تشهد الأشهر الأخيرة حراكات إقليمية ومصالحات وصفقات، ذات طابع اقتصادي في الغالب، أدت إلى تشكل شبه محاور جديدة، ويعطي البحث في تقاطعاتها بالقرب من الملف السوري إمكانية جديدة للأطراف المتدخلة في الشأن السوري لإعادة خلط الأوراق، في ظل سياسة أمريكية أكثر تساهلاً مع الدول المحيطة بسوريا، في التعاطي مع الشأن السوري، وفي مفاوضات البرنامج النووي الإيراني.
الخط الأول عربي ومرتبط بسوريا مباشرة، ويرغب بتعويم النظام وعودته إلى جامعة الدول العربية؛ لكن مراهناته هي على النظام نفسه أولاً، وأن يغير سلوكه، باتجاه جدية أكثر في مفاوضات جنيف واللجنة الدستورية، والتخفيف من النفوذ الإيراني، باتجاه الحضن العربي القادر على تمويل إعادة الإعمار، فيما بلغ النظام من الضعف درجة لا تسمح له بهذا التغيير في السلوك.

والمراهنة الثانية على الانسحاب الأمريكي من سوريا، وقد أكدت تصريحات المسؤولين أنهم باقون شمال شرق سوريا، وعلى تخفيف عقوبات قانون قيصر على النظام السوري، ومن الواضح التشدد الأمريكي بشأن العقوبات بما يخص تجارة النفط والغاز، وما يخص المواقف السياسية وإعادة الإعمار المترافقة مع ضرورة خلق بيئة آمنة لعودة اللاجئين، بينما هناك تساهل أمريكي في الشق الإنساني.
إسرائيل قريبة من هذا الخط، فالدول الراغبة في عودة العلاقات مع النظام السوري، هي نفسها التي قبلت بالتطبيع مع إسرائيل، ولخطوط نقل الطاقة دور مهم في كلا المسارين، فبعد الموافقة الأمريكية على مد خطوط الطاقة من مصر والأردن عبر سوريا إلى لبنان، فكرت الإمارات بمسار مماثل، لنقل النفط الخليجي عبر السواحل السورية، وكان هذا ضمن ما نوقش في زيارة وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، إلى دمشق. لكن هذا المسار غير مضمون، بسبب تهديدات قانون قيصر، ما دفع الإمارات للبحث عن بدائل.
البديل كان بفتح مسار مصالحة خليجية مع كل من إيران وتركيا، لتمرير النفط الخليجي، عبر إيران ثم تركيا، إلى أوروبا. بالنسبة لإيران، سمحت حالة التهدئة قبيل المفاوضات حول برنامجها النووي بهكذا مصالحات. هذه المصالحة، وكذلك الاتفاق النووي فيما لو تم العودة إليه، لن تغير من طموحات إيران في استكمال مشروع الهلال الفارسي، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والذي بات يطوّق دول الخليج العربي، وبالتالي لا تغير مثل هذه الصفقات كثيراً من حالة الرفض الخليجي، الإماراتي والسعودي خصوصاً، لنفوذ إيران؛

وبالمثل هي حالة العلاقة التركية الإيرانية، حيث تزدهر التجارة البينية بين البلدين، للتغلب على الركود الاقتصادي في البلدين، بسبب العقوبات الغربية عليهما، في حين أنهما يختلفان في ملفات سوريا وأذربيجان والعراق وأفغانستان وغيرها.
هناك حديث عن اتفاقية روسية- إيرانية، بمشاريع عسكرية ونفطية وسياسية، ومدتها عشر سنوات، وهذا يرفع مع مستوى العلاقة الروسية الإيرانية في سوريا، والتي كانت تتصف بأنها آنية وميدانية، ومن الممكن أن تقبل موسكو بشراكة إيرانية لها في سوريا، أي بالحفاظ على بعض مناطق نفوذها على الأرض، ولا بأس فيما تمارسه من تطييف وتغيير ديمغرافي، شرط أن يكون ذلك تحت سيطرة روسيا، وألا يشكل تهديداً لأمن صديقتها إسرائيل؛ حيث سمحت روسيا لإسرائيل بتكثيف الضربات الجوية على المواقع الإيرانية العسكرية في سوريا، بعد لقاء بوتين بينيت الشهر الماضي.
