لم ترحم الحرب السورية بآثارها الاقتصادية المدمرة أي فئة اجتماعية، فالكل له نصيبه من المعاناة. ولعل للمرأة السورية نالت النصيب الأكبر، في ظل ظروف لا ترحم، بموازاة أقدار سيدات قد يخذلهن الحظ، ويأخذ بهن إلى دروب ومآل وبلدان عدة.

تعثر الوصول إلى أوروبا فتح أبواب العراق

بعد أن تعثرت طرق السفر واللجوء الى أوروبا، فتح العراق ذراعيه للسوريين، وباتت أعدادهم فيها تقارب النصف مليون سوري، بعضهم من السيدات اللواتي وصلن العراق بطرق متعددة.

إلهام بكور كانت ممن أسعفها الحظ وجاءت العراق بعقد عمل مع مشفى خاص كونها طبيبة أشعة، تقول لـ”الحل نت”عن تجربتها في بغداد بعد مضي ثلاث سنوات:” بالتأكيد إنني رابحة من هذه الغربة، فظروف السوريين باتت معروفة والحال الاقتصادي متدني، صاحب المشفى يعاود التعاقد معي لما لمسه من تفان من قبلي في العمل، أنا أقيم هنا بطريقة نظامية، لكن في الآونة الاخيرة وصلت الى المشفى فتاة تعمل في القسم الإداري، جاءت من أربيل بطريقة غير قانونية، رغم ذلك المشفى أعطاها فرصة العمل لكن دون ضمانات، وبراتب أقل منا نحن اللواتي وصلن بطرق رسمية منذ أعوام”.

حاولت “الحل نت” التواصل مع الفتاة ذات الشأن لتخبرنا عن قصة هروبها من أربيل إلى بغداد وكيف تمكنت من تحصيل الفرصة، لكنها رفضت اللقاء متخوفة من كشف حالها.  

إلا أن منال منصور ابنة الاربعة وعشرين عاما، والتي تعمل في صالون للتجميل في محافظة البصرة، لم تمانع ان تسرد قصة قدومها من أربيل وتقول لـ”الحل نت”:” لماذا أخجل من ذكر حقيقة أني سعيت للقدوم الى هنا للعمل ولو تهريبا من أربيل، هل هناك فرص عمل في بلدنا. لم أدخر جهدا لأصل إلى هذا الصالون الذي قرأت إعلانا عنه في إحدى المواقع يطلب فتيات وحدد جنسيتهن بالتحديد، فتواصلت معهم وأخبروني بأنهم مستعدون لإحضاري إلى أربيل، على أن أتكفل أنا بباقي مصاريف قدومي إلى البصرة عبر طرق التهريب على مسؤوليتي، وزودوني باسم مهرب تواصلت معه دون تردد، لأني أعيل والديّ واخوتي وحالنا المزري يستحق المغامرة برأيي”.

العراق البلد الجار.. وجهة جارت على بعضهن؟

كثيرة هي الحالات التي وصلت إلى العاصمة بغداد وباقي محافظات العراق عبر كردستان العراق بطرق غير قانونية، ومعظم من وصل من الذكور، لكن الفتيات اللواتي وصلن أربيل لسن كلهن بحظ منال التي وصلت البصرة بنجاح.

المهندسة انتصار حمود، كان لها قصة خاصة عند وصولها أربيل في محاولة للتوجه لبغداد علها تحصل فرصة عمل، تحكي لنا محذرة مما لاقته هناك:”أشكر الله بداية أنني تمكنت من النجاة من مهربي أربيل، ورغم خسارتي لكل نقودي إلا أن عودتي  لدمشق وأنا خاسرة أرحم من سطوة من قابلتهم هناك، فما أن وصلت تحايل عليّ المهرب الذي تواصلت معه ليوصلني من مطار أربيل إلى بغداد، وأخذ مني جواز سفري واحتجزه مبتزا إياي كي أعطيه ألف دولار لم يكن ضمن الاتفاق، أمضيت اسبوعاً في الفندق في أربيل. أسعفني الحظ بالتعرف على عراقية ساعدتني بأن أخذتني إلى دائرة الاقامة واشتكيت على المهرب وتمت ملاحقته واستعادة جواز سفري الذي عدت به إلى بلدي”.

تضيف انتصار موضحة: “قد تسألوني لما لم أبقى في أربيل وأبحث عن عمل، إجابتي هي لأني لم أشعر بالأمان هناك، خصوصا أن من أعرفهم هم في بغداد، ولا اعرف أحدا موثوقا في أربيل، وسمعت وشاهدت قصصاً لفتيات ضاعوا في العراق، فخفت وفضلت العودة”.

لعل السيدة “سماهر” وهو اسم مستعار، كانت قصتها من بين قصص الفتيات اللواتي سمعت  عنهن انتصار، فهي تقيم في أربيل منذ عام ونصف في منطقة عنكاوة، وتعمل في مركز للمساج، تخبر “الحل نت” عن حالها وتقول: “لقد وصلت أربيل بفيزا نظامية ومن مكتب نظامي، وفي ذهني البقاء فيها والبحث عن عمل، جربت بداية أن أعمل في عيادة أحد الأطباء كسكرتيرة إلا أنه حاول التحرش بي مستغلا وجودي لوحدي، فبحثت كثيرا عن عمل آخر، إلى أن التقيت بسيدة عراقية لديها مركز للمساج، أمنت لي السكن مع بنات أخريات بعضهن سوريات أيضا وبأجر جيد، بشرط أن نقدم للزبون كل خدماتنا ولو في وقت متأخر”.

