تختزل قضية الاعتقالات في سوريا طبيعة العلاقة بين الشعب والسلطة الحاكمة، كما أنها تشكّل أحد مكونات هذه السلطة وماهيتها، فالاعتقالات، وبالآليات والوسائل التي تتم بها، هي الصفة المادية الأكثر تعبيراً عن حقيقة السلطة، بوصفها عصبة فئوية تمارس العنف في أعتى أشكاله، لم ترق يوماً لمرتبة النظام السلطوي أو البوليسي، على الأقل بالشكل الذي عاهدناه في العالم العربي.

لا قبل الثورة ولا بعدها، أخذ الاعتقال في سوريا طابعاً قانونياً، وكان يتم دوما على شكل اختطاف من الشوارع وعلى الحواجز، أو عبر مداهمات مروعة لمنازل المدنيين في ساعات ما بعد منتصف الليل، ودائما لا تعلن الجهة القائمة بهذا الفعل عن نفسها، في بلد يوجد فيه عشرات الفروع  الأمنية، تتداخل اختصاصاتها بدرجة كبيرة.

السؤال الذي طالما كان يطرح نفسه في سوريا: ما حاجة الدولة لاستخدام هذه الآليات والأساليب في اعتقال مواطنيها، ومما تخاف إذا كانت لديها المبررات القانونية لاعتقال شخص ما؟ لا يشترط هذا الأمر وجود نظام ديمقراطي من غيره، بقدر ما هو أحد شروط وجود دولة أو الاعتراف بها من قبل شعبها وإلا فإننا بمواجهة عصابة تستقوي على الجميع بأنها مسلحة.

منذ بداية الثورة، اتخذت سياسة الاعتقال في سوريا نمطاً فوضوياً مقصوداً زاد من تعقيداتها والتباساتها، وكانت جزءاً من سياق أوسع أراد من خلاله النظام قتل الثورة بأسرع وقت ممكن، فكان الاعتقال المكثف والفوضوي أداة من أدوات الحرب، إلى جانب القصف والدمار، والهدف من وراء ذلك وضع السوريين الثائرين عليه بمأزق يلزمهم الخروج منه صرف طاقات كبيرة في مجال بعيداً عن الثورة، عبر الانشغال بأزماتهم وأحزانهم.

في بدايات الثورة، التقت العديد من الوفود مع رأس النظام وبعض قيادات أجهزته الأمنية، كان المطلب الأساسي لهذه الوفود في هذه اللقاءات إخراج السجناء وإلغاء قوائم المطلوبين التي تجاوزت أرقامها المليون مطلوب، مقابل ضمانات بإمكانية التهدئة، لكن النظام رفض ذلك وطالب بالتهدئة أولاً ثم تسليم المطلوبين لأنفسهم للأجهزة الأمنية، وهو ما رأت فيه المجتمعات المحلية السورية نوعاً من الاستسلام بدون شروط.

القصة بعد ذلك معلومة، إذ قام الجزء الأكبر من المطلوبين إما بالانتساب إلى التشكيلات الثورية المسلحة والتي تبين لاحقا أنها مخترقة ومشبوهة، حماية لأنفسهم من الاعتقال بعد أن لم يعد لديهم خيارات أخرى سوى الاعتقال والموت تحت التعذيب، أو الهرب إلى خارج سوريا عبر شبكات التهريب العديدة التي انتشرت في تلك الفترة تحت أعين النظام ومراقبته، ما يعني أن النظام الذي رفض الحلول التي قدمتها المجتمعات المحلية كان يدرك أن مخرجات سياساته تلك ستكون على شكل عسكرة الثورة وهروب القسم الأكبر من السوريين، وهو ما سيتضح بعد ذلك أنها خيارات صبت في صالحه بدرجة كبيرة.

ما الذي تغير الآن حتى يقدم النظام على إخراج المعتقلين من السجون؟ هل هي سياسة عقلانية ناتجة عن إحساس النظام بأنه تجاوز الخطر وبالتالي لن يؤثر عليه إخراج أشخاص أنهكتهم سنوات السجن، ما دامت بيئتهم الحاضنة تئن تحت ضغط جروح وآلام ستحتاج سنوات طويلة لمداواتها؟

الجواب بالطبع لا، ليس لأن هذا النظام لم يعتد على إتباع سياسات عقلانية تجاه محكوميه طوال تاريخه، بل لأنه بالأصل يتعامل معهم بمنطق الانتقام والإغراق الدائم في الأزمات، ولا يوجد سقف محدّد لحجم الألم الذي يمكن التوقف عنده في إيذائهم، وبالتالي فإن هذه الحركة تثير السؤال عن الهدف الحقيقي الذي يقف وراءها؟.

من الواضح، ومن سياقات الحدث وحولياته، أن النظام يسعى لتوظيفه في إطار إعادة تأهيله من جديد، وهذا تكتيك أرشده إليه مرشدوه وناصحوه الإقليميين، فهذا النظام الذي لا يستطيع تقديم شيء يساعدهم من خلاله على إعادة تأهيله، يمكنه فعل ذلك دون خسارة شيء، أي إخراج بعض من تم اعتقالهم، أو حجزهم، وقبض ثمنهم من المجتمع الدولي، بمعنى رسملة هذه الخطوة وتحويلها إلى منتج يفتح له أبواب كثيرة، سواء على صعيد العلاقات الإقليمية والدولية، أو على مستوى دخول الاستثمارات إلى سوريا، وكل ذلك دون أن يقدم أدنى تنازل سياسي، ومن كيس الشعب نفسه، على ما يقول المثل الشامي “من دهنه سقيله”.

ليس سراً أن ناصحي النظام ومستشاريه الإقليميين، درسوا توجهات رياح السياسة الدولية ومزاجها في هذه المرحلة، ورغبة العديد من الفاعلين الدوليين النزول عن شجرة مطالبهم العالية من نظام الأسد، نتيجة تعبهم من هذه الأزمة، وخاصة بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية التي استحوذت على طاقات وجهود القوى الدولية، وبالتالي تجد نفسها بحاجة لأي مبرر للخلاص من صداع الأزمة السورية المزمن.

وتبدو الظروف مناسبة لتحقيق خرق في هذا المجال، من خلال استغلال مبادرة المبعوث الأممي غير بيدرسون لسوريا “سياسة الخطوة خطوة”، والتي وإن لم تلق اعترافا صريحاً بها، إلا أن أحداً من القوى الفاعلة لم يعترض عليها، وبالتالي يمكن استثمارها في هذا المجال، وتقديم عملية إخراج جزء من المساجين على أنها خطوة إيجابية في هذا المسار يستلزم حصول مقابل لها.

سيتزامن هذا التحرك مع ضغوطات تتعرض لها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للتفاوض مع النظام السوري من أجل إخراج الصحفي الأمريكي”أوستن تايس” المعتقل في سجون النظام، وقد تجد الإدارة نفسها مضطرة إلى تقديم بعض التنازلات للحصول على مطلبها، وقد سبق لإدارة باراك أوباما، التي كان بايدن جزءاً منها التنازل عن خطها الأحمر من أجل أهداف أكثر إستراتيجية وفق تصورها، التخلص من الكيماوي لحماية أمن إسرائيل.

لن تستغربوا غداً، عندما يبدأ مندوب روسيا في مجلس الأمن، وبعض المندوبين العرب، المطالبة بأثمان مقابلة لخطوة الأسد، والذي سيصبح، وفق خطابهم، ملتزماً بالمبادرات الدولية، وعلى المجتمع الدولي مقابلة هذا الالتزام بتنازلات لن تكون سوى على حساب السوريين، وقد يتم بناء عليها إغلاق ملف مئات آلاف المعتقلين والمغيبين قسراً، ومنح الأسد فرصة لاعتقال مثلهم من جديد،ما لم يتم ممارسة ضغوط كافية سواء من المنظمات المدنية الدولية أو السورية ومن المجتمع الدولي عموما والغربي على الخصوص.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.