بالرغم من الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن مؤخرا إلى إسرائيل والمملكة العربية السعودية، والوعود التي قدمها بعدم “الابتعاد وترك فراغ تملأه أي من الصين أو روسيا أو إيران”، فإن الحديث في المنطقة لازال يتمحور حول إمكانية ابتعاد الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط.

لقد سئم الديمقراطيون والجمهوريون في واشنطن من الشرق الأوسط، بعد خيبة الأمل في حرب العراق وانهيار الاتفاق النووي الإيراني وعواقب التدخلات الفاشلة في سوريا وليبيا. وتبع ذلك ضجة حول احتمالية حدوث انفتاح إقليمي على الصين، لكن الأمر لا يتجاوز كونه مجرد جعجعة بلا طحين. فبكين العدوانية التي تنتهز الفرص التجارية لا تزال غير مهتمة باختيار الوقوف إلى أحد الجوانب في ألعاب النفوذ المستمرة في الشرق الأوسط.

ويمكن للتسامح بين القادة العرب والإسرائيليين أن يعزى إلى اعتقادهم أن الرئيس الصيني شي جين بينغ في طريقه لانتزاع دور الولايات المتحدة كقوة مهيمنة محلية. وفي العام الماضي، تم إنتاج ما يزيد عن نصف النفط الخام المستورد لصالح الصين في المنطقة. وفي العام 2021، بلغ حجم التجارة المتبادلة بين المنطقة العربية والصين 330 مليار دولار، أي بزيادة تفوق الثلث عما كانت عليه في العام الذي سبقه. كما تتفاخر الصين بوجود ما يزيد عن 20 شريكا لها في الشرق الأوسط وإفريقيا ضمن مبادرة الحزام والطريق. وقد وقعت بكين 15 اتفاقية “شراكة إستراتيجية” مع الدول العربية خلال العقد الماضي.

ولكن يبتعد القادة الصينيون باستمرار عن لعب أي دور في النزاعات الأمنية أو السياسية بين الدول العربية وإيران وإسرائيل. وتؤكد الوثائق الحكومية الإستراتيجية، مثل “ورقة السياسة العربية للعام 2016” والتي تدعم توجه بكين نحو الغرب، على الروابط الاقتصادية والمساعدة الإنمائية مع تهميش أي دور آخر قد تلعبه الصين. ومحليا، تتذبذب آراء الخبراء الصينيون بين الحذر من المشاركة السياسية الأعمق في الشرق الأوسط، حيث مثلت المشاكل التي واجهت الولايات المتحدة تحذيرا واضحا لبكين، والحرص على تعميق العلاقات مع الجهات التي تشكل مصدرا هاما للنفط في الوقت الذي يتزايد فيه انعدام الأمن في مجال الطاقة.

وقد أشارت المبادرات الأخيرة إلى أن بكين ربما تتجه ببطء نحو المزيد من المشاركة السياسية. وكان الاقتراح المكون من أربعة نقاط والمقدم من وزير الخارجية الصيني وانغ يي، فيما يخص الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي تم طرحه وسط صراع أيار/مايو 2021 بين إسرائيل وحماس، مثيرا للاهتمام في جوهره لمجرد أن تحدث الوزير عن مسائل إستراتيجية جوهرية مثل حل الدولتين وإقامة عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية وأهمية تحرك مجلس الأمن الدولي لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ولكن مثلها مثل ما عمل المبعوث الخاص للسلام في الشرق الأوسط، كانت النقاط الأربع ذاتها عامة وتحث على الحوار وتضع حدا لـ “أعمال العنف ضد المدنيين” وغير ذلك من بروميدات عملية السلام.
وبالمثل، فقد أثبتت اتفاقية التعاون التي أبرمتها بكين العام الماضي مع طهران ولمدة 25 عاما أنها تميل لكونها أقوال أكثر من أفعال، حيث أشار الخبراء إلى أن الشركات الصينية سوف تضطر إلى استثمار 16 مليار دولار وسطيا وبشكل سنوي في إيران لتحقيق هدف الاتفاقية، بينما وعلى سبيل المقارنة بلغ إجمالي استثمارات الصين في إيران 4.7 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من العام 2005 إلى العام 2020.

بدأت الصين بالمثل بزيادة مشاركتها على الجانب الأمني، فقد ساهمت في ما يزيد عن 1800 جندي ضمن بعثات حفظ السلام في المنطقة وحولها التابعة للأمم المتحدة اعتبارا من العام 2020، حيث يوجد 419 جندي في لبنان و370 في السودان و1072 في جنوب السودان. كذلك شاركت البحرية الصينية في مهمات أمنية بحرية في بحر العرب وخليج عدن وأنشأت أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي في العام 2017. وحتى أنه كان هناك مقترح لبناء بكين قاعدة عسكرية سرية في ميناء في الإمارات العربية المتحدة التي تحتل مكانة إستراتيجية هامة.