وتضيف “سماهر”: “لا أنكر أني أشعر بأن هذا ليس مكاني، ولم تكن نيتي هذا المصير، لكن الحياة هنا فارهة والزبائن كرام، ولعلي للأسف اعتدت على هذا النمط من الحياة، يبدو أني غرقت وانتهى الأمر”.

دور المجتمع والأهل في مصير بناتهن

تبرز الاحصائيات المجتمعية أن العراق يقدم مساعداته ويستقبل القادم اليه من السوريين، ولا ينكر أحد أن العلاقة بين شعبي البلدين تعتبر من أوثق العلاقات.

إلا أن تلك الحالات التي وصلت إليها بعض الفتيات ممن تم استغلال حاجتهن من ضعاف النفوس، تطرح سؤالا هاما عن دور الأهل في السماح لبناتهن بالذهاب إلى بلد في فرصة عمل غير واضحة المعالم.

الباحث الاجتماعي عماد حيدر أستاذ علم النفس في جامعة “تشرين” شرح لـ “الحل نت” قائلا بأن: “الوضع الاقتصادي المأساوي للأسر السورية دفع بالكثير من العوائل للاعتماد على أبنائهم في الغربة، مادفع ببعض الآباء بالعمل على تأمين سفر حتى لابنته علها تجد عملا في العراق لترسل لهم المال، رغم معرفتهم أن وضع العراق معقد، ومجتمعه في جله محافظ، إلا أن ضيق الحال فعّل عندهم قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، فبات هم تأمين العيش أهم من طريق هذا التأمين. لذلك يجب تفعيل الندوات التوعوية حول مخاطر سفر الفتاة إلى بلد دون عمل مضمون، وأن تكون هناك برامج في الإعلام حول المخاطر التي تتعرض لها الفتيات وطرق استغلالهن، والعمل ختاما على تأمين فرص عمل للفتيات وتأهيلهم في المشاريع المنزلية الصغيرة”.

اللاجئات السوريات.. قصة أخرى

بعد تناقص الدعم الممول من المنظمات الدولية المهتمة بقضايا اللاجئين والنازحين في المخيمات العراقية، وإغلاق الحكومة العراقية المخيمات وسط العراق وغربه أواخر 2020، مع الإبقاء على بعض المخيمات في إقليم كردستان العراق، فضلت كثيرات ترك المخيمات بحثا عن فرص عمل خصوصا اللاتي تركهن أزواجهن أو توفوا.

وبلغ عدد اللاجئين السوريين في العراق عام 2021 حوالي 242163 سوريا، وشكلت النساء 48 بالمئة من إجمالي العدد.

أم أحمد الديراني لاجئة سورية قادمة من أحد المخيمات في كردستان العراق، تقول لـ “الحل نت”: “بقينا في المخيم لسنتين، لكن بعد كورونا ومع تناقص المعونات، ووفاة زوجي، ساء الحال، فتركت المخيم حال معرفتي بوجود شركات توظف عاملات للتنظيف، وتمكنت من الوصول إلى بغداد وبدأت العمل كعاملة نظافة في أحد المقاهي التي يرتادها الرجال فقط، وهناك كنت عرضة للتحرش اللفظي وأحيانا الجسدي من قبل رواد المقهى، خصوصا عند معرفتهم باني سورية لاجئة فاعتقدوا أنني قد أمنحهم جسدي مقابل الطعام أو الحصول على بعض النقود، وللأسف تم طردي من العمل بعد أن لقنت زبونا درسا قاسيا بعد لمسه لي بطريقة خادشة، وأنا الآن أبحث عن عمل آخر”.

لاجئات أخريات فضلن العمل كمتسولات بعدما وجدن على أرصفة الطرق في العراق فرصة لاستقطاب الشباب العراقيين أيضا، خصوصا وأنهن منافسات للمتسولات العراقيات بما تملكه المرأة السورية من جمال وحنكة في الكلام.

تقول نادية وهي لاجئة من الشمال السوري لـ “الحل نت” وهي تحمل طفلها على حضنها عند ساحة الواثق في بغداد:” نعم أنا أتساءل هنا، ماذا يمكنني أن أفعل؟ هنا في الشارع أشعر أني محمية أكثر من العيادات والمقاهي، فأنا على مرأى من الجميع، والعراقيون كريمون ويشفقون علي خصوصا وإني أم. الحقيقة أنا أعاني من المتسولات العراقيات اللواتي يتشاجرن معي لأنهن يعتقدن أني أنافسهن، أعيش مع أختي في غرفة في حي البلديات وهي تتسول أيضا، لكننا حريصات على نفسينا، وليس أمامنا سوى التسول لإطعام أطفالنا، خصوصا وأننا لا نستطيع العودة إلى بلدنا فمنزلنا مدمر وحينا بأكمله لم يعد موجودا”. وعلى أمل أن تنتهي رحلة الاستغلال للسوريات اللواتي قدمن طوعا للعراق، أو اللاجئات اللواتي أجبرتهن الحاجة على التسول أو العمل في ظروف مهينة تفتقر إلى الحماية من المتحرشين وضعاف النفوس، لعل بلادهن تبقى أرحم على حالهن من أي مكان في العالم، مهما جارت عليهم الحرب بظروفها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة