أكدت محكمة الاستئناف بباريس، يوم الأربعاء الماضي، لائحة اتهام شركة تصنيع الإسمنت الفرنسية لافارج بـ “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية”، بسبب دعمها “المزعوم” لتنظيم “داعش” الإرهابي.

وتعتبر هذه القضية، التي تسببت في تلويث سمعة مجموعة “لافارج”، عملاق الإسمنت العالمي، رمزا لفشل الدبلوماسية الفرنسية في سوريا. فها هي الشركة متعددة الجنسيات، والتي اندمجت في عام 2015 مع منافستها السويسرية هولسيم، متهمة بـ “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية”، بسبب أنشطتها في شمال سوريا، وهذا حتى عام 2014.

ويشتبه القضاء الفرنسي اليوم في أن هذه الشركة قد دفعت ملايين اليوروات لمدة عامين تقريبا للجماعات الإرهابية، بما في ذلك تنظيم “داعش”، التي كانت ناشطة في منطقة معمل الإسمنت الواقع في جلابية شمالي سوريا، على بعد 150 كيلومترا شمال شرقي حلب. وقد تم دفع هذه المبالغ إما في عملية ابتزاز تقليدية في منطقة حرب للتمكن من عبور نقاط التفتيش لمواصلة أنشطة “لافارج” المربحة في سوريا، أو من خلال الحد من مخاطر الهجمات أو الاختطاف.

ووفقا لمحكمة استئناف باريس، التي تبعت في هذه النقطة طلبات مكتب المدعي العام، فإن الشركة متعددة الجنسيات كانت تتصرف “بمعرفة دقيقة بأعمال” المشروع الإرهابي. وكانت المجموعة قد استثمرت 680 مليون يورو في بناء الموقع، الذي اكتمل في عام 2010، قبل أشهر قليلة من اندلاع الثورة السورية في جزء من البلاد، والتي تحولت فيما بعد إلى حرب أهلية مستمرة حتى يومنا هذا، وفق تقرير نشرته صحيفة “هيومانيتي” الفرنسية، وترجمه موقع “الحل نت”.

ومع ذلك، حصلت “لافارج” في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 على إلغاء لائحة الاتهام لعام 2018 عن نفس تهمة “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية” من نفس محكمة الاستئناف، قبل أن تلغيها محكمة النقض في أيلول/سبتمبر 2021. ولفهم قانوني لما حدث، ومع كل حالة سياسية معقدة، من الضروري على وجه التحديد العودة إلى بدايات الحرب السورية هذه وإلى لعبة فرنسا المضطربة، والتي راهنت، تحت رئاسة فرانسوا هولاند ووزير خارجيته، لوران فابيوس، على سقوط بشار الأسد، بغض النظر عن قوة معارضيه وحقيقتهم. وفق ما ذكرت الصحيفة.

فالرئيس الفرنسي حينها، شن حملة متحمسة في نهاية آب/أغسطس 2013 للتدخل العسكري الغربي من أجل “معاقبة” حكومة دمشق على استخدامها أسلحة كيماوية في إحدى ضواحي دمشق. أما وزير خارجيته، لوران فابيوس، فكان قد أعلن قبل ذلك بعام أن “بشار الأسد لا يستحق أن يكون على الأرض”، قبل أن يثير جدلا حادا في كانون الأول/ديسمبر 2012 بكيله المديح لـ”جبهة النصرة” الإرهابية، فرع القاعدة السوري والجماعة المسلحة الرئيسية في البلاد قبل ظهور تنظيم “داعش”. وباعتباره لنفسه ناطق باسم المعارضة السورية، التي هي نفسها تحت تأثير ممالك النفط في الخليج، انتقد وزير الخارجية الفرنسي قرار الولايات المتحدة بوضع “جبهة النصرة” على قائمة التنظيمات الإرهابية الخاصة بها، حيث تجرأ حينها قائلا: “كل العرب وقفوا ضد الموقف الأمريكي، لأن مقاتلي جبهة النصرة يقومون بعمل جيد على الأرض”.

مهووس بسقوط “جزار دمشق”، كما أطلقت عليه الصحافة الفرنسية حينها، لم يكلف ساكن “الإليزيه” نفسه عناء تقصي حقيقة المسلحين المعارضين لدمشق. بل انشغل بالبحث عن بديل أنيق في حال سقوط بشار الأسد. وبينما شهدت منطقة حلب، الرئة الصناعية السابقة للبلاد، نهبا منهجيا لمصانعها من قبل مجموعات مسلحة لا حصر لها في المنطقة، اعتقدت الرئاسة الفرنسية وأجهزة مخابراتها أنهم عثروا على ضالتهم في فراس ومناف طلاس. فهؤلاء الأخيرين سليلين لعائلة سورية مرموقة، ووالدهم، مصطفى طلاس، كان وزيرا سابقا للدفاع (1972-2004) وأحد أعمدة النظام السابق، وقد اختارا خندق المعارضة.

وفي الوقت الذي امتلك فيه مناف طلاس، بحسب باريس، كل الصفات لخلافة بشار الأسد، نجح شقيقه فراس في ترسيخ نفسه وسيطا مركزيا لمجموعة “لافارج” في سوريا، بحصة تقارب 20 بالمئة في معمل إسمنت جلابية. ولم تكن الدولة الفرنسية ولا أجهزة مخابراتها يجهلون على ما يبدو اللعبة القذرة التي لعبتها “لافارج”، ووسيطها في سوريا. ولكن مع ذلك، فإن الشركة متعددة الجنسيات وحدها هي التي ستضطر إلى الرد على الاتهام الشائن “بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.