أزمة غير مسبوقة منذ أواخر التسعينيات تشهدها الصين حاليا، حيث اهتزت سوق العقارات الصينية بشدة منذ أواخر تموز/يوليو الماضي، عندما هدد مشترو المنازل الغاضبون في البلاد بوقف مدفوعات الرهن العقاري على المشاريع غير المكتملة، في حين يكافح معظم مطوري العقارات الصينيين لإعادة تمويل سنداتهم المحلية، وسط هبوط أسعار المساكن على مدى الأشهر الـ 11 الماضية.

وتأتي هذه الأزمة نتيجة قيام شركات التطوير العقاري بجمع مبالغ كبيرة من خلال البيع المسبق للشقق التي لم يتم بناؤها بعد، قبل أن يفشل بعضها في ضمان الانتهاء من بناء هذه الوحدات، وبالتالي ارتفاع وتيرة الأفراد والشركات الذين توقفوا عن دفع الرهون العقارية لشركات المقاولات، بسبب تأخر تسليم العقارات.

في الصين، يتم بيع أكثر من 85 بالمئة، من المنازل من خلال البيع المسبق، حيث تبدأ الرهون العقارية قبل سنوات من اكتمال المباني، وتسليمها إلى المشترين النهائيين وفقا للعقود.

ركود طويل الأمد؟

في تقرير نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأميركية، قال الكاتب براد ساستير، إن أزمة العقارات في الصين تنطوي على مخاطر مالية ستتسبب في نهاية المطاف في أزمة نمو اقتصادي.

وأردف ساستير، “بما أن تطوير وبناء العقارات الجديدة يمثل أكثر من ربع النشاط الاقتصادي الحالي للبلاد، فمن المحتمل أن يتحول الانكماش المؤقت في سوق العقارات إلى ركود اقتصادي طويل الأمد”.

ووفق تقدير الكاتب، يمكن للحكومة الصينية أن تطلب من شركات التطوير العقاري المدعومة من الدولة إكمال مشاريع البناء التي تخلت عنها شركات المقاولات الخاصة، في مقابل تقديم المساعدة المالية من خلال بنوك الحكومة الصينية.

لكن، وفق اعتقاد الكاتب فربما لا يكون التدخل الحكومي الشامل أفضل طريقة لإدارة الاقتصاد بمرور الوقت، لكن وجود مؤسسات ذات جيوب عميقة يمكن أن يمنع التأثير المزعزع للاستقرار الناجم عن انسحاب جميع التمويلات لسوق العقارات، على حد وصفه.

عمّال يسيرون بالقرب من المباني السكنية غير المكتملة في موقع بناء مشروع التطوير العقاري الذي تُنفّذه مجموعة “تشاينا إيفرغراند” في ووهان، الصين، 2021. تعطي مجموعة “تشاينا إيفرغراند” المتعثرة مدفوعات العمال المهاجرين والمورّدين الأولوية، إذ يطالب المنظمون شركة التطوير العقاري بتجنب مخاطر الاضطرابات الاجتماعية “بلمومبرغ”

وفق تقارير صحفية، فاليوم تنفجر فقاعة العقارات في الصين بعد عقدين من البناء المحموم، حيث ظهرت مدن كبرى بأكملها في جميع أنحاء البلاد، مبنية على تكهنات متفشية، و”مدن أشباح” شاسعة وفارغة مع كل مظاهر الحياة الحضرية، لكن من دون ساكنين. وبحسب أحد التقديرات يوجد في الصين 65 مليون شقة فارغة، وهو ما يكفي تقريبا لإعطاء واحدة لكل سكان بريطانيا.

ويُعد قطاع العقارات مزيج مخيف من الديون الهائلة والافتقار إلى الشفافية، وتناقص العوائد على الاستثمار المهدر، وتفاقمت الأوضاع بسبب سياسة رئيس جمهورية الصين الشعبية، شي جين بينغ الانتحارية اقتصاديا “صفر كوفيد”، مع عمليات الإغلاق التي لا نهاية لها، مما أدى إلى زيادة الضغط على الحياة خارج الاقتصاد.

