العالم بعد غزو أوكرانيا، ليس هو ذاته قبل هذه اللحظة. بوتين يعلن رفضه القاطع لاقتراب الناتو إلى حدود روسيا، وأن أوكرانيا ليست دولة من أصله، وما أعطاه لينين لها من استقلال لن يستمر. ليس الأمر هكذا فقط؛ بوتين يرفض كذلك التحاق أوربا الشرقية بحلف الناتو، ويريد إعادة الأخيرة إلى ما قبل 1997. المعركة في أوكرانيا، وحدت حلف الناتو والإدارة الأمريكية، وأرسلت الأخيرات قوات عسكرية لتعزيز دول البلطيق اّلثلاثة، وبولندا، وفرضت أوربا وأمريكا عقوبات اقتصادية جديدة، وسيتم قطع إمدادات الطاقة بين روسيا وأوروبا، وإخراج روسيا من نظام السويفت، وعزلها عن النظام المالي العالمي.

أكدّ بوتين، ومن أجل تقوية موقفه شعبياً، أن أوربا وأمريكا كانت ستفرض عقوبات جديدة؛ بغزوٍ أو بدونه. إذاً غزو أوكرانيا لم يوقفه التهديد بالعقوبات، وستتأزم العلاقات بين روسيا وأمريكا وأوروبا أكثر فأكثر؛ سورية ستتأثر بذلك، فهي متروكة دون أيِّ حلٍّ سياسيٍّ منذ 2018، أقلّها، حيث فرضت روسيا سيطرة على مناطق أوسع، وكانت تحت سيطرة الفصائل، ولصالح النظام، بينما انحصرت الفصائل التابعة لتركيا وهيئة تحرير الشام في جيوب حدودية؛ وظلّت قسد تحوز على مناطق واسعة شرق وشمال سورية. تأزم العلاقات بين الدول أعلاه، سيعني أن سورية وُضِعت بثلاٍجة أكثر إحكاماً وصقيعاً، وأوضاعها متروكة إلى مزيدٍ من التأزم الاقتصادي والاجتماعي، وهناك محللون يؤكدون أن الخطوة التالية في سورية تقسيمها إلى ثلاثة مناطق. وبغض النظر عن المبالغة، فهناك حدود مرسومة للأراضي السورية، وتسيطر عليها وتحميها، كل من تركيا وروسيا وأمريكا، وضمناً إيران.

 إن فرض عقوبات جديدة على روسيا، سيعني أن الأخيرة ليست بوارد التفاضل بين أوكرانيا وسورية، وجاءت زيارة وزير الدفاع الروسي، لتقول بأن بلاده ليست بوارد أية “مداكشات” هنا وهناك، وأنها تريد إرساء نظاماً دولياً متعدد الأقطاب، وستحاول استعادة مجد الاتحاد السوفيتي سابقاً، وسورية درّةهذه الاستراتيجية على البحر المتوسط، وبالتالي ستستمر روسيا بإشاحة النظر عن القرارات الدولية التي تنصف الشعب السوري، ومتابعة العمل بمسارات الاستانة، وسوتشي، واللجنة الدستورية، ومحاولة تطويق قسد، والمناطق المضطربة تحت سيطرة النظام، كالسويداء أخيراً.

مشكلة سورية أنها أصبحت ورقة بيد الروس، ولا توجد دولة بمقدورها تجاوز شروط الاحتلال الروسي لسورية، وأيضاً، ليست الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا بوارد التنازل لروسيا عن سورية كاملة، ولكن ليسوا بعجلة من أمرهم للبحث عن تسوية أيضاً. حتى أوكرانيا، التي يرى بعض المحللين أن أوروبا وأمريكا سارعتا إلى نصرتها، ليسوا بمنصفين؛ فأكثر ما فعلته القوتان السابقتان، هو دعمها ببعض الأموال والسلاح، وفرض العقوبات، وهو ما سخر منه الرئيس الأوكراني في قمة ميونيخ للأمن قبل عدّة أيام.

التأزم الجديد عالمياً، لا يمنع إمكانية الوصول إلى صفقات سياسية، ولكنها حالياً غير واردة بخصوص سورية أو أوكرانيا، والغزو الروسي، قد يشيح النظر لوقتٍ غير قصير عن أوضاع سورية. الآن هناك رفض من مؤسسات هيئة الأمم المتحدة للغزو؛ والروس قالوا إنها ليست دولة، أو أصبحت دولة بفضل الثورة البلشفية، وستعود إلى الحضن الروسي. هذا الوضع يدفع للقول إن سورية أصبحت من جديد بوضعية معقدة لغاية، فأوضاعها تزداد سوءاً، وأزمتها الاقتصادية كارثية بكل المقاييس، واحتجاجات السويداء، لن تكون النهاية، وستندلع احتجاجات جديدة أخرى؛ فهناك ارتفاع يومي للأسعار في الأسواق، وفي المناطق الثلاثة، وهذا يعني أن احتجاجات قادمة لا محالة.

