في الجولة السابعة لاجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف مؤخراً، طرح وفد المجتمع المدني، الذي اختاره النظام عن اللجنة المصغرة، في ورقته، مسألة هوية “الدولة السورية” بأنها عربية خالصة؛ وهذا طرح النظام نفسه، حيث لا يمكن أن توجد أية استقلالية لوفد المجتمع المدني في ظل حكمه الشمولي.
لم يأت طرح الهوية العربية للدولة السورية من باب الالتزام بإيديولوجيا البعث “القومية العروبية”، لأن النظام، بعقليته الشمولية، كان مستعداً لشطب عروبة الدولة، حين ألغي مقعده في جامعة الدول العربية في 2012، والتفت إلى إيران وروسيا، ورفع أعلامهما في مناطق نفوذه، ثم عاد إلى رفع الشعارات العروبية حين طرحت مسألة التطبيع معه؛ وبالتالي هذه الشعارات هي أيضاً أدوات سياسية يظهرها ويخفيها حسب الحاجة التي يقتضيها تثبيت حكمه.
فسوريا كانت “قطراً” في أدبيات البعث منذ استلامه الحكم في 1963، رغم أن سياسة النظام منذ السبعينات كانت تتجه نحو الانكفاء في الدولة القطرية، والتخلي عن القضايا العربية، بل ومحاربتها، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، لأن هذه السياسة كانت شرطاً لتثبيت الحكم، والقبول بالأنظمة العربية عموماً لدى المجتمع الدولي. ولم يُعمَّم استخدام كلمة “الدولة” حتى أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، وحين اقتضى الانفتاح الاقتصادي لرؤوس الأموال الداعمة للنظام الاعتماد أكثر على سياسة الانكفاء في ما يشبه الدولة، في سيناريو مشابه حصل في كل الأقطار العربية التي حكمتها أحزاب قومية تقدمية، حيث تحول همها إلى كيفية ترسيخ سلطة الطبقة الحاكمة ذات الطابع العائلي، وفي محاكاة للإمارات والملكيات العربية.
لكن اللافت اليوم، أن تناول موضوع هوية “الدولة السورية” ظل مرتبكاً أو غائباً، ويفتقد إلى القدرة على التصويب، وهذا طبيعي ضمن الوضع السوري المأزوم، لكنّه يفتح الباب على سؤال الهوية السورية الغائبة، أو التي لم تتشكل، وهو نقاش أساسي يجب على النخب البدء به، وإنهاءه، وبدون إنجازه لا يمكن للسوريين الخروج من مأزقهم الحالي. هو نقاش يجب أن يجري على مستوى الفكر، ويحتاج إلى الكثير من البحث المضني والدقيق، خاصة في تناول الآراء المخالفة، بعيداً عن الاتهامات الإيديولوجية أو الشخصنة أو المزاجية السياسية؛ لأن الوضع السوري، كما كل الوضع في العالم العربي، مأزوم ومركّب، وشديد التعقيد، ولا يشبه نقاش الهوية البسيط والبديهي لدى دول أخرى.
تتمثل أزمة الهوية في سوريا في قبول عدد كبير من النخب السياسية بالهوية الإسلامية “السنية”، الأمر يعيد إنتاج الهويات الدينية والطائفية، أي العودة إلى هويات القرون الوسطى، وهذا يتعارض مع تشكيل الدولة الحديثة، لأن ما تطرحه هذه النخب من أسس الدولة المدنية الحديثة هو الديمقراطية فقط، وهي لا يمكن أن تتحقق دون تحقيق المواطنة والعلمنة، أي المساواة بين الشعب.
كما أن إشكالية “هوية الدولة السورية” ليست محصورة في وجود أقليات من أقوام متعددة تقطن الجغرافية السورية إلى جانب العرب، بل هي إشكالية التعاطي مع الوجود العربي نفسه ضمن الجغرافية السورية. لأن العرب كقومية موزعون في مساحات كبيرة من الدول العربية، ويشكلون غالبية سكانية فيها، إضافة إلى تواجدهم كأقليات قومية في دول محيطة كإيران وتركيا، وهذا يعني أن القول بالقومية العربية في “دولة سورية”، وهو ما طرحه وفد المجتمع المدني “النظامي”، متناقض وليس له معنى، في حين أن العودة إلى اعتبار سوريا دولة قطرية “مؤقتة” ضمن الوطن العربي، ليس وارداً لدى الطبقات الحاكمة، لأنه يناقض سياستها للبقاء في الحكم، ولمواصلة النهب.
لحل معضلة الهوية هذه، علينا فتح مراجعة موضوعية لأمرين؛ الأول هو نقد الأدلجة القومية التي طرحها البعث، وغيره من الأحزاب التقدمية، والتي كانت كارثية حين استلمت هذه الأحزاب السلطة، وانتقلت إلى مرحلة تثبيت الحكم، والتي كان العسكر في صلبها. هذا خلق خلطاً بين الإيديولوجيا القومية، أي القومية كفكر، وبين القومية بوصفها شعوراً بالانتماء لجماعة بشرية تتكلم لغة واحدة ولها ثقافة مشتركة وأرض تجمعها.
