شهدت منطقتنا الإقليمية تصاعدا كميا كبيرا في حجم وقيمة تهريب المخدرات،منذ تراجع حدة الصراع في سورية، إذ لا يكاد يمر شهر؛ أحيانا أسبوع؛ دون الإعلان عن مصادرة شحنة من شحنات المخدرات المهربة هنا أو هناك، كما حصل في المملكتين السعودية والأردنية و مصر وأحيانا في بعض الدول الأوروبية كإيطاليا وفرنسا واليونان.

 وفق مجمل التقارير الإعلامية ومجمل أخبار حملات مصادرة شحنات المخدرات نلحظ تصاعد هذه التجارة في السنوات القليلة الماضية وبشكل صارخ في خضم العام الحالي، كما كشف تقرير القوات البحرية المشتركة الأخير الذي تحدث عن مصادرة 67 طن منها، بقيمة مالية تبلغ 189مليون دولار من محيط الخليج العربي، وهو ما يتجاوز قيمة المصادرات في الأعوام الأربعة السابقة، وفق التقرير ذاته.

توجه غالبية التقارير والأخبار الإعلامية التي تتابع هذا الموضوع أصابع الاتهام نحو السلطات السورية بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر ربط انتاج وتصدير وتهريب المخدرات بأنواعها المختلفة ولاسيما الكبتاغون وبمقربين من النظام السوري.

 وأحيانا يتم اتهام النظام بتسهيل هذا النوع من التجارة والصناعة (إن جاز التعبير)، حتى بات وصف مناطق سيطرة النظام السوري بإمبراطورية المخدرات أمرا دارجا في اللغة الإعلامية الإقليمية والدولية.

 كما في تقرير نيويورك تايمز الأخير حول الموضوع (نشر يوم الأحد 5/12/2021).لكن وبعيداً عن جدلية الوصف (إمبراطورية المخدرات) ومدى تطابقه مع الواقع السورية الحالي، اعتقد من المهم فهم أسباب تصاعد صناعة وإنتاج وزراعة وتعبئة المخدرات في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، ومن ثم تهريبها نحو أسواقها الاستهلاكية وأبرزها دول الخليج العربي والمملكة السعودية تحديداً.

إذ يمكن ربط تصاعد هذه التجارة غير الشرعية مع تراجع أشكال التجارة غير الشرعية الأخرى التي هيمنت داخل سورية بعد اندلاع الثورة، من تجارة الأسلحة ونهب الممتلكات الشخصية والعامة ونهب التحف الأثرية والثروات الباطنية (رائجة منذ زمن بعيد) وغيرها من مركبات اقتصاد الحرب الذي ازدهر منذ العام 2012 حتى قرابة العام 2018، أي حتى عودة سيطرة النظام ولو ظاهريا على القسم الأكبر من الأراضي السورية.

 كما اتضح منذ العام 2018 وحتى اللحظة عدم اكتراث النظام وحلفائه باستعادة عجلة الاقتصاد الوطني كما كانت قبل العام 2011، بل على العكس تماما يلحظ من تعنتهم (النظام، إيران، روسيا) ورفضهم المطلق لأي حل سياسي يجنب سورية مزيد من التوترات الميدانية والفلتان الأمني والانقسام المجتمعي، مدى رغبتهم في الحفاظ على اقتصاد سوري مدمر ومنهك وعاجز عن النهوض.

 وهو ما يؤدي إلى انهيار في قيمة العملة الوطنية التي تخفض تكاليف الاستثمار داخل سورية، وبالتالي يخفض من سعر السلع السورية خارج سورية ويزيد الطلب عليها، ويرفع من نسبة أرباحها، وهو ما يطال تصدير الثروات الطبيعة التي باتت تحت سيطرة الدول المحتلة (أمريكا وروسيا وإيران وتركيا) التي تجني أرباحها كاملة.

