يمكن تعريف الجيل السياسي وفق علم الاجتماع أنَّه الجيل الذي في الغالب يتشكل عن طريق المجموعات النقابية، مثل اتحادات الطلبة، وفق مجموعات عمريّة في سنٍ معين، يشترك أفراده بخصائص متشابهة تظهر جراء معاصرة لحدثٍ وطني سياسي من شأنه أن يساعد على بناء جيل جديد مختلف جذرياً عن الجيل الأقدم. وبهذا، تساهم النقابات الطلابية في تنشئة قواعد مجتمعية مستقبلية مرادفة للنخبة السياسية، فتصبح العلاقة بين الجيل السياسي “الطلابي”.

في الدول المستقرّة تكون العلاقة بين الجيل النخبوي وجيل السياسية الطلابي متكاملة، بينما في دول الثورات يشوبها الكثير من التباينات الفكرية والرغبوية تتعلق بسياقات مرحلية مختلفة وفق ما يتطلبه الواقع المجتمعي والسياسي.

في الأصل، اعتمدت الحركات التحررية ما قبل الوطنية “أي مراحل مقاومة الاحتلالات” على هذه الفئة العمرية في محاولات التغيير والتحضير للمرحلة الوطنية، وعلى هذا الأساس، كان النموذج السوري له حالة استثنائية متقدمة على قرينتها من التجارب العربية الأخرى التي بدورها لها بصمة جيدة على هذا الصعيد.

على هذا الأساس، ومنذ انقلاب البعث الأول في سوريا في 8 آذار/ مارس، 1963 وجهت السلطة العسكرية مدافعها وبنادقها صوب الطلبة متخوفةً من تداعيات استمرار التأثير النقابي-الطلابي على الحياة السياسية في سوريا.

ومع وصول حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر، 1970 إلى السلطة استكمل معركة السلطة مع الطلبة بكل الأدوات المتاحة عسكرياً وسياسياً وربما كان من أكثر المدركين لخطورة هذا النطاق الذي وفرته الديمقراطية السورية الناشئة إبان الاستقلال وفي خضمه، كونه صعد إلى السلطة بشكل تراتبي ومتسلسل عبر اتحاد طلبة سوريا العام في بدايات حياته السياسية.

النخبة والجيل.. صراع المعتقدات المشوّهة والموروثة

فرضت الثورة السورية، تغييراً غير عادي في الإطار السوري على كل الأصعدة، وربما كانت أبرز ملامحه عودة الفئة الشبابية إلى ساحة العمل السياسي وتفرعاته المرتبطة بالتأثير في هذا الوسط بصرف النظر عن حجمه وكمه، ولكن سرعان ما غاب الشباب عن المشهد من جديد ويرجع ذلك ربما لغياب الفكر المؤسساتي المستدام، الذي يصعب تشكيله خلال مدة زمنية قصيرة لا تتجاوز العقد أو أقل، كان اندفاع الشباب وشريحة الطلاب بالتحديد هو أكثر الضربات الموجعة التي تلقاها النظام السوري. هذه الفئة، التي بقيت حبيسته وحبيسة نفسها، انتفضت بلحظة غضب شجاعة دون التفكير كيف يمكن تحويل هذه اللحظة إلى فرصة لعودة التأثير في السياسة الغائبة عن دولة سوريا. في الواقع، لم تكن لحظة إعلان الثورة “الطارئة” ومشاركة هذه الشريحة تحتاج إلى هذا التفكير البعيد أي التنظيم والتكتل والعمل المؤسساتي، فكان من الصعب في مكان الظن حتّى أو/و التصديق بانطلاق الثورة في سوريا.