الصفقة الروسية- الإيرانية المنتظرة هي على شاكلة الاتفاق، الضخم بالنسبة لإيران، الموقّع بين إيران والصين، لكنه ليس بحجمه؛ ويشكل الاتفاقان بوادر حلف ثلاثي صيني- روسي- إيراني، في مواجهة الولايات المتحدة. ويتضمن كلا الاتفاقين صفقات تسليح لإيران، لكن قد لا تمضي الصين وروسيا في هكذا صفقات إلى حدّ بعيد، وإنما بالقدر الذي يمكنهما من امتلاك ورقة ضغط ضد الولايات المتحدة، وللتحكم في سلوك طهران، خاصة أن روسيا لا ترغب في عودة تدفق النفط الإيراني المنافس إلى أوروبا، في حال العودة إلى الاتفاق النووي، ورفع الحظر عن طهران.
في هذا الوقت، أي فترة المصالحات والتوافقات والتقلبات في المواقف، تحاول روسيا الإمساك بكل الخيوط في المنطقة؛ فهناك خط اتصال مستمر ودوري، على المستويين السياسي والأمني، مع الإدارة الأمريكية، وكان التوافق على تمرير المساعدات الإنسانية لسوريا فاتحة جيدة، باعتقاد موسكو، للمراهنة على الحصول على المزيد من التنازلات الأمريكية في سوريا. فيما تعتبر روسيا تركيا حليفاً مهماً لها في سوريا، وهي أكثر قرباً لها من إيران، حيث صفقة منظومة الدفاع إس-400، التي تقدمها لأنقرة لضرب حلف الناتو، وحيث يمر خطا الغاز الروسيان، إلى تركيا، وإلى أوروبا.
وهناك العلاقات الروسية مع دول الخليج ومصر، والمراهنة الروسية على الأموال الخليجية اللازمة لمشروع إعادة الإعمار في سوريا. وتعتبر موسكو نفسها حليفاً راعياً لأمن إسرائيل في محاولة منها لإشغال الدور الأمريكي المتراجع؛ فيما تتخذ روسيا موقعاً محايداً تقريباً في ملف أذربيجان وأرمينيا، لكنها حريصة على التحكم بمصير خزانات الطاقة في بحر قزوين، بينما ضم شبه جزيرة أوكرانيا يعتبر أولوية بالنسبة لها، كما هو حال الملف السوري.
تنظر موسكو إلى نفسها كدولة عظمى، بطموحات أكبر من إمكاناتها، وهي بذلك لا تستفيد من فترة التوافقات هذه في التوصل إلى حل في سوريا وفق القرارات الدولية، أي عبر التقيد بالشروط الأمريكية، وقبول مشاركة المعارضة، والدور التركي، ولا مركزية مقبولة مع الإدارة الذاتية، بل هي تستغل هذه المستجدات المتشابكة، باتخاذ مسافة متساوية من كل الأطراف، تمكنها من الإمساك بكل الأوراق في سوريا لإعادة خلطها، علها توصلها إلى فرض مدخل لبناء حل سياسي يقوم على تعويم النظام السوري، متحدية كل الإدانات الدولية له؛ وبالنتيجة هناك حالة استنقاع مستمرة للوضع السوري، وهو ما تدركه واشنطن، وتتبنى على أساسه سياسة البقاء في سوريا، وتوسيع العمل الإنساني والتشدد إزاء تعويم النظام.
ما زال سلوك المعارضة السورية المكرسة، بعيداً عن كل هذه التوافقات الإقليمية؛ فعقيدتها قائمة على تبني سياسة الارتهان للدول الإقليمية، والتي شلت قدراتها، وباتت أدواتٍ بيد الدول الحاضنة لها، واليوم، تشارك في جولات اللجنة الدستورية والتفاوض، رغم أنها مجرد تمرير للوقت، تستفيد منه روسيا والنظام، وكذلك إيران.
قبل ذلك، وافق الائتلاف السوري، ومعه الفصائل، بسبب الولاء الكامل لتركيا، على كل التوافقات التي فرضها مسار أستانة، بين روسيا وتركيا وإيران، وسلمت المناطق التي تحت سيطرتها تباعاً، للنظام، وهي مستعدة لتسليم المزيد إذا طلبت تركيا، وفصائل الجيش الوطني قبلت الدخول في اقتتال مع قوات سوريا الديمقراطية تنفيذاً للأجندة التركية؛ وكانت دول الخليج، الراغبة اليوم بتعويم النظام، تدعم الكتائب الإسلامية، وجزءاً من المعارضة.
ما أود قوله، أن العلاقات بين الدول الإقليمية يحكمها المصالح، وليست مهتمة بثورة الشعب السوري، وهي تستغل العامل الإيديولوجي، القومي أو الديني، وضياع الهوية الوطنية الجامعة للسوريين، وبالتالي تساهم في التطييف، والذي يحول الثائرين إلى مرتزقة لها. أما العودة إلى الثورة، لكل السوريين، فيحتاج إلى تشكيل رؤية وطنية، يبدأ برفض الاحتلالات وكل أشكال التبعية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.