وكذلك يطال السلع المنتجة صناعيا أو زراعيا إن كانت متوفرة، فنتيجة عنف ودموية النظام المسيطر تم تدمير جل الاقتصاد المنتج سوريا عبر نهب المصانع وحرق الأراضي وتهجير اليد العاملة وهروب رأس المال الوطني، الأمر الذي حصر الاستثمار ببطانة النظام الباحث عن مراكمة ثرواته بسرعة، كما في انتاج المخدرات وخصوصا الكبتاغون، الذي يسهل على النظام وبطانته الضيقة سيطرتهم على هذا الاستثمار واستفادتهم وحدهم من عائداته عبر مليشياتهم وحساباتهم الوهمية، حتى باتت هذه التجارة غير الشرعية بديلا عن تلك التي خسروها لصالح مختلف قوى الاحتلال الخارجي.

بالمحصلة يساهم وضع العملة السورية الراهن في زيادة أرباح السلع المصدرة شبه المحصور الآن بالمخدرات، لكنه لا ينعكس على توجه النظام نحو زيادة مجمل الصادرات بما فيها الصناعية الشرعية، كون الاستثمار الصناعي يتطلب تأمين استقرار سياسي وأمني.

 وهو ما يهدد استمرار النظام في الحكم والسيطرة، نتيجة حاجتها إلى الشروع في الحل السياسي أو التسوية السياسية الحقيقة التي تفضي في النهاية إلى إزاحة النظام الحالي.

 وعليه يبحث النظام وبطانته الضيقة اقتصاديا وأمنيا وسياسيا عن مصدر ربح سريع وكبير، يضمن لهم رفع حجم ثرواتهم الشخصية ولو مؤقتا، فصناعة وزراعة وتهريب المخدرات عملية غير شرعية، لا تدخل في موازنة الدولة وناتجها المحلي، وبالتالي عائداتها الاقتصادية تصب مباشرة في جيوب المستثمرين بها، بما فيهم أقطاب النظام المسيطر وفق غالبية التقارير التي تغطي هذا الموضوع.

مرة أخرى تتناقض مصالح وأخلاقيات النظام وبطانته الضيقة مع مصالح وأخلاقيات الكتلة الاجتماعية السورية، فالموقف الأخلاقي العام سوريا من هذه التجارة غير الشرعية واضح وصريح تجاه رفضها كليا، فهي تستهدف الجيل الشاب، وتسبب في كثير من الحالات خسارات جمة في فاعلية وإنتاجية وقدرة شرائح عريضة من هذا الجيل على الاستمرار، بل وتهدد حياة جزءا منهم.

 كذلك تزدهر هذه التجارة على حساب تنمية البنية التحتية والاستقرار الأمني والنهوض الاقتصادي لاسيما الإنتاجي، فهي عمل مافيوي مرتبط بمليشيات مسلحة نافذة وقادرة على حماية تجارتها من الحملات الأمنية، ومتحكمة بخطوط نقل هذه السلع وموادها الضرورية، وصولا إلى تحكمها بالخطوط والمعابر الحدودية الشرعية وغير الشرعية، البرية والبحرية وأحيانا الجوية أيضا.

 في حين تتطلب مصلحة المجتمع السوري مناخا أمنيا مستقرا يقضي على النفوذ المافيوي و الميليشياوي، ويضمن حقوق المواطنين جميعا دون تمييز طبقي أو عرقي أو أثني أو طائفي، كما يتطلب النهوض بالواقع الاقتصادي توفير البنية التحية الضرورية لأي عملية اقتصادية، بداية من العنصر البشري الذي تعاني سورية من فقدانه أو من خسارة القسم الأكبر منه اليوم، نتيجة سياسات وتوجهات النظام المسيطر الأمنية والاستبدادية، وصولا إلى  شبكات طرقية وكهربائية ومائية وصرف صحي، مرورا طبعا بضمان توريد المواد الأولية وغيرها من الحاجات المجتمعية والاقتصادية، وأخيرا يتطلب النهوض بالاقتصاد المنتج دورا حكوميا في تشجيع الصناعات التصديرية وتأمين حد أدنى من التنافس في السوق الإقليمي والعالمي.