استيقظ الشعور القومي منذ نهايات القرن التاسع عشر، رداً على سياسات التتريك للدولة العثمانية، فيما عرف بالنهضة العربية، وتَمثَّل لاحقاً في انضمام الشباب العربي، ومن كل الأقطار، إلى حركات المقاومة الفلسطينية بمراحلها المتعاقبة، ضد الوجود الصهيوني، وسياساته التوسعية.
اعتمد البعث على الفكر القومي، مستفيداً من الحماس لدى الشعوب العربية إلى تحقيق التقدم والنهوض بالمجتمعات العربية إلى عالم الحداثة، لكن طرحه كان سطحياً، لأنه لم يحمل حلاً لإشكاليات الواقع، أي لم يناقش حل مشكلة تعدد الهويات الدينية والطائفية، عبر فصل الدين عن الدولة، والمواطنة، والمساواة، والديمقراطية الحقيقية، وقبل ذلك الانتقال إلى التصنيع، والزراعة الحديثة، بل عمق الحساسيات الكامنة، الدينية والطائفية والعشائرية، واستفاد منها في قمع الانتفاضة الشعبية في 2011، وفي تحويل مسارها نحو التطييف.
في حين أنه همش الأقليات القومية، واعتبرها غير موجودة، بل وقام بقمع حقها في ممارسة طقوسها الثقافية، ومنعها من التحدث بلغتها الأم؛ ولم يكن في وارده مطلقاً نقاش الحق السياسي لبعضها في الحصول على إدارة ذاتية في المناطق التي تشكل فيها غالبية؛ هذا دفع الأكراد، في 2004، بعد احتلال العراق، إلى الانتفاضة، وواجهها النظام بقمع شديد، واستغل العشائر العربية لقمعها، ولم تحسن المعارضة السياسية تقدير الموقف حينها، ما عمق الحساسية القومية الكردية- العربية.
الأزمة التي خلقها البعث هي في تحوله إلى الديكتاتورية والشمولية، خدمة لسياساته الليبرالية، وصارت شعاراته غطاء للنهب وللحفاظ على السلطة الطبقية للفئات الحاكمة، ما شكل ربطاً بين هذه الشعارات وتلك الفئات الحاكمة، وخلق ارتدادات ضد القومية العربية، لدى الشعب عموماً ولدى النخب السياسية والثقافية المعارضة، والتي صارت تُنَظِّر “للدولة السورية” القائمة على أساس الديمقراطية وحدها، أو مع المواطنة، دون البحث في هويتها، وفي كيفية تحقيق هذه المواطنة على أرض الواقع، دون الخوض في نقاش مشكلاته الشائكة.
هذا الارتداد عن الهوية القومية هو الذي أيقظ الهويات القروسطية، أي تصاعدت الهويات الدينية، وعززت صعود الإسلام السياسي السني، بتياراته المتنوعة، في مواجهة مع الٌأقليات الدينية والطائفية.
الأمر الثاني الذي يجب مراجعته، يتعلق بالعودة إلى أحداث مفصلية في تاريخ المنطقة القريب (قرن أو أكثر بقليل)، يجري تجاهلها من قبل النخب لدى نقاش مسألة الهوية؛ وهي اتفاقية سايكس- بيكو في 1916، ووعد بلفور في نفس الفترة في 1917، من أجل تثبيت التقسيم القطري. ولم تتغير السياسات الدولية تلك تجاه المنطقة، أي منع العرب من صياغة أي شكل من أشكال الوحدة، ومنعهم من تحقيق التقدم، وهذا فرض أمرين؛ الأول الاستمرار في دعم الكيان الصهيوني وسياساته التوسعية، والثاني منع العرب من امتلاك صناعة متقدمة، أو تطوير الزراعة، وتعميم الاستيراد على مجمل السياسات الاقتصادية، والاكتفاء بتصدير الثروات (النفط والغاز). وتحقيق هذين الأمرين اقتضى دعم الديكتاتوريات العربية، والتي أسماها الكاتب هشام البستاني بال”الكيانات الوظيفية” في كتابه الذي يحمل نفس العنوان.
وباختصار، لا يمكن حل مسألة الأقليات القومية في سوريا، بدون حل إشكالية الهوية الأكبر؛ لأن الشعوب التي تسكن المنطقة العربية، ومنها سوريا، من عرب وغير عرب، يطمحون إلى حياة أفضل، وتغييرات جذرية في البنى التقليدية القائمة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولذلك قامت الثورات في المنطقة وهي مستمرة، بمعنى هي ثورات طبقية ضد الفئات الحاكمة، والتي يغض المجتمع الدولي النظر عن مجازرها.
لا يمكن في عجالة هذا المقال، نقاش موضوع الهوية في سورية؛ لكنني قدمت إضاءة صغيرة على جذر المشكلة، فالواقع أكثر تعقيداً، بوجود احتلالات تدعم قوى الأمر الواقع، ولا يمكن أن تدعم تشكل هوية سورية، وإنما كل الهويات الفرعية الدينية والطائفية وكذلك القومية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.