في تقرير لمجلة “ذا ناشيونال إنتريست”، ترى ألما كيشافارز الخبيرة في سياسات الشرق الأوسط وكيرون سكينر المديرة السابقة لتخطيط السياسات بالولايات المتحدة، أن بعض الدول تميل لاستخدام الجماعات المقاتلة المتمتعة بالاكتفاء الذاتي؛ كونها تسمح لهذه الدول بفرض خسائر وتكاليف أكبر على أعدائها وحتى تغيير النظام العالمي. 

فالدروس المستفادة من الحرب في أوكرانيا لم تكتب بعد، إلا أن هذا الصراع كشف كيف يمكن للقوات شبه العسكرية، مثل مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية الخاصة والمصنفة مجموعة إجرامية، أن تعزز من قوة الدول. كذلك كان للوكلاء والشراكات الغير حكومية أثرا على ملامح الصراعات في الشرق الأوسط على مدى سنوات عديدة.  حيث قاد “الحرس الثوري” الإيراني “الهلال الشيعي” عبر علاقاته مع الميليشيات الشيعية في العراق وبلاد الشام.  

بحسب التقرير المذكور، فإن “الحرس الثوري الإيراني” ليس مجرد قوة مقاتلة. فبالرغم من العقوبات المفروضة على الشركات التجارية التابعة له، إلا أنه يتمتع بالاكتفاء الذاتي من الناحية المالية. علاوة على ذلك، أنشأ “الثوري” الإيراني نموذجا منهجيا لتأسيس وجوده في الدول والمناطق المعرضة للخطر، واتبعه مع الشركات الوهمية للتمويل والتحايل على العقوبات. ويبدو أن مجموعة “فاغنر” تتبع مسارا مشابها، إلا أنها تعمل أيضا كأداة للسياسة الخارجية لموسكو، تماما كما يفعل “الحرس الثوري” الإيراني لطهران. 

لكن يوجد اختلاف رئيسي بين الطرفين بكل تأكيد. فقد تم إنشاء “الحرس الثوري” الإيراني والاعتراف به كمؤسسة عسكرية من قبل النظام الإيراني، بينما تبقى مجموعة “فاغنر” شركة عسكرية خاصة تعود ملكيتها لشخص واحد، يفغيني بريغوجين. وإن كانت تعمل إلى جانب قوات الدفاع الروسية، إلا أن “فاغنر” تنافسها أيضا على الموارد والتمويل. وبالرغم من أن بريغوجين هو المالك، يعتقد أن المجموعة تدار بشكل كبير من قبل مكتب المخابرات العسكرية في وزارة الدفاع الروسية. 

عمليات “الثوري” الإيراني انتشرت من إيران إلى سوريا والدول المجاورة لها، بينما امتدت عمليات مجموعة “فاغنر” من أوكرانيا إلى معظم أنحاء إفريقيا. وبالتالي بات استخدام الجماعات المقاتلة التي تتمتع بالاكتفاء الذاتي يروق لبعض الدول لدرجة أنه قد يصبح القاعدة في الحرب والعلاقات الدولية. 

نموذج “الحرس الثوري” الإيراني 

وفقا للتقرير فإن التحالف بين روسيا وإيران يعد حالة ذات متغيرات متعددة. فهو يتراوح بين التنسيق العسكري في سوريا، لإبقاء بشار الأسد في الحكم، إلى تسليح القوات الروسية بطائرات إيرانية مسيرة لمحاربة أوكرانيا. ويتم تحديد نطاق التعاون من خلال ضرورات الصراع. 

ولطالما اعتبر جيش النظام الإيراني جيش الدولة التقليدي. وقد بشرت “الثورة الإسلامية” الإيرانية عام 1979 ببدء حقبة من التغيير الإقليمي والاضطرابات الداخلية التي دعت إلى قوة من شأنها أن تخفف من الطموحات المناهضة للنظام. فولد “الحرس الثوري” الإيراني من هذا الوضع. وتدريجيا، تحول ذراع “الثورة” الإسلامية إلى لاعب رئيسي في الاقتصاد والسياسة وحتى الشؤون الخارجية لإيران.

كان هناك سلسلة من الأزمات هي من دفعت بـ “الحرس الثوري” إلى الاكتفاء الذاتي والهيمنة السياسية. فقد كانت الحرب الإيرانية العراقية لحظة محورية ليس فقط بالنسبة للمنطقة، وإنما بالنسبة لإيران لإعادة تقييم أولوياتها وتحديد عقيدتها الدفاعية. فتأسست شركة “خاتم الأنبياء” المملوك لـ”الحرس الثوري” الإيراني لإعادة بناء البلاد بعد الحرب. وأصبحت الشركة الرائدة في مجال الهندسة والبناء في إيران والتي تفوز باستمرار بعقود بمليارات الدولارات من الدولة بسبب قلة المنافسة. كما توسع “الثوري” الإيراني في الخارج واستغل الفراغات. 