من جانبها، تعاملت الحكومات العربية والإيرانية والإسرائيلية مع الصين بحذر، وبحماس فيما يخص احتمالات الاستثمار وشراء الأسلحة. وربما يؤدي تراجع قدرة روسيا على بيع الأسلحة إلى صقل ازدهار بكين، كما فعل استعداد الصين لبيع الطائرات المسيرة المتطورة إلى الحكومات العربية. وقد بلغت صادرات الأسلحة الصينية إلى المنطقة الضعف تقريبا خلال العقد الماضي. كما أن عدم اهتمام بكين بالديمقراطية أو انتهاكات حقوق الإنسان جعل من الصين شريكا أكثر جاذبية، على النقيض من الولايات المتحدة التي دائما ما تربط الخيوط السياسية بمبيعات الأسلحة والمساعدات الاقتصادية وصناديق التنمية.

وبالنظر إلى كل الأشكال المختلفة للانخراط الصيني الكبير في الشرق الأوسط، تتبلور فكرة محاولة انتزاع دور الولايات المتحدة في المنطقة. وفي الواقع، يمكن تبرير اعتقاد المحللين أن هناك لعبة كبيرة تتم على قدم وساق، ولكن لا وجود لها والسبب بسيط جدا! فالمخاوف العربية والإسرائيلية تتلخص في أولوية عليا واحدة وهي احتواء إيران.

وتبقى الولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة المستعدة والقادرة على معاقبة النظام الإيراني على سلوكه الإقليمي الخبيث، ذلك بالرغم من حرص إدارتي أوباما وبايدن على استرضاء طهران. ففي ظل إدارة أوباما، تم إرسال النقود إلى طهران في بداية الاتفاق النووي الإيراني، وتم شراء المواد الأولية المخصبة والمنتجة للنووي في انتهاك لالتزامات طهران، ورفض فرض عقوبات على مبيعات النفط الغير مشروعة في ظل إدارة بايدن.

ومن منظور إسرائيل والقوى العربية السنية في الشرق الأوسط، فإن لعبة الإدارة الأميركية لعزل قادة إيران من السلطة مثالية. وفي غياب ذلك، فإن رد إدارة بايدن على طهران، بالرغم من أنه لا يرقى إلى المستوى الأمثل، يتفوق على ما ستقدمه الصين.

فبالرغم من أن إدارة بايدن كانت أقل صرامة في التعامل مع إيران مقارنة بإدارة ترامب، إلا أنها وبالرغم من ذلك كانت على استعداد لمنع شحنات الأسلحة الإيرانية إلى حلفائها في أماكن مثل اليمن، وفرض عقوبات على برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية ومقاومة محاولة “الحرس الثوري” الإيراني تهديد السفن في المياه الدولية للخليج العربي.

كذلك كان تأكيد بايدن مجددا على استعداد الولايات المتحدة “استخدامها جميع عناصر قوتها الوطنية” في سبيل منع إيران من الحصول على سلاح نووي، موضع ترحيب ومناقض تماما لنهج الصين الأكثر حذرا فيما يخص التهديد من طهران.

ولو كان للاهتمام بالسلاح والمال أولوية لدى دول الشرق الأوسط، لكانت الصين اكتسبت محل نفوذ كوسيط قوي. إلا أن بكين غير مهتمة بلعب دور في سياسات توازن القوى، ناهيك عن توفير مظلة أمنية لمثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. كما أن توجه بكين يأتي بحسب أولوياتها في المنطقة مع التفاتة عرضية فقط للمصالح الأمنية المحلية. وهذا يضع الصين عند تقاطع الطرق التجارية الرئيسية كمشتري لإمدادات الطاقة الحيوية وبائع أسلحة ومشارك غير منهجي في القضايا الجيوستراتيجية مثل عملية السلام والمفاوضات النووية الإيرانية. وهي لن تذهب إلى أبعد من ذلك.

ومن غير المرجح في المستقبل المنظور أن يتغير الدور الصيني. فسوف تستمر بكين بالقلق فيما يخص أمن مصادر الطاقة في الشرق الأوسط، وسوف تسعى للتمتع بنفوذ سياسي على مورديها الرئيسيين والبحث عن فرص لإبراز قوتها العسكرية بشكل أفضل. ولكن طالما بقي الرئيس شي عازما على النزول بقوة لصالح كلا الجانبين في صراع القوة بين إيران وجيرانها الإقليميين، فسوف تظل الصين لاعبا أقل حظا من الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.