مؤخرا، وفي العقد الأخير تحديدا من تاريخ العراق، شهدت الأراضي الزراعية تجاوزا خطيرا، لتتراجع إلى أقل من نصف المساحات المستغلة في السابق، دون أي مراعاة للظروف البيئية، أو الاستقرار المجتمعي الذي تسبب انعدامه بهجرة ريفية واسعة، كان آغا إسماعيل أحد ضحاياه.

آغا، الذي يعمل في الزراعة منذ أكثر من 30 عاما، في محافظة ديالى، 57 كم شمال شرق العاصمة بغداد، وهو واحد من بين أهالي عشرات قرى المحافظة الذين تركوا مناطقهم ولجأوا إلى مراكز المدن بحثا عن مصادر عيش تمكّنهم من الاستمرار في الحياة.

بسبب تراجع الزراعة في قراهم وتحويل مساحات شاسعة من البساتين لمجمعات سكنية، أو مشاريع اقتصادية، مثل مقالع الحصى والرمل، وقبل أن يصيب الجفاف المحافظة التي يعتمد 60 بالمئة، من سكانها على الزراعة، بشكل غير مسبوق، أثناء ما كان المزارعون يحاولون الحفاظ على ما تبقى من أراضيهم، يقول أغا، لموقع “الحل نت“، وهو في الـ 53 من عمره.

ويضيف المزارع الذي ترك عمله وقريته، وتحول إلى سائق تاكسي في قضاء المقدادية: “في ظل الفوضى التي عاشتها البلاد ما بعد 2003، وغياب القانون، وسطوة رأس المال السياسي على الحياة، باتت الزراعة خيارا أخيرا في حسابات الباحثين عن موارد اقتصادية“.

يواصل أغا حديثه قائلا، إنه “مع كسب المال غير المشروع وزيادة الثراء الفاحش لدى شريحة واسعة واستعدادهم لدفع ما يُطلب منهم، دفع أصحاب الأراضي الزراعية الذي يقضون سنوات في إدامة أراضيهم، لبيعها بأسعار مضافة لأولئك الأثرياء، الذي قاموا بدورهم في تجريفها وبيعها على شكل قطع سكنية“.

اقرأ/ي أيضا: الجفاف في العراق: هل سيختفي الماء قريباً في “بلاد الرافدين”؟

 الجفاف يعزز هجرة الزراعة

كما استدرك: “سوء إدارة ملف السكن وعدم تحرّك الحكومة لاستحداث مدن جديدة ومع الزيادة السكانية، سهّل من بيع تلك الأراضي، وأجبر المواطنين على الشراء في الأراضي الزراعية، بالتالي هم يبحثون عن مسكن لأسرهم“، مشيرا إلى أن “ذلك بغض النظر عن التي تم تحوليها إلى معامل حصى وطابوق“.

ويلجأ المواطنون للشراء في تلك الأراضي لأسعارها المغرية لأنها زراعية، قياسا بأراضي الطابو السكني، على الرغم من أن القانون العراقي رقم 27 لسنة 2009، وبموجب المادة 17 من قانون حماية وتحسين البيئة، ينص على حماية الأراضي الزراعية من الزحف العمراني، ومنع أي نشاط من شأنه الإضرار بمساحة، وتصاميم المدن والحزام الأخضر، الذي يؤدي إلى التصحر وتشويه البيئة الطبيعية.

عامر الجبوري، يتفق مع آغا، في الرأي، ويقول لـ “الحل نت“، إن “المجمعات السكنية شوهت الوجه الحضاري لمدننا، وحولت المحافظة من سلة غذائية كانت تشتهر بزراعتها وإنتاجها لكل أنواع الزراعة، إلى مستوردا“، محمّلا الحكومة مسؤولية تلك الفوضى.

يكمل الجبوري 48 عاما، حديثه وهو جالسا أمام بستانه التي كان يعتمد في معيشته عليها، قبل أن تتحول إلى رمادية بسبب انعدام المياه: “كنا نعتقد خاصة إننا التي تقع بساتيننا في مناطق بعيدة نوعا ما، ولا تساعد في تحويلها إلى مجمعات سكنية، إننا قادرون على الاستمرار في العمل فيها، قبل أن نُصدم بالواقع الذي فرضه الجفاف علينا“، مستدركا “أنا حزين لما يحصل لنا وأتمنى أن لا أضطر للحاق بآغا، للعمل كسائق تاكسي، وأترك منزلي الذي عشت وولدت فيه“.

منذ أكثر من عام، تشهد محافظة ديالى، موجة جفاف قاسية، نتيجة ما تمارسه دول المنبع تركيا وإيران، ما يمكن وصفه بـ “حرب مائية” على البلاد، إذ تقطع الدولتين مصادر المياه على الأنهر العراقية، لينعكس ذلك بشكل مباشر وكبير على المحافظة المحاذية لإيران، والتي تعتمد بشكل شبه كامل على الأنهر التي تنبع إيران، وبمستوى أقل على روافد نهر دجلة، الذي ينبع من تركيا، وتنخفض مناسيبه هو الآخر إلى أقل من 70 بالمئة، بحسب الأمم المتحدة.

اقرأ/ي أيضا: بعد الزراعة.. الجفاف يهدد مياه الشرب في العراق 

الجفاف يدمر زراعة العراق

الجبوري، أشار إلى أن “بعد ما تسببه الجفاف فإن قرى بأكملها وإلا ما ندر منها تبقى، قد لجأت إلى المدن، في أكبر حركة نزوح ريفية، لاسيما في الأشهر القليلة الماضية، بسبب ما تعرضوا له من خسائر فادحة في الموسم الزراعي، لانعدام المياه وظروف تربية المواشي، وشبه توقف لتجارة الثروة الحيوانية، بسبب عدم توفر الأعلاف، وبالمقابل غلاء أسعارها في الأسواق“.

إحصائيات سابقة، تظهر أن العراق بات لا يزرع سوى ربع من مساحته الزراعية، حيث تراجعت من أصل 32 مليون دونم، إلى 18 مليون دونم، بحسب تصريحات سابقة لوزير الزراعة، محمد كريم الخفاجي، وذلك بعد أن كانت تُستغل كلها ما قبل العام 2003.

في هذه الأثناء، حذرت وزارة الموارد المائية العراقية، يوم الجمعة الماضي، من صعوبة تأمين مياه الشرب، والسقي في الموسم المقبل حال ارتفاع مستوى الجفاف إلى ما وصفته بـ “الحد الثالث“.

كما حذّرت الأمم المتحدة في وقت سابق، من أن منسوب نهري دجلة، والفرات في العراق ينخفض بنسبة تصل إلى 73 بالمئة، ودعت إلى مشاركة العراق، في مناقشات هادفة مع دول الجوار حول تقاسم المياه.

ويشهد العراق، نقصا حادا في المياه، أدى إلى جفاف بحيرات ومستنقعات مائية، بالإضافة إلى انخفاض كبير في منسوب نهري دجلة والفرات، اللذين ينبعان من تركيا، منذ تشغيلها سد “أليسو” قبل سنوات، فضلا عن جفاف كامل لأنهر، وروافد تنبع من إيران، مرورا بمحافظة ديالى، شرقي بغداد.

دجلة والفرات وجفاف قاس

ما يمكن الإشارة له أيضا، أن انخفاض معدلات إيرادات نهري دجلة والفرات، عن معدلاتها الطبيعية خلال الأعوام الماضية، تتسبب بانخفاض مليار لتر مكعب من المياه، وخروج آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية المنتجة عن الخدمة، حسب إحصاءات شبه رسمية.

أيضا يخسر العراق في ذات الوقت، آلاف المليارات المكعبة من المياه سنويا؛ بسبب ما يمكن تسميتها الحرب المائية التركية الإيرانية عليه، وانعكس ذلك بشكل كبير على المحافظات التي تعتمد أنهارها على مياه نهري دجلة والفرات، منها محافظة الديوانية، في جنوبي العراق