في أعقاب الحرب العراقية عام 2003، تركت المناورات السياسية الأميركية مع الحكومة الجديدة في بغداد الباب مفتوحا للتأثير الإيراني الذي توسع بشكل كبير في الأعوام 2013-2017. وبينما كانت الولايات المتحدة تركز على محاربة “داعش”، أنشأ “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” الإيراني ما يلزم لبقاء إيران في كل من العراق وسوريا. وتم تحقيق ذلك إلى حد كبير من خلال جهود القائد السابق لـ”فيلق القدس” في “الحرس الثوري”، قاسم سليماني، الذي أنشأ مجموعة متنوعة من الميليشيات الشيعية المقاتلة الموالية له شخصيا. 

بالمثل، فإن الحرب الروسية في أوكرانيا خدمت غرضا مشابها لمجموعة “فاغنر”. فالشركة العسكرية الخاصة المذكورة ليست مثل أي شركة عسكرية تديرها الدول، ولكن لا يوجد شيء فريد بطبيعته حول مجموعة “فاغنر” يفصل بين أنشطتها وأنشطة “الثوري” الإيراني. وينتهز بريغوجين الفرصة لإبراز مجموعة “فاغنر” بشكل أكبر. ومثل “خاتم الأنبياء”، الذراع المالية لـ”الحرس الثوري”، وقع بريغوزين باسم “كونكورد مانجمنت” عقودا مربحة في روسيا والخارج بفضل علاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. 

مجموعة “فاغنر” يعتقد أنها متورطة بشدة في الغزو الروسي وضم شبه جزيرة القرم عام 2014. كما يعتقد أيضا أن مرتزقة “فاغنر” قاتلوا نيابة عن جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوهانسك الشعبية في أوكرانيا في عام 2015، بالإضافة إلى وجود بصمة لهم في دونباس كونهم ناشطين في الحرب المستمرة في أوكرانيا. 

كذلك تم نشر مقاتلي “فاغنر” في سوريا في عامي 2014 و2015 لمساعدة الأسد على البقاء في السلطة. وزادوا منذ ذلك الحين من المناطق الخاضعة لسيطرتهم في سوريا وأصبحوا الآن أكثر نفوذا من إيران هناك. ووسعت المجموعة الآن عملياتها لتشمل القارة الإفريقية. وكانت ليبيا بوابة لهذا المشروع، ويرجع ذلك جزئيا إلى نجاحات “فاغنر” مع خليفة حفتر. 

مثل ما كان ملء الفراغات جزء من إستراتيجية “الحرس الثوري” الإيراني، أصبحت إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى عراق مجموعة “فاغنر”. ويبدو أن مقاتلي “فاغنر” هم الأكثر تواجدا في مالي، حيث يزعم أنهم يقومون بعمليات لمكافحة التمرد بأمر من الحكومة المالية. كما أن عمليات “فاغنر” التجارية تستغل الموارد الطبيعية الغنية في مالي لتمويل أنشطتها بشكل غير مشروع. 

جمهورية إفريقيا الوسطى هي أحدث دولة إفريقية تشهد تأثير “فاغنر”، ويتابع مجندو “فاغنر” الآن من خلال تجنيد السجناء هناك للقتال في أوكرانيا. وإلى الغرب، تتعرض بوركينا فاسو لضغوط متزايدة من مالي لتبني خدمات “فاغنر” للمساعدة في إقامة علاقات ثنائية مع روسيا. وفي مكان آخر، يتواجد أفراد “فاغنر” بعد توقيع روسيا والكاميرون على اتفاقية دفاع في نيسان/أبريل 2022. وتنشط عمليات “فاغنر” أيضا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتحديدا من خلال الشركات الواجهة التي تدعم عمليات التأثير. 

دور العقوبات في الحد من نشاط المجموعات العسكرية الخاصة 

طبقا لما أوردته سكينر وكيشافارز في التقرير، فقد تحايل النظام الإيراني بخبرة على العقوبات الأميركية والدولية لأكثر من أربعة عقود. ويفترض أن موسكو متدربة لدى طهران في التهرب من العقوبات. وعند استخدامها بشكل صحيح، تعتبر العقوبات أداة فعالة في السياسة الخارجية. 

على سبيل المثال، تعد “خاتم الأنبياء”، من خلال ممتلكاتها المالية المختلفة واحتكارها الفعلي لعطاءات البناء الإيرانية، مصدرا مربحا للغاية لتمويل “الحرس الثوري” الإيراني. ولكن عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على فرعها الهندسي، أثبتت أنها واحدة من أكثر العقوبات فعالية لضرب “الحرس” الإيراني. ومنذ ذلك الحين، زادت العقوبات المفروضة على الشركات التابعة الأخرى، ولكن أيضا زادت إبداع “الثوري” الإيراني في الحفاظ على هذا النموذج. 

