“أعمل منذ سنوات لأومن قيمة مهر الزواج؛ المقدّم والمؤخّر وغيرها من متطلبات الزواج منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، لكن حتى الآن لم أنجح على الرغم من أنني أعمل لساعات طويلة، فتكاليف الزواج باهظة إلى حد ما، مقارنة بالوضع الاقتصادي المتدهور في سوريا”، هكذا يروي محمد عباس، أحد سكان ريف دمشق، ويعمل سائقا على “السرفيس”، لـ”الحل نت”، معاناته مع ارتفاع تكاليف الزواج في هذه البلاد المتهالكة على عدة مستويات.

دفع الانهيار الاقتصادي، الذي كان أبرز أوجه الحرب السورية، نسبة كبيرة من الشباب إلى العزوف عن الزواج رغم حصولهم على شهادات جامعية، والتي من المفترض أن تمكّنهم من الحصول على فرص عمل لائقة وتزويدهم بدخل كافٍ للمعيشة، إلا أن التضخم المرتفع والارتفاع المستمر في الأسعار مقابل تآكل الرواتب والأجور أدى إلى حدوث فجوة كبيرة يصعب التغلب عليها.

“أحببت بنت الجيران منذ سنوات، هي أكملت تعليمها وأصبحت طالبة هندسة في السنة الثالثة، وأنا أيضا حاصل على شهادة معهد، لكنني فضلت العمل في المطاعم، والشوفيرية على سيارات الأجرة والسرافيس، لأن أجورها أفضل من الراتب الحكومي حقيقة” يسرد الشاب محمد عباس (27 عاما) واليأس يبدو على وجهه.

تكاليف وطلبات “غالية”

تختلف صور المَهر من مجتمع إلى آخر. ففي المجتمع السوري عادة ما يشترط أن يكون المَهر على شكل شراء كمية من الذهب للعروس، وتختلف كميته حسب قدرة الشاب المادية، وهذه العادة تختلف من محافظة إلى أخرى في سوريا، وفي بعض المحافظات، يُشترط أن يكون المَهر على شكل مبالغ مالية محددة سلفا، وغالبا ما تتعلق بالحالة الاجتماعية، والوجاهة العائلية لأسرة العروس.

ومع ذلك، يبدو أن ارتفاع سعر الذهب إلى أعلى المستويات، وهو ما يفوق قدرة نسبة كبيرة من الشباب في البلاد اليوم، حيث تقوم العديد من الأُسر مؤخرا بتزويج بناتها بتكاليف أقل، نتيجة لسوء الأوضاع المعيشية، وهناك آراء تشجع على إلغاء مسألة المَهر وحصره في شراء “المحابس” فقط للمقبلين على الزواج، نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية لمعظم السوريين في الداخل، وتوخيا لتخفيف أعباء الزواج، وأن لا يكون المَهر عائقا أمام الزواج، وفق تقارير محلية سابقة.

وتختلف قيمة المَهر؛ المقدّم والمؤخّر، تبعا للعروسين وبيئتهما ومستواهما المعيشي، ولكن بالحد الأدنى تتراوح المهور بين خمسة ملايين، إلى عشرة وعند بعض العوائل أكثر من المبلغ المذكور.

يقول الشاب محمد عباس، إن أسرة الفتاة التي تقدمت إليها، طلبوا العديد من الطلبات؛ من المهر والذهب، والتي بلغت قرابة العشرة ملايين، أي حوالي 2250 دولار أميركي، بالإضافة إلى ذلك، فإن جميع متطلبات ومستلزمات تجهيز المنزل على نفقته، كالأثاث وغرفة النوم والأجهزة المنزلية التي تقدر بحوالي 15 مليون وربما أكثر، وبالتالي كلفة كامل عملية زواجه تُقدر بنحو 25 مليون، أي حوالي 6 آلاف دولار، وربما أكثر إذا كانت هناك أشياء أخرى لم تكن في الحسبان.