قد يهمك: ما قصة منافسة اليابان للصين في القارة الإفريقية؟

ديون هائلة

وفق تقرير مجلة “فورين أفيرز”، فقد أقرضت البنوك والصناديق والمؤسسات المالية الأخرى في الصين مبالغ ضخمة لشركات التطوير العقاري الصينية، والأسر التي تتطلع إلى شراء شقق، والحكومات المحلية التي تهيئ البنية التحتية العامة.

وبحسب رأي كاتب التقرير، فإن غياب ديون خارجية كبيرة يمنح الصين المزيد من الخيارات لإدارة الركود الحالي في العقارات، لكن وتيرة الادخار المكثّف تسببت في صعوبات مالية حالية للبلاد، من خلال تعزيز بيئة اقتصادية يتطلب فيها النمو السريع زيادة في الدين المحلي.

في السنوات العشر التي أعقبت الأزمة المالية العالمية، ارتفعت نسبة الدين الداخلي للصين إلى الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 150 بالمئة، إلى أكثر من 250 بالمئة، وبالتالي زادت ديون الأسر والحكومات المحلية، ومطوري العقارات، والشركات المملوكة للدولة بشكل أسرع، مما يخلق ديناميكية محفوفة بالمخاطر.

وحسب بيانات بنك الشعب الصيني، تبلغ قيمة قروض الرهن العقاري في البلاد حتى نهاية آذار/مارس الماضي 39 تريليون يوان، (5.73 تريليونات دولار). هذا وبسبب وقف عملاء عن دفع أقساط الرهن العقاري، من المُرجح أن تتعثر معاملات تبلغ قيمتها 1.7 تريليون دولار، بحلول نهاية العام الجاري، وفق تقرير لمؤسسة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني.

أحد العقارات في الصين “فرانس برس”

وبحسب تقدير التقرير، فإن كبار المطورين العقاريين تكبدوا ديونا ضخمة، لكن هذه الديون لا تمثل مشكلة للاقتصاد الصيني بأكمله، بل تمثل مشكلة لأوجهها السيئة التي يصعب سدادها.

ونبّه الكاتب، إلى أن الحكومة المركزية الصينية لا تريد تغطية جميع الخسائر، لكن في الوقت نفسه، لا يمكن لها أن تسمح لجميع شركات التطوير العقاري الكبرى بالفشل في آنٍ واحد.

وأشار الكاتب إلى أنه يتعين على الحكومة الصينية قبول حقيقة صعبة، مفادها أن الديون الداخلية المتزايدة ونهاية فترة الاستثمارات العالية بشكل غير عادي، تعني أن طفرة النمو التاريخية في الصين من المرجح أن تصبح من الماضي.

وغير بعيد، أظهر تقرير اقتصادي لمؤسسة “كايشين”، للإعلام والمعلومات الاقتصادية، مؤخرا، انكماش النشاط الاقتصادي لقطاع التصنيع في الصين خلال الشهر الماضي.

ونوّه أعضاء لجنة المؤشر، إن ظروف السوق الصعبة بشكل عام، وانقطاعات الطاقة، وتأثيرات جائحة فيروس “كوفيد-19” الممتدة قلّصت المبيعات بشكل عام، في وقت عاد فيه الطلب الخارجي على السلع الصينية إلى الانكماش مع تراجع طلبيات التصدير بنسبة بسيطة.

قد يهمك: رئيسة وزراء جديدة لبريطانيا.. التفاصيل الكاملة

الصين غير محبوبة

في المقابل، تساءلت صحيفة “التايمز” البريطانية، في تقرير بعنوان “سقوط الصين العظيم”، إذا كانت ثورة الإسكان وأزمة الوظائف وسياسة “صفر كوفيد”، ستخمد حرائق التنين، وتقول الصحيفة في تقرير يروي الواقع السياسي والاقتصادي والديموغرافي للصين، والأزمات التي تعاني منها البلاد، أصبحت الصين الآن في قبضة نوع جديد من الاحتجاج الخفي والسريع الذي سيجد القادة الشيوعيون في البلاد صعوبة في قمعه، ويتمثل في حجب عشرات الآلاف من مشتري المساكن  مدفوعات الرهن العقاري على منازلهم غير المكتملة، خوفا من سرقة أموالهم من قِبل مطوري العقارات.

