في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، في نفس الوقت الذي كانت فيه مدونة السفر الأيرلندية جانيت نيوينهام تصور مقاطع فيديو لجولاتها في دمشق وحلب، قتل خمسة أفراد من عائلة واحدة، بينهم ثلاثة أطفال، في غارة جوية روسية على شمال غربي سوريا. لكن لا أحد من متابعي نيوينهام، البالغ عددهم 170 ألف مشترك على اليوتيوب، يعلم أنه من خلال رسائلها المبهجة في مقاطع الفيديو الخاصة بها، فإن نيوينهام تروج بأن سوريا لم تعد دولة في حالة حرب.

بعد حرب الأرض المحروقة؛ بدعم من الميليشيات الإيرانية والقوات الجوية الروسية، استعادت حكومة دمشق السيطرة على جزء كبير من سوريا، لكن أكثر من نصف سكانها لا يزالون نازحين أو لاجئين، بحسب ما أفاد به تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، وترجمه موقع “الحل نت”.

حكومة دمشق الآن منبوذة دوليا، تخنقها العقوبات، ومدينة لكل من إيران وروسيا. وهي تحتاج إلى شريان حياة اقتصادي بأقصى بسرعة، لكن من الصعب إقناع المستثمرين بأن البلاد منفتحة على الأعمال التجارية عندما تظل صورتها مرتبطة بحرب وحشية.

بعد سقوط حلب قبل ست سنوات، حاولت حكومة دمشق تجنيد صحفيين دوليين للمساعدة في إعادة تأهيل صورتها. وقد دفع والد زوجة الرئيس السوري بشار الأسد، فواز الأخرس، أموالا كثيرة لتنظيم الزيارات لدمشق ومقابلة كبار المسؤولين، بمن فيهم الأسد نفسه. كان هذا الجهد كارثة في العلاقات العامة. وكتب معظم المراسلين نقدا عن تجربتهم، وتعلمت حكومة دمشق درسا قيما، بأنه طالما ينظر إلى سوريا من منظور سياسي، فإنها ستعاني من أجل الحصول على تغطية تناسبها.

إدخال مؤثر السفر والسياحة

على مدى السنوات القليلة الماضية، عملت دمشق بجدية على تجنيد مستخدمي اليوتيوب وأصحاب النفوذ للمساعدة في تلميع صورة دمشق. هذه فكرة بارعة، لأن معظم المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال السفر يعتبرون أنفسهم غير سياسيين، ويهتم جمهورهم بشكل أساسي بالمشاهد والأصوات والنكهات. النغمة التقليدية لمثل هذه الفيديوهات مبهجة، مع وجود مساحة صغيرة للتذكير بالمأساة.

وبقدر ما تعترف مقاطع الفيديو بتدمير سوريا، فإنها تصبح جزءا من الجمالية، وتضيف تلميحا عن الخطر والجاذبية إلى المغامرة. على “انستغرام” و”تيك توك”، لم يعد من غير المألوف رؤية المؤثرين يتصورون أمام الأحياء المدمرة. بالنسبة لهم، هذا كله جزء من تجربة البلاد الغريبة، جنبا إلى جنب مع الأسواق والبازارات والمساجد والقلاع والمطاعم في البلاد.

يدخل هؤلاء المؤثرين البلاد من خلال تأشيرة ممنوحة فقط عندما يقوم المؤثر بترتيب الإقامة من خلال وكالة سفر معتمدة من قبل حكومة دمشق، حيث يتم فحص جميع طلبات التأشيرات لاستبعاد الصحفيين، وبمجرد وصولهم إلى سوريا، يتم تخصيص مرافقين للمسافرين المؤثرين، عادة على هيئة مترجمين.

في حين أن معظم المؤثرين يبدون غير مبالين بالفظائع المرتكبة في البلاد، فإن البعض لديهم شعور بالذنب الأخلاقي، وبالتالي فإن التحجج بعدم وجود “أجندة سياسية” شائع بينهم. تقول نيوينهام، على سبيل المثال، مبررة: “لا شيء من مقاطع الفيديو يقصد به أن يكون تعليقا سياسيا”. لكن في مقطع فيديو آخر، تدعي في حديثها بأن حمص قد دمرت “بضربات جوية من أشخاص خارج سوريا”.

من جانبه، يلقي المؤثر في “تيك توك”، داود أخوندزادا، باللوم في تدمير البلاد على المعارضة السورية لحملها السلاح ضد الحكومة السورية، حيث يقول وهو يشير إلى الأحياء المدمرة: “نتيجة لذلك، هذا ما تبقى”.

تستغل حكومة دمشق سذاجة وانتهازية هؤلاء المؤثرين، وتضخم تصريحاتهم وهم يعلنون بأن سوريا آمنة عبر وسائل الإعلام. لكن حتى بدون ترديد تصريحات دمشق بشكل صريح أو القيام بحملة علاقات عامة لها، فإن هؤلاء المؤثرين يروجون لأجندة دمشق من خلال نقل الانطباع الخاطئ بأن مشاكل البلاد باتت من الماضي، في حين لا يزال معظم السوريين يعانون في مناطق النزوح الداخلي أو كلاجئين في الخارج، فضلا عن أن هناك أكثر من 100 ألف اختفوا ببساطة في غرف التعذيب.

وفي حين أن معظم السوريين لا يتمتعون بحرية زيارة منازلهم أو العودة إليها، فإنهم يرون سائحين أجانب، غير مبالين بألمهم، يدوسون حطام أحيائهم، ويدنسون مواقع الجرائم الجماعية.

وفي حين أن قيمة مثل هذه السياحة لحكومة دمشق واضحة، إلا أن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن العديد من المنشورات رعتها شركات غربية! فقد قامت الشركة المسؤولة عن تطبيق “دولينغو” (وهو تطبيق خاص بتعلم اللغات) و “سرف شارك” (هي شركة أمن معلومات هولندية) و”سكيل شير” (منصة تعليمية عبر الإنترنت للأشخاص الذين يرغبون في التعلم من مقاطع الفيديو التعليمية) برعاية جميع مقاطع الفيديو التي تم إنتاجها خلال رحلات السفاري الوحشية تلك.

وتمكن المدونون من استثمار هذا المحتوى على “يوتيوب”. وفي بيان، قال متحدث باسم “غوغل” (الشركة الأم لموقع يوتيوب) إنها تطلب من منشئي المحتوى والمعلنين الامتثال لجميع العقوبات السارية وعدم نشر أي محتوى ينتهك سياساتها، لكنه لم يتطرق إلى مقاطع الفيديو الخاصة بسوريا على وجه التحديد.

وفي أحد مقاطع الفيديو على “يوتيوب”، استخدم مدون الفيديو الإنجليزي بنيامين ريتش، منازل مهجورة كخلفية لبيع اشتراكات “سرف شارك”. وتقر نيوينهام ببعض التحفظات في مقاطع الفيديو الخاصة بها، لكن عندما تواصلت معها الصحيفة الأميركية، رفضت الإجابة على أي أسئلة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.