ذلك لما استطاع النظام استغلال ذلك، وسيستغله، بعد خطوة أسامة، بالتأكيد لحشد جمهوره طائفياً، وأيضاً، وما دام المنصب سياسياً، واعتبارياً، وهو الآن بلا فائدة تذكر، ألم يكن الأفضل عدم المسارعة بالقيام به.
إن “انتخاب” الشيخ الرفاعي سيعطي مؤشراً سلبيّاً للسوريين من غير السنة، ولن تكون له فائدة تذكر للسنة من ناحية أخرى، ولن يزيدهم تماسكاً؛ لنلاحظ أوضاع السنّة في مناطق التدخل التركي أو تحت سيطرة هيئة تحرير الشام. الأوضاع التي تتحدث عن انقسامات وصراعات ومعارك وظلم كبير للناس هناك “السنة”؛ الأوضاع الأخيرة هي ما يجب التفكير فيها مليّاً ولا سيما وأنّه صار للمعارضة مفتيّاً.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.