منذ أطوار بهجت الروائية – مراسلة قناة العربية حين ذاك، وإلى كامل شياع مستشار وزير الثقافة العراقي حينها، اللذان أعدمهما الإرهاب في عراق ما بعد 2003، حيث شهدت البلاد بمقتلهما تباعا بين عامي 2006-2007 أول تحول من مرحلة التضيق على حرية التعبير التي مارسها نظام صدام حسين، إلى اغتيال الكلمة على الهواء مباشرة.

حيث مثل اغتيالهما، انتقالة خطيرة في تاريخ العراق على مستوى التعبير عن الرأي، وشاهد على حقبة من حقب السواد التي مر بها وأثخنت من جراح ومعاناة المواطنين بسنوات من الاقتتال المذهبي. بعدها ستجتاح البلاد سنوات من سياسة الإقصاء والتهميش التي اعتمدها نوري المالكي في ترأسه الحكومة لثمانية أعوام، وفوضى غيرت مجريات الحياة حتى لحظة كتابة هذا التقرير.

أقرأ/ي أيضا: تديرها إيران.. ما أهداف قنوات تليجرام “الولائية” في العراق؟

أمال خائبة

إذ كان العراقيون يعتقدون أن، مع انتهاء حكم صدام، ودخول “قوات التحالف الدولي” بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، تنتظرهم فسحة من “الديمقراطية” التي ستحول البلاد فيما بعد إلى خربة بالكامل، قبل أن تمنحهم نظاما يضمن لهم حياة كريمة وأدنى مستويات حرية التعبير.

مشهد لم تغيب عنه لحظة بصمات التدخل الخارجي الذي حول بلاد النهرين إلى ساحة صراع نفوذ، والذي بفعله سيتحول العراق إلى مقبرة ومعتقل كبير للصحفيين وأصحاب الرأي، حق الكلمة فيه رصاصة أو تغيب، وأقله ضررا سنوات من الملاحقة والغربة في دول أكثر أمان لهم، والأمن فيهم صديقا للسلطة وأذرعها.

تدافع دولي، الإعلام فيه يمثل السلاح الأبرز والأكثر فتكا، تسعى من خلاله جميع الأطراف إلى صناعة الرأي العام والتأثير فيه والتحكم بالمجتمع وقنعاته، وتكريس وجودها بالوسائل الناعمة، ومع غياب القانون في العراق وانفتاح الساحة الإعلامية فيه، سمح ذلك بدخول مختلف الفضاءيات التلفزيوية ووسائل الإعلام الأخرى دون حسيب أو رقيب.

أقرأ/ي أيضا: العراق يحجب ظهور دبلوماسي إيراني على وسائله الإعلامية

ما علاقة إيران؟

وهذا ما ركزت على استثماره طهران بمحاولتها السيطرة على البلاد ومقدراته، حيث دفعت بوكلائها إلى إنشاء عشرات القنوات التلفزيونية، فضلا عن وسائل أخرى حتى لا توجد إحصائية لها، إلا أنها كانت كافية لأن تصنع جيوشا من “الوشاة والجواسيس”، بدلا عن صحفيين يخدمون أهداف المهنة، كما يقول عمر النعيمي، وهو صحفي عراقي.

ويضيف في حديث لموقع “الحل نت”، أن “المهنة التي كانت غايتها تهتم بكشف الحقائق ونصرة المظلومين، ومسائلة الحكومات، ومراقبة أداء المسؤولين، تحولت في العراق بتأثير المال السياسي والخارجي، إلى بيئة عمل ملغمة، إذ بات الصحفيون أكثر ما يخشونه في هم زملائهم”.

وتعمل وسائل الإعلام التابعة لوكلاء إيران، ومن خلال عامليها، على رصد ونشر نشاطات كل من يعارض سياسيتهم من الصحفيين المناهضين للوجود الإيراني، وهذا ما قتل أو اختطف أو هجر على إثره عدد ليس بالقليل، وفق شهادت استمع لها موقع “الحل نت”، لعدد من الصحفيين/ت العراقيين.

وعلى الرغم مما تملكه طهران من إعلام ناطق بالعربية وموجه إلى العراق مثل قناة “العالم”، إلا أنها تملك إلى جانب ذلك نفوذا تام على 29 محطة فضائية ضمن “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات العراقي” الممول إيرانيا، والعشرات من الإذاعات والصحف، وهذه هي التي تمثل الفاعل الأكبر بمعادلة انقسام الإعلام في العراق بين مملوك إلى أحزاب السلطة أو المنصات الغربية، أو المملوك إيرانيا.

ويفرض التمويل الإيراني تبعية كاملة لهذه المؤسسات لطهران، حتى أن النشرات الإخبارية لابد أن تتناول أخبار ولاية الفقيه وإنجازات الحرس الثوري الإيراني كعناوين رئيسية، تسبق حتى عناوين الشأن العراقي، فضلا عن تجنيد بعض من الصحفيين العالمين معهم إلى راصدين لمن يعارضون توجهاتهم.