وعليه يسارع النظام وبطانته الفاسدة نحو مراكمة ثرواتهم اليوم قبل فوات الأوان، فهم يدركون جيداً أن استمرار سيطرتهم وهيمنتهم تشكل عائقا أمام عودة سورية والسوريين إلى وضع قابل للحياة والاستمرار. أي تبدو تجارة المخدرات اليوم ورقة النظام وبطانته الأخيرة أو ربما شبه الأخيرة، التي قد تؤدي خسارتها إلى تضيق الخناق عليه ومحاصرته، ما قد يدفعه إلى البحث عن مخرج آمن وسريع، خصوصا بعد أن فقد النظام سيطرته على ثروات سورية ومقدراته الطبيعية والجغرافية التي باتت تحت سيطرة قوى الاحتلال المختلفة ولاسيما الروسية والإيرانية وغيرها. إذ يصعب الاستمرار بهذا النوع من التجارة غير الشرعية على مستوى دولة بأكملها أو منطقة جغرافية بأكملها، كما في حالة سورية (إمبراطورية المخدرات)، لعدة أسباب منها تصاعد الغضب الإقليمي (نسبيا) من هذه التجارة، نظرا لنتائجها السلبية على التركيبة الاجتماعية المحلية في الدول المستهلكة مثل السعودية ودول العبور مثل الأردن، وهو ما يدفع هذه الدول إلى تشديد الإجراءات الأمنية أولاً، وإلى التعمق في التحقيقات الجنائية التي تكشف رويدا رويدا مدى تورط النظام بهذه التجارة غير المشروعة ثانيا، كما في الأدلة التي ساقها تقرير نيويورك تايمز حول دور الفرقة الرابعة عامة وقائدها ماهر الأسد خاصة. وكذلك بسبب تبعات هذه التجارة السلبية على مجمل الوضع الاقتصادي والاجتماعي المحلي أي السوري ثالثا، فهي ترهق خزينة الدولة وتجفف مصادر تمويلها، نتيجة حصر الاستثمارات (إن صح التعبير) في القطاع غير الشرعي الذي لا يعود بأي نفع على يذكر على الاقتصاد الوطني وعلى الناتج الإجمالي السوري، الأمر الذي يرهق كاهل المواطن ويرفع من معدلات الفقر والبطالة، حتى يستحيل الاستمرار في العيش، ما يؤدي إلى مزيد من التوترات والاضطرابات التي تشكل مع زيادة غضب واحتقان الدول الإقليمية إلى توفير مناخ مناسب لاجتثاث هذه الاستثمارات وملاحقة أقطابها والمنظومة السياسية الراعية لها، ما يعني تغييرا في البنية السياسية بالحد الأدنى.

من كل ذلك تبدو استمرارية سورية كإمبراطورية للمخدرات أمرا مستبعدا في المدى المتوسط، كونه يتناقض مع مصالح السوريين أولا والدول الإقليمية ثانيا ونظرا لتزايد الصعوبات التي تعترض تصدير هذه المنتجات ثالثا. لكنها استثمار وتجارة رائجة اليوم ومحورية من أجل تماسك الطبقة المسيطرة في سورية سياسيا واقتصاديا، لذا قد يؤدي النجاح في تفكيك هذا الاستثمار إلى فتح نافذة مشرقة على مستقبل سوري مغاير تماما، مستقبل قد يعبر ولو نسبيا عن حقوق وتطلعات القسم الأكبر من الشعب السوري، فنهاية هذه الإمبراطورية الهشة في المرحلة الراهنة تعني تفكك وتشظي الطبقة المهيمنة على سورية سياسيا واقتصاديا، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام إحداث تغيير حقيقي سياسيا واقتصاديا. وعليه اعتقد أن تفكيك هذه الإمبراطورية اليوم هو هدف إنساني أولاً وأخلاقي ثانيا واقتصادي ثالثا وسياسي رابعا سوريا قبل أي طرف أخر والأهم هو هدف قابل للتحقيق في المدى المتوسط.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.