الدول المتدخلة في سورية مشغولة بأوكرانيا، والتأزم بينها يجمدالبحث عن صفقة، فهل لدى السوريين بدائل عما هم فيه من انقسامات وتفكك واحتلالات؟ النظام ليس بوارد التفكير بأيِّ تغيير؛ فهو يعتقد أن روسيا وإيران طوع بنانه، رغم خضوعه لهما، وستعيدان له كل سورية، وليس من مشكلة إن لم تعد بعض المناطق. مشكلته أن حلفائه لا يمتلكون إمكانيات لدعم مدنه، وسياساته قائمة على الفساد والنهب، وكذلك غير قادر على إيقاف ما ذكرنا، ويُصدِرُ يومياً ضرائب جديدة، ويتفنن في سرقة أموال السوريين، في الداخل وعبر الحوالات، وعبر قوانين تخص كل عمليات البيع والشراء، ورفع أسعار الوقود والخبز، وإلغاء الدعم، وسواه كثير؛ وفي ذلك يقول رئيس وزراءه، أن لا خيار أخر لدى النظام، وسياسات اللبرلة والخصخصة لن تتوقف.

أيضاً المعارضة، ليست بوارد التغيير والتقارب بين أطرافها؛ فقسد لها مساراتها، والائتلاف الوطني له مساراته، وهيئة تحرير الشام تابعة بقضها وقضيضها للأتراك، وتناور لتكون تحت الرعاية الأمريكية تارة أو الروسية أو الإيرانية، ولن نتكلم عن إمكانية أن تكون قيادات رئيسية فيها تابعة لإيران أو للنظام السوري. المقصد هنا، أن الأطراف السورية، جميعها، ولأسبابٍ كثيرة ليست بوارد التقارب فيما بينها. ندوة الدوحة الأخيرة استثنت الأكراد أو تفكيك الائتلاف، وندوات تعقدها قسد في هذه العاصمة الأوربية أو تلك، ولنقل تشارك فيها، وأيضاً لا تمثيل للائتلاف فيها، وكذلك ليس من لقاءاتٍ سرية بين هذه الأطراف، وبحثاً عن صفقة تجمع مناطق قسد والفصائل التابعة لتركيا. تشكل الخلافات بين تركيا والإدارة الأمريكية بخصوص الوضع في سورية، وفي تضارب المصالح بين الدولتين مانعاً لإيجاد صفقة ما بين الأطراف السورية، وعدا ذلك، فالموقف التركي المتشدد ضد الأكراد، وليس فقط قسد ومسد، يمنع ذلك، سيما أن قسد تحالفت بقوة مع التحالف الدولي لمحاربة داعش بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي لن تتخلى الأخيرة عن قسد، وإن كانت أيضاً لا توافقها على رؤاها المختلفة، ودائما تطالبها بالحوار مع بقية الأطراف الكردية، وأيضاً تضغط عليها لتتخلى لتركيا أو روسيا عن بعض المناطق، وهذا متعلق بتدوير الزوايا بين كل من الإدارة الأمريكية وروسيا وتركيا وإيران وإسرائيل.

هيئة تحرير الشام خاضعة لتركيا، والأخيرة تترك لها التفنن بأشكال السيطرة على ملايين السورين، الذين تحت سيطرتها، وكذلك روسيا والإدارة الأمريكية لا تفعل شيئا حيالها، وكأنّ الجميع يترك للهيئة أن تحكم وتسيطر وتنهب، وليقول لبقية السوريين، اصمتوا، فالبديل عن النظام أو قسد أو الفصائل أسوأ، إنها هيئة تحرير الشام، وربما عودة داعش تأتي بهذا الإطار.

سورية متروكة يا سادة لقوى الأمر الواقع، وهؤلاء لا يجدون حلاً يتوافقون عليه؛ وأيضاً، ليس من مبادراتٍ شعبية، أو سياسية مستقلة، وقادرة على الوصول إلى ذلك الحل وفرضه. الاحتجاجات قد تندلع من جديد، وروسيا ستتشدد ضدها، فهي لن تسمح بعدم الاستقرار في مناطقها. إن روسيا، ستفاوض أوربا وأمريكا بأوراق جديدة، منها سورية ومنها شرق أوكرانيا او أوكرانيا بأكملها، وهناك شروطها على أوروبا وأمريكا بما يخص أمنها القومي، ولكن غياب المصالح الأمريكية حالياً بالتفاوض وربما رغبة أمريكا بتأزيمٍ أكبر للعلاقات الأوربية الروسية؛ وضمن ذلك، إن سياسة فرض العقوبات على روسيا لا تبشر بخيرٍ قريبٍ على سورية أو أوكرانيا؛ ربما ليس خاطئاً القول إن أقطاباً جديدة تَفرض نفسها عالمياً على جثة سورية والسوريين، وهذا، كما قلت قد لا يمنع التفاوض، ولكنه أيضاً غير مطروحٍ حالياً بين الدول العظمى، والمتدخلة في سورية وأوكرانيا أيضا؛ هذه هي أوضاع العالم وسورية بأسوأ مكانٍ فيه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.