لذلك، بقي الحراك الطلابي ضعيفاً سياسياً، وهذا بفعل غياب النظرة الاستراتيجية البعيدة التي كان من الصعب تشكيلها إلّا عند المثاليين للغاية ولا سيما في توقيتٍ لا يمكن استيعاب الذي يحصل وفي سوريا التي تعتبر سجناً كبيراً يقوده الاستبداد. ولعلّ، وعي فئة سياسية “تقليدية” معينة بوجود هذه الفراغات على الساحة السياسية ساعدهم على اقتناص لحظة الفعل السياسي دون وجود اعتراض من فئة الطلاب-الشباب أو التفكير حول ذلك مع بحث ولوج/ اهتمام الشريحة بمتطلبات/ احتياجات مختلفة، متعلقة؛ بـفقدان الأخيرة لمقاعد جامعية، وانعدام فرص العودة أو صعوبتها، والبحث عن فرص خارج البلاد أو داخلها من خلال جامعات محلية ضعيفة فرضتها الحاجة الماسة.

بعد انقضاء فترة تشكيل الوعي المطلوب ولو بحده الأدنى، وتحقيق معايير الاستقرار الأكاديمي، وجدت هذه الشريحة السورية نفسها، أمام تحدٍ وفرصة جديدة يمكن من خلالها أن تكون قادرة على استعادة حق “الجيل السياسي” في التنظير والممارسة والفعل، وشغل المكان الفارغ الذي في الغالب شغلته شخصيات يمكن إطلاق عليها “جيل الذهنيات التقليدية” التي تؤمن بمنطلقات عديدة من بينها قلة خبرة الشباب، وانعدام الوعي المطلوب، وعدم توفر مقومات بناء شبكة علاقات دبلوماسية.

الفئة الأخيرة، كانت الأكثر اشتباكاً فكرياً مع شريحة الجيل الشبابي، لأنها تنطلق في العادة من مفاهيم صاغتها الأنظمة الشمولية تأثرت بها، وما زالت تؤمن بها رغم معارضتها لسلوك الاستبداد، وربما هذه الشريحة هي أول من سيعمل بكل جهدٍ على إضعاف المؤسسات النقابية الوليدة التي باتت تؤسس وتؤصّل لمرحلة جدية يستعيد فيها الشباب الفعل السياسي في الإطار الوطني حقهم المشروع.

ينطلق الشباب في دحض تلك المغالطات المنطقية، من منطلقات علمية وتاريخية ربما أبرزها تتعلق بقدرة هذه الشريحة على فهم الواقع بدينامية متطورة وسلسة، ففهم الواقع هو نصف العلاج، وواقع الألفية وما بعده يتطلب مرونة عالية وقدرات غير متوفرة بشريحة قديمة مرتبطة بعصر التكنولوجيا وسيولة المعلومات والتعامل معها ليس على أساس سعة الذاكرة العقلية للإنسان بقدر إدارتها بدل تكدسيها، هذا التفصيل بحد ذاته يدحض نظرية “الذهنيات التقليدية” حول خبرات وقدرات الشباب.

كما لا يجب إغفال، أن الشباب “المنظم” قاد الحركات الوطنية في الصفوف الأمامية والمتقدمة، وهذا يمكن رصده عبر مؤتمر باريس (1913) الذي شكّل لاحقاً أولى الدول السورية، أو إضراب الستين يوماً الذي انتزع لسوريا “معاهدة الاستقلال” (1936) أو الانتفاضة التي قادها طلبة سوريا الجامعيون ضد استبداد “أديب الشيشكلي” هذا ماعدا رفض “حلف بغداد”، أو الثورة السورية نفسها “نموذج التنسيقيات” وهذا يدفع للقول بإنّ الوعي المطلوب توفر بشكل مستمر تاريخياً بينما في الوقت الراهن بات ماعدا توفره، تحصيل حاصل في عصر المعلومات السريعة.

نظرية الفصل.. على مقاس الأنظمة السائدة

يستمر سجال فصل الحياة الأكاديمية عن العمل السياسي، سرديات تبناها الاستبداد وروج لها بكل قوّة على مدار عقود، ليس فقط للقضاء على تهديد هذه الشريحة، وإنما لقطع أي احتمال لعودة نهوضها. لكن الثورة التي كانت أسرع من المعطيات المفروضة والآمال المعقودة التي كانت تتبناها المعارضة التقليدية في سوريا، غيّرت ركائز الاستبداد أو سمومه الفكرية التي ضخها أكاديمياً وتناقلتها الأجيال حتّى أصحبت مسلمات مطلقة.

لكن، مع ذلك، يبدو أنّ هذه السموم صعب القضاء عليها بسهولة، حتّى في عقول بعض الطلبة لأسباب عديدة مرتبطة بالخوف والتنشئة، والاعتقادات الماضية التي بحاجة إلى استقرار دولة حتى تتغير على صعيد الشريحة كاملة، لذلك غالباً ما عوّل “جان جاك روسو” في مفهومه “الإرادة العامة” على التعليم بهدف تغيير بعض المفاهيم.

دون إهمال أهمية وجود شخصيات معينة قادرة على المساهمة الطارئة/السريعة في عملية المعالجة الراهنة وفق المرحلة، على الأقل للإصرار على تبديل تلك المفاهيم. إنّ استبدال تلك المفاهيم، هو المدخل الأساسي للعمل الوطني في سوريا، واستعادة دور الجيل السياسي من جديد الذي لم يتشكل بعد وما زال بطور التشكيل، وهذا يقع على عاتق الشخصيات النوعية الشبابية أو النخبوية المساندة لهذه الشريحة والخطاب والاحتكاك المستمر قد يختصر الكثير من الوقت.

ولا يجب النسيان، بأنَّ المرحلة الراهنة في سوريا، هي مرحلة وطنية مرتبطة بالمفهوم العام للعلوم السياسية وليس علم السياسة، أي أنّه عمل وطني غير حزبي عابر للأيدولوجيا، وهنا مهم التنويه على أن تفرع العمل الحزبي في علم السياسة وصبغ الجيل السياسي فيه على صعيد مؤسسة اتحاد الطلبة قد يكون أكثر الكوارث التي يمكن أن تحل/ تعطل المضي نحو المستقبل، على غرار التجربة السودانية بعد سقوط نظام جعفر النُميري بعد مظاهرات طلابية كبيرة في 6 نيسان/ أبريل، 1985 والتي أدت لشلل العمل النقابي في الخرطوم.

مساحات الاشتباك.. بين مؤسسة مترهلة وأخرى ناشئة

تبقى معضلة المؤسسات السورية بعد الثورة، هي أكثر الملفات الخلافية والحساسة، وفي الغالب تقوم مراهنات النظام على انتقاد قوى الثورة والمعارضة على فشلهم في تحقيق تقدم في هذا الإطار، بالرغم من فقدان مؤسساته الخاصة ولا سيما الطلابية زخمها وقدرتها على التحرك بمرونة وتأثير ووجود فراغات كبيرة بعد تقويض مشاركتها على الصعيد الدولي بفعل العقوبات المفروضة.

فلو استحسن استغلالها من قبل “جيل السياسية” الذي يمتلك عقلية مختلفة عن تلك التي كانت سائدة إبان منظومة الدولة الشمولية، لربما يصبح ميزان القوّة على صعيد العمل التنظيمي المؤسساتي يميل لكفة المعارضة، وهنا لا نقصد “المعارضة المتصدرة” للمشهد السياسي،  ما يعني هنا؛ يقع التعويل على مؤسسات الجيل في تحمل هذا العبء ولو نجحت من المحتمل أن تكون قد وضعت أولى خطواتها نحو استعادة دورها في العمل الوطني السوري. وذلك يكون عبر فتح جبهة مواجهة لجيل البعث القديم وإبعاده عن المشهد مع الوقت بالتركيز على عوامل مختلفة؛ بناء الحاضنة عبر الثقة، توسيع العلاقات المحليّة، العمل على الساحة الدولية، ما يعني أن يكون العمل على منحنيين من القمة إلى القاعدة، من القاعدة إلى القمة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.