من جهتها، تعاني مجموعة “فاغنر” ببطء من ضغوط اقتصادية مماثلة. فقد تم معاقبة بريغوجين في عام 2014 لعلاقاته بالصراع في أوكرانيا، ومرة أخرى في عام 2015 لصلاته بالأنشطة السيبرانية الخبيثة. كما تمت معاقبة شركة “كونكورد للإدارة والاستشارات” في عام 2017 لعلاقاتها بالحرب في شرق أوكرانيا. 

لا شك في أن بريغوجين يستخدم شركات وشركات فرعية أخرى لتمويل عملياته العسكرية. ففي عام 2021، فرض الاتحاد الأوروبي، بقيادة فرنسا، عقوبات على مجموعة “فاغنر” بسبب أنشطتها في ليبيا وسوريا وأوكرانيا، والتي تشمل انتهاكات حقوق الإنسان. 

التقرير يرى بأنه على الرغم من أن الولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي قد شددوا العقوبات ضد “فاغنر”، فلا تزال هناك تحديات. ويجب على واشنطن أن تركز الموارد على الأفراد والكيانات التابعة لـ “فاغنر”، مع التركيز بشكل خاص على احتمالية ارتباط الشركات الوهمية ببريغوجين و”فاغنر”، لضمان حملة مستدامة من تطبيق العقوبات الصارمة التي ستؤدي في النهاية إلى تنفيذ عقوبات أوسع. وفي عام 2022، تمت إضافة زيادة كبيرة في الضغط على “فاغنر” مع تصنيفها من قبل العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، كمنظمة إجرامية دولية. 

مستقبل مجموعة “فاغنر” 

أدى الخلاف بين بريغوجين ووزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، إلى انتكاسات في وصول الأسلحة والتمويل لـ”فاغنر”. ولكن مع تعثر غزو أوكرانيا في عام 2022، ازدادت الحاجة إلى خدمات المجموعة وتعاونها. ولكن تكوين قوات “فاغنر” يختلف عن القوات الروسية، حيث ينحدر المجندون العسكريون في “فاغنر” إلى حد كبير من السجون. فعلى سبيل المثال، يوجد ما يقارب من 50000 من مقاتلي “فاغنر” في أوكرانيا اليوم: 10000 متعاقدون مرتزقة “تقليديون”، في حين أن 40 ألف هم من المحكوم عليهم. ويعتبر تصنيف وزارة الخزانة الأميركية لمجموعة “فاغنر” على أنها “منظمة إجرامية عابرة للحدود” خطوة مهمة نحو فضح فظائعها.  

ويبقى السؤال مفتوح حول ما إذا كانت “فاغنر” تحاول التفوق على جيش الدولة الروسية أم لا. من غير المحتمل أن تنشئ “فاغنر” حكومة ظل كما فعل “الحرس الثوري” الإيراني في إيران، لكن يمكن أن تصبح مكتفية ذاتيا لدرجة تجعلها تقدم لموسكو جيوشا موازية لتحقيق طموحاتها الجيوستراتيجية المناهضة لحلف “الناتو” في الخارج وفي الأجزاء الأكثر ضعفا في البلاد. وفي حين أن خطاب “الكرملين” لا يدعم كليا “فاغنر”، فإن المجموعة تحظى بدعم بوتين، ما لم يغير بوتين وجهة نظره تجاه صديقه القديم. 

“ذا ناشيونال إنتريست” تنهي تقريرها بالقول بأن المجموعات العسكرية الخاصة، مثل “الحرس الثوري” الإيراني و”فاغنر”، هي أدوات للسياسة الخارجية من قبل دولهم. وتتطلع هذه الدول إلى توسيع نفوذها في النقاط الساخنة العالمية حيث تتواجد الولايات المتحدة بشكل أقل. وعندما يتم تأسيس موطئ قدم، يتم دعم الشركات الوهمية لتمكين الأنشطة غير المشروعة والتهرب من العقوبات. 

وفي حالة “فاغنر”، تعتبر البلدان الإفريقية نقاط وصول إستراتيجية لوجود إقليمي يمكن أن يساعد اقتصاد موسكو من خلال التأثير وإعادة تصدير العناصر المحظورة عالميا بسبب العقوبات. وبينما كان العراق نقطة وصول سياسية وعسكرية لـ”الحرس الثوري” الإيراني، تقدم الدول الإفريقية أنشطة تجارية تدعم موسكو، ويمكن أن تطيل الحرب في أوكرانيا. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة