تتعرض المرأة خلال حياتها إلى عملية تنميط وقولبة جسدية وذهنية ونفسية، لتهيئتها للدور الاجتماعي الذي يعدها له المجتمع في منطقتنا.

كتبت الفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار “الإنسان لا يولد امرأة بل يصبح ذلك لاحقا”. ليست الإشارة هنا إلى كيان المرأة البيولوجي، بل إلى كيانها الآخر: العاطفي، النفسي، الاجتماعي.

ما سعت دو بوفوار إلى قوله هو أن المرأة تخضع لعملية “تنميط” تكسبها الهوية التي يعرفها بها المجتمع كامرأة.

القاسم المشترك

ليس من السهل التوافق على معالم محددة، فهي تتغير باختلاف الثقافات، وإن كان هناك توافق متجاوز للثقافات على بعض تلك المعالم.

إن العامل المشترك بين الثقافة السائدة في المجتمعات الرأسمالية الغربية وتلك التي تسود في مجتمعات الشرق العربي مثلا، أن أحد معرفات الهوية النسائية هو وظيفتها الجنسية.

الهاجس المشترك هو الزواج، كوظيفة بيولوجية منوط بها إعادة إنتاج المجتمع كحد أدنى، وما يتبع ذلك من متطلبات تختلف من ثقافة لأخرى.

ابتداء من هذه الوظيفة المعرفة لشخصيتها الاجتماعية وسلوكها وحتى حركات جسدها العفوية، تبدأ عملية تشكيل المرأة.

ما يمكن ملاحظته، وبغض النظر عن الثقافة الاجتماعية السائدة، هو الوعي المكثف للمرأة بجسدها، الذي تحس به كشرك.

بالإمكان ملاحظة أبسط مظاهر هذا الإحساس بمراقبة سلوك المرأة الدائم، الذي ينم عن وعي لحظي ومكثف بجسدها في سياق جنسي محض.

حين ينحني الرجل لالتقاط شيء ما مثلا يفعل ذلك باسترخاء وبدون أن يحس من يراه أن هناك ما يشغله خارج نطاق الشيء الذي يلتقطه.

في حال المرأة يبدو الأمر أكثر تعقيدا، حتى للناظر من بعيد، فهي بحركة عفوية تشد بلوزتها إلى الأعلى خوفا من أن تكشف الحركة صدرها أمام الناظرين.

وكذلك فعليها أن تنتبه إلى أن قميصها لن تنحسر من الخلف أو أن بنطالها لن ينخفض عن خصرها ويكشف ثيابها الداخلية.

تقول نوال السعداوي في كتابها “المرأة والجنس” إن جزءا من تربية الفتيات (في مصر، لكن مصر ليست استثناء من هذه الناحية) يركز على ضرورة أن تنتبه الفتاة إلى كيفية جلوسها، بحيث لا تنفرج الساقان، مثلا، بشكل يجعل ثيابها الداخلية ظاهرة لمن يجلس في مقابلها.ويجب أن لا تضع ساقا على ساق، لأن هذا يخدش الصورة النمطية للفتاة الخجولة.

تطور العلاقة مع الجسد

في كتابها “الجنس الثاني” تناقش سيمون دو بوفوار تطور العلاقة بين المرأة وجسدها، ودور المجتمع في ذلك.

في هذا الكتاب تقول دو بوفوار ، الحائرة بين الفلسفة الوجودية التي تعتنقها وبين جنوحها نحو الفكر النسوي، إن جسد المرأة يمكن أن يتحول إلى “شرك” كذلك يمكن أن يصبح وسيلتها للعبور نحو حريتها.

ترى دو بوفوار أن ليس الجسد بمفهومه البيولوجي هو الذي “يشكل” وعي المرأة به سلبيا أو إيجابيا، بمعنى كمنطلق للحرية أو للحياة المقيدة، بل كيفية استجابتها له (طبعا من خلال تفاعلها الاجتماعي).

تبدأ عملية التكتم على مظاهر الأنوثة العميقة مع بلوغ الفتاة، فأول مظاهر هذا البلوغ مواجهة تجربة مبهمة، لا يجري في العادة تهيئتها لها من قبل الأم، وذلك تكريسا لموضوع الكتمان والحرج، هذه التجربة هي الدورة الشهرية الأولى.