ولفتت الصحيفة البريطانية، إلى أن إضراب الرهن العقاري آخذ في الازدياد ليصل اليوم إلى أكثر من 100 مدينة، حيث تباع تسعة من كل 10 عقارات جديدة قبل الانتهاء منها، وتعتبر الدفعات النقدية المقدمة، هي شريان الحياة للمطورين والبنوك، مضيفة بأن تلك الاضطرابات أزعجت الحزب الشيوعي الصيني، وحاول محو أخبار الاحتجاج من وسائل التواصل الاجتماعي لمنع المضربين من التنظيم.

بحسب الصحيفة البريطانية، فإن التمرد جاء بعد أيام فقط من فض احتجاج للمودّعين الذين طالبوا باستعادة أموالهم من سلسلة من البنوك الإقليمية الفاشلة، وتشير الصحيفة، إلى أنه على الصعيد العالمي أصبحت الصين متوسعة بشكل مفرط وغير محبوبة.

وتعتبر الصين ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم وترتبط بعلاقات مالية وتجارية عالمية، ووفق رأي الخبراء والمحللين، فإنه في حال وصلت أزمة العقارات إلى المنظومة المالية الصينية، فستتجاوز الصدمة حدود الصين.

وجاء في مذكرة لوكالة “فيتش” للتصنيفات الائتمانين مؤخرا: “إذا تصاعد التخلف عن السداد، قد تكون هناك تداعيات اقتصادية واجتماعية واسعة وخطيرة”.

وصدر تحذير مشابه عن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي قال في أيار/مايو الماضي، إنه بينما نجحت الصين في احتواء التداعيات حتى الآن، بإمكان أزمة تدهور العقارات التأثير على النظام المالي أيضا، وبالتالي ربما للأزمة أن تتفشى، وتؤثر على التجارة العالمية.

قد يهمك: أزمة سياسية بين الصين والهند.. ما علاقة سريلانكا؟

مشروع “الحزام والطريق” استعماري؟

صحيفة “التايمز”، تقول، أن أداة الصين الرئيسة لشراء النفوذ في الخارج، مشروع “الحزام والطريق”، تتعرض إلى ضغوط شديدة، إذ إن الترويج للاستثمار في البنية التحتية من سكك حديد، وموانئ، ومطارات، ومحطات طاقة، واتصالات يبدو في الواقع مليئا بالمشاريع الغامضة، وأثقل كاهل أفقر البلدان بالديون التي لا يمكن سدادها، وتصف الصحيفة المشروع بأنه “مؤسسة استعمارية” جديدة كلاسيكية، وأداة تستخدمها بكين لتشكيل العالم على صورتها وإجبار الدول على دعم مصالحها.

كذلك، حددت المجموعة البحثية “إييدداتا”، 13427 ألف مشروع بقيمة 843 مليار دولار في 165 دولة، على مدى 18 عاما، مما يجعل الصين أكبر دائن في العالم.

ومثالا عن ذلك، فقد تخلفت سريلانكا، عن سداد قروضها وانزلقت في حالة اضطراب، وفر زعيمها جوتابايا راجاباكسا، من البلاد، وقد اقترضت سريلانكا، في عهده ما يقدر بنحو 10 مليارات دولار، من بكين لتمويل مجموعة من المشاريع، وصفها اقتصاديون بالأفيال البيضاء، وقد تكون أزمة الديون في سريلانكا علامة على ما سيحدث في بلدان أخرى أفقر، حيث عبء الديون هو الأعلى منذ عقود، في حين يلعب تباطؤ الاقتصاد العالمي، وفيروس “كوفيد-19″، وارتفاع كلف الغذاء والطاقة دورا في ذلك، لكن القاسم المشترك الآخر، هو أن المشاريع الصينية باهظة الثمن وتفسد، وفق تقرير لموقع “اندبندنت”.

وقد تكون باكستان، وميانمار، أكبر متلق للأموال من الصين، التالية في حال التخلف عن السداد، وحتى في اليونان حيث رحبوا بالمستثمرين الصينيين باعتبارهم منقذين لميناء بيريوس، فإنهم متهمون الآن بالتدهور البيئي، والفشل في الوفاء بالوعود.

قد يهمك: نفوذ صيني يمتد إلى سريلانكا.. تهديد جديد للأمن الدولي؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.