وتلعب المؤسسات الإعلامية الإيرانية في العراق دورا في الاستقطاب الطائفي لأبناء المذهب الشيعي في العراق، كأداة لاستمالة وكسب الولاء السياسي على أساس طائفي، كما أنها تعتمد تمويل ضخم ورواتب عالية نسبيا في العراق كما أنها توفر فرصة للعمل من دون أي معيار، وهذا ما دفع الكثيرين للجوء للعمل في تلك الوسائل.

وبالرغم من أنه يمكن القول إن، مساحة حرية التعبير في العراق الجديد بآخر عقدين لا بأس بها، ويكاد يكون التضيق الحكومي متوازي لوضع البلاد المأساوي، كما يرى الباحث والصحفي نذير الخفاجي، ويبين لـ”الحل نت”، أن “هذا لا يعني أن السلطة عادلة مع الصحفيين وداعمة للصحافة، بل مع ذلك هي أكثر المتورطين في خنقها والانتهاكات الممارسة ضدها”.

أقرأ/ي أيضا: أبرز وجوه الإعلام الروسي تنتقد حرية التعبير.. ماذا قالت؟

سلطة الأحزاب

ويضيف: “عندما نتحدث عن السلطة، هذا يعني أننا نتحدث عن من يملك التأثير على السلطة، ومن يتحكم بإدارة السلطة، بالتالي أن الفواعل المتحكم بها، هي ذاتها التي تتحكم بأذرع خارجة عن القانون تعمل ليلا ونهارا على تغيب الصحافة في البلاد”.

وإلى ذلك، ساهم المال السياسي في التأثير بشكل كبير ورئيسي على مهنة الصحافة في العراق، والذي يسعى غالبا إلى حرف مسار المعلومات والحقائق، لتضليل الجمهور، فانحرفت الصحافة ووسائل الإعلام عن أخلاقياتها حتى أصبحت أجنحة سياسية للأحزاب والتيارات المهيمنة على السلطة، كما أنها تستخدم دائما في حروب إعلامية تشتعل الصراع بين فترة وأخرى.

ونتيجة لهذا السيناريو الذي يحكمه سلاح المليشيات ونفوذ السلطة، بات العمل الصحفي في العراق أحد أخطر المجالات، كما تحولت المهنة مجردة من كل معايرها إلى مكسب لمن لا مهنة له، وتراجعت حرية الصحافة تراجعا لافتا بحسب التقرير السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود لعام 2021، وجاء العراق في المرتبة 163 من أصل 180 دولة، وهو أمر أرجع صحفيون ومختصون أسبابه إلى عدم توافق التشريعات والقوانين مع الدستور.

الضحايا.. أرقام صادمة!

وفي أتون ذلك ومع استمرار الإفلات من العقاب، بلغ عدد قتلى الصحافة العراقية منذ عام 2003 حتى الآن 475 صحفيا”، بحسب إحصائية أوردتها صحيفة “الزوراء”، التي تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين، وهذا ما وصفه نقيب الصحفيين مؤيد اللامي، بـ”الرقم الكبير الذي لم يحصل في الحرب العالمية ولا حتى في حرب فيتنام”. 

وأخر أرقام الضحاية تلك، كان مراسل قناة “الفرات” أحمد حسن، الذي تعرض لمحاولة اغتيال،
أصيب على إثرها بطلق ناري في رأسه، بمحافظة الديوانية في العاشر من أيار/مايو 2021، فيما قتل مراسل قناة “دجلة” أحمد عبد الصمد وزميله المصور صفاء غالي في مطلع عام 2020 بمحافظة البصرة جنوب العراق، حيث كان يغطي المظاهرات المناهضة للطبقة السياسية والمطالبة بإبعاد البلاد عن الصراعات الخارجية.

بينما يزال عشرات الصحفيين وأصحاب الرأي الأخرين، مبعدين عن عوائل ومدنهم بقراري مليشياوي، ويعيشون في ظروف قاسة في بلاد المهجر، نتيجة تعرضهم لتهديدات بالقتل، أو التضيق عليهم في أماكن عملهم.

وفي اليوم العالمي لحرية الصحافة، وتحت عنوان “عصر الاستقطاب الجديد”، نشرت “منظمة مراسلون بلا حدود” (مقرّها باريس) تصنيفها الجديد لحرية الصحافة في العالم وفقا لمؤشر حرية الصحافة العالمي.

وأشارت المنظمة إلى أن هذا العام سجل رقما قياسيا مع تصنيف 12 دولة إضافية في الخانة الحمراء، وهي الدول التي يعيش فيها الصحافيون أوضاعا “سيئة جدا”، واحتل العراق في مؤشر  حالة حرية الصحافة من أصل 180 دولة ومنطقة سنويا، المركز 172، متراجعا 9 مراتب إلى الوراء.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.