وأضاف عباس، لـ “الحل نت”، أن “طلبات أهل الفتاة واقعية مقارنة بالواقع المعيشي، وهي طلبات بسيطة، لكن ظروفي الاقتصادية لا تسمح لي بجمع مثل هذا المبلغ بسهولة. فراتبي الشهري يكاد يصل إلى حوالي 700 ألف ليرة سورية، وأحيانا أكثر حسب العمل وتوافر الوقود بسهولة، إلى جانب وجود والدي وأمي وأخواتي، كوني عونا لهم في الحياة المعيشية اليومية، وفي كل شهر أدّخر حوالي 150 ألف من راتبي كي استطيع الزواج، وفي بعض الأشهر لا أدّخر منه شيئا، بسبب غلاء المعيشة في البلاد من كل حدب وصوب”.

إذا كان عباس، سيجمع مهره بالكامل، بالإضافة إلى تأمين حياته المستقبلية من خلال استئجار منزل وضروريات أخرى، فإنه سيحتاج إلى العمل لمدة عشر سنوات تقريبا، حتى يتمكن من الزواج، وإلا فإنه إما سيهاجر إلى الخارج مثل آلاف الشباب الذين هاجروا منذ سنوات عديدة، أو يبقى صبورا على هذا الوضع، لكن هذا لا يضمن أن الفتاة ستنتظره طوال هذه السنوات، ويردف في حديثه لـ”الحل نت”: “لقد أتيحت لي فرصة السفر مرتين قبل الآن، الأولى إلى الدول الأوروبية والثانية للعمل في لبنان أو الأردن، لكنني رفضت، لأنني اعتقدت أن الوضع في البلد سيتحسن ويتحلحل، لكن للأسف كل عام يزداد سوءا وكل عام أندم على قراري هذا، كما أن أوضاع السوريين في دول مثل لبنان سيئة، وهذا كان أحد دوافع الرفض”.

قد يهمك: 3 ملايين فتاة عازبة تجاوزن الـ30 عاماً في سوريا

ازدياد نسبة العازبين/ات

الحرب في سوريا أثرت على حياة العديد من الفتيات اللواتي لم تُتاح لهن حرية اختيار شريك الحياة المناسب، في ظل هجرة نسبة كبيرة من الشباب، فضلا عن العديد من الصعوبات التي طغت على المفاهيم المتعلقة بخصوصية الأفراد، ما جعلت بعض الناس يتمسكون بالعادات والتقاليد لاتخاذ القرارات.

على الرغم من أن العديد من العائلات زوجّت بناتها بتكلفة أقل نتيجة لظروف المعيشة السيئة، فقد أشارت إحصائية جديدة لوزارة الشؤون الاجتماعية في الحكومة السورية، إلى أن هناك أكثر من 3 ملايين فتاة عازبة فوق سن الثلاثين.

النسبة المئوية للفتيات اللاتي بقين في منزل أهاليهم، ومتأخرات في الزواج بسوريا يشكل الـ 70 بالمئة، وفقا للمعايير الاجتماعية المحلية.

وضمن هذا الإطار قالت الباحثة الاجتماعية ميساء عضوم: “إن ارتفاع نسبة الفتاة العازبات، فوق سن الـ30 في سوريا تعود لعدة أسباب؛ أولها هو الخليط المجتمعي الكبير الذي سببته الحرب، والذي أدى إلى وجود فروق طبقية وثقافية عديدة، الأمر الذي صعَّب على الفتاة كيفية الاختيار”، على حد قولها لوكالة “سبوتنيك” الروسية، مؤخرا.

بينما نقلت إذاعة “ميلودي إف إم” المحلية، في وقت سابق عن خبراء في علم الاجتماع، أن 60 بالمئة، من الشباب السوريين عازفون عن الزواج، بسبب الخوف من المستقبل، بالإضافة إلى الدخل المتدني وارتفاع تكاليف الزواج لأرقام “خيالية”، فضلا عن عدم وضوح مستقبلهم، وعدة عوامل أخرى مثل، عدم وجود مهنة محددة، دخل مستقل، العمل، وهذا ما يؤجل الزواج لأجل غير محدد.

من جهته، يشرح أبو لؤي، (53 عاما)، الذي يعمل نجارا وصاحب متجر أثاث في حي شعبي في ريف دمشق، يشرح لـ “الحل نت” أسعار مستلزمات الزواج من تجهيز المنزل والأثاث، مضيفا: “غرفة النوم لوحدها تكلف حوالي ثلاثة أو أربعة ملايين أي نحو 700دولار، حسب نوع الخشب والتصميم”.

أما بالنسبة لمستلزمات المطبخ، والأجهزة الكهربائية على سبيل المثال (على الرغم من قلة الكهرباء ولكنه يبقى أمرا ضروريا)، فتكلف قرابة عشرة ملايين ليرة سورية، أي نحو2250 دولارا، وهي ذات جودة مقبولة ومتوسطة من حيث الجودة والنوعية.

وانتشرت خلال السنوات الماضية ظاهرة المتاجرة بـ “الأدوات المنزلية القديمة”، بسبب هجرة ملايين السوريين إلى خارج سوريا وبيع أثاث منازلهم، إضافة إلى ظاهرة “النهب وسرقة منازل المدمرة، أو كما تسمى بـ”التعفيش”، في المناطق المنكوبة في سوريا، ومن أبرز المحافظات التي تعرضت للنهب والسرقات، هي المناطق المدمرة في دمشق، وريف دمشق، وحلب، وحمص، ودير الزور، على حد قول أبو لؤي.

وبحسب الإذاعة المحلية، فإنه وفي تجمعات المدن الرئيسية تصل نسبة العزوف لأربعين بالمئة، بينما تنخفض في التجمعات التي لا زالت تحافظ على الروابط المختلفة فيما بينها، والتي تخفف بدورها من الأعباء المترتبة على الزواج، حيث أن الضغوط المادية لها دور في العزوف، لكن العامل الأساسي، هو التفكك الاجتماعي وتحول الحياة إلى فردية، حيث يواجه الفرد المشاكل لوحده.

هذا ويبدو أن الوضع الاقتصادي المتدهور في سوريا، بات ينعكس على مختلف جوانب حياة السوريين، ما دفع العديد من الشباب للتفكير وفق منطق الأولويات، وأولها الاستمرار في العيش، أما بقية تفاصيل الحياة فأصبح معظمها بمثابة رفاهية يبتعد عنها الكثيرون.

قد يهمك: “ناس بالمولات وناس ما بتلاقي الخبز”.. المجتمع السوري “مقامات”؟

زفة العريس بـ”نصف مليون”

مع ارتفاع أسعار جميع الأمور المعيشية في سوريا، لا بد أن تشمل حتى الأمور الترفيهية أو الأشياء التي يمكن للإنسان الاستغناء عنها في أوقات الشدة، إذ لا يغيب عن مسامع كل مُقبل على الزواج، الاستفسارات حول تكاليف فرقة العراضة الشامية، التي سيختارها وإن كانت ستحوي مبارزة بالسيف والترس، أم ستقتصر على مظاهر الرقص وضرب الطبول، والأجواء الحماسية. وبالطبع الغلاء طال هذا الطقس أيضا، حيث باتت تكاليف زفة العريس تصل حاليا نحو نصف مليون ليرة سورية.

اعتادت أحياء دمشق القديمة وبعض المناطق الأخرى على وجود فرق العراضة التي تشارك في مختلف المناسبات، وجرت العادة في العرس الدمشقي، أن ترافق العريس بكامل تفاصيل عرسه لتشجع أصدقاءه، والأفراد على المشاركة في أجواء الزفاف.

أحد المدن المدمرة في سوريا “إنترنت”

أبو محمد، أحد أعضاء فرقة عراضة شامية، تحدث في تصريحات صحفية سابقة، عن المتغيرات التي طرأت على هذا الطقس خلال فترة السنوات الماضية، فيقول: “قبل عام 2011 كنا نستقدم الخيل والحمام للعراضات، ونستخدم الألعاب النارية لنزيد من الجو الحماسي، أما اليوم هذه الإضافات باتت بناء على طلب العريس، إن وجدت”.

وأردف أبو محمد حول تكلفة العراضة، إذ إن تكلفة زفة العريس فقط تبلغ 250 ألف ليرة سورية، أما في حال طلب العريس زفة مع تلبيسة فيكلف 350 ألف، ويزداد السعر في حال تم طلب كرنفال، ومولوية ودخول للصالة.

تفكيك المجتمع

في المقابل، قال الدكتور هيثم عباسي، اختصاصي الجراحة النسائية في جامعة دمشق، في تصريحات صحفية سابقة، أن هناك ارتفاعا في معدلات الحمل غير الشرعي، والعلاقات المحرمة خلال الفترة الأخيرة بسبب العزوف عن الزواج، فضلا عن الارتفاع الهائل بأعداد النساء مقارنة بعدد الرجال.

ولفت عباسي، إلى أن نسبة الإناث مقابل الذكور في سوريا أصبحت متفاوتة بشدة، وبات هناك 25 امرأة صالحة للزواج، مقابل كل رجل صالح للزواج، معتبرا أن هناك قلة بالذكور في كل العالم وليس فقط في سوريا، حيث إن عدد الصالحين للزواج منهم تقريبا 500 مليون من أصل 8 مليارات إنسان على الكوكب.

هذا ويحذر العديد من الباحثين الاجتماعيين من حدوث فجوة خطيرة بالهرم السكاني السوري، وعدم تجدد المواليد ليتحول بعدها المجتمع السوري إلى مجتمع كهل، نظرا لعدم الإقبال على الزواج وارتفاع حالات الطلاق والتفكك الأسري، وحوادث الموت والفقدان والهجرة.

وبحسب الخبراء، فإن الزواج أصبح حلما نظرا لارتفاع التكاليف ما يؤدي إلى اتجاه الفرد لخيارات غير عقلانية، وهذا ما رفع نسبة العازبين/ات إلى 70 بالمئة، معتبرين أن أقل تكلفة زواج ضمن أقل التكاليف تصل لنحو 17 مليون ليرة، وضمن متوسط الأجور للشريحة الأكبر من السوريين فالأمر مستحيل.

أحد أسواق الصاغة والذهب بسوريا “إنترنت”

وعلى الرغم من أن ازدياد نسبة العازبين/ات من الحالات البديهية في أي مجتمع حربي، إلا أن العامل الاقتصادي كان له الدور الرئيسي والأكبر في إثارة هذه المشكلات وتفاقمها، إضافة إلى الضغوط النفسية والاجتماعية، حيث ينتج عنها مواقف عدوانية، أو غير أخلاقية في السلوك الاجتماعي للفرد، وهو النتيجة المتوقعة التي تؤكد حجم الضغوط والأزمات التي يمر بها المجتمع سوري كَـكُل.

الشاب محمد عباس، من بين العديد من الشباب السوريين الذين بقوا في البلاد، علّا وعسى تتحسين الظروف وتنتهي الأزمات من أجل بدء مرحلة جديدة في حياتهم (الزواج)، ولكن مع ارتفاع تكاليف كل شيء في البلد، وارتفاع الأسعار عند مستويات كبيرة، يُلاحظ أن معظم الشباب في الداخل السوري، يرغبون بالهجرة إلى الدول الأوروبية والتخلص من أعباء الحياة في سوريا، والوصول إلى بلد يحفظ حقهم في حياة كريمة، كما يقول الكثير من المغتربين السوريين.

قد يهمك: “الشراء على قد الجيبة“.. من الحبة إلى الغلوة!

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.