يستمر التكتم بعد تصالح الفتاة مع الظاهرة وفهمها لماهيتها، فيفترض أن تحتفظ بها سرا، فلا تتحدث عنها، وتشتري الفوط الصحية وتتخلص منها بالسر بعد استخدامها. هذا ما تناولته أفلام ولقطات فيديو ساخرة مؤخرا، حيث بدأ البعض في كسر حاجز الصوت حول هذا الموضوع

تستمر التربية الاجتماعية برسم التدرب على إتقان الدور الجنسي المنوط بالفتاة مستقبلا ضمن مؤسسة الزواج، فتبدأ عند نقطة معينة بأخذ اتجاه معاكس، وفق تقرير نشره موقع “بي بي سي”.

في كتابها “نساء على أجنحة الحلم” تستشهد عالمة الاجتماع المغربية الكاتبة فاطمة المرنيسي بأقدم النصوص السردية الشرقية التي ترجمت إلى العربية خلال العصر الذهبي للإسلام (ألف ليلة وليلة) عن مأزق شهرزاد: المرأة التي كان عليها أن تتقن فنون المناورة في لعبة الموت، فمطلوب منها أن ترفه عن الملك ثم تمنحه جسدها مقابل أن لا يقتلها.

تمثل هذه الحكاية بشكل صادم مأزق المرأة في لعب الدور ونقيضه في علاقتها بالرجل، حتى تحوز على رضاه.

مراحل التنميط

بعد مرحلة البلوغ تكون الفتاة قد دخلت أولى مراحل التشكيل الجنساني والتي تصاحب مرحلة نضوجها العاطفي والجسدي، أي بداية تشكيل وعيها الأنثوي وتدريبها على استعراض انوثتها.

في هذه المرحلة يبدأ التشكيل الاجتماعي المنوط به رسم ملامح دورها المستقبلي، وعلاقتها بالرجل: تبدأ العائلة بتدريبها على الأعمال المنزلية ومن ثم توزيع تلك الأعمال عليها: تنظيف، طهي، خدمة ذكور العائلة.

بعد أن تتجاوز الفتاة سن العشرين يكون قد غرس في وعيها أنها الآن “تنتظر النصيب”، أي قدوم شاب لطلب الزواج بها.

في هذه المرحلة تواصل ما بدأته في المرحلة السابقة: استكمال الاستعداد للمرحلة المقبلة، الزوجية، فتبدأ في تعلم أصول الماكياج والتمكن من مهارات الطبخ، وفي نفس الوقت تعيش مع هاجس أن “يفوتها القطار” أو بمفهوم المجتمع أن “تصبح عانسا”، أي تتجاوز السن الذي يجعلها جذابة للرجال.

في هذه المرحلة أيضا تحاط الفتاة بمجموعة من “الحكم” والأمثال الشعبية التي تمجد المؤسسة الزوجية “ظل رجل ولا ظل حيط”، من أجل تكريس إحساسها بالحاجة للرجل (مهما بلغت درجة استقلاليتها)، وهو الهاجس الذي يصاحبها بعد الزواج ويجعلها تخشى من أن تفقد ذلك “الظل” بالطلاق أو بأن يتزوج بأخرى أو بالخيانة الزوجية.

خلال المرحلة التي تسبق الزواج تبقى علاقة المرأة بجسدها ملتبسة، محاطة بالتحذيرات: عيب، حرام. وهذا ما يحرمها من إمكانية الحصول على وعي جنسي، ولو على مستوى التعرف الحميم على جسدها الخاص .

ثم فجأة تتزوج، ويكون عليها بين عشية وضحاها، أن تقتحم عالم الجنس وكأن شيئا لم يكن، فالجنس فجأة يصبح واجبا مقدسا، لأنه مرتبط بإسعاد شريك حياتها “بالحلال”.

ما الذي يجري في غرفة النوم؟ ليست هناك الكثير من الدراسات حول تأثير سكب الماء الساخن بشكل مفاجئ على جسد غمر بالثلج لسنوات طويلة، وإمكانية قفز المشاعر والجسد من وعي إلى وعي نقيض.

على المستوى اللفظي، فجأة يصبح التعامل مع الجسد مباحا بل مستحبا، ابتداء من الأسئلة الفضولية لأم الزوجة والزوج، في الأيام الأولى، إلى “الاطمئنان على الحمل” في الشهور التي تلي، إلى التدخل في عدد الأطفال الذين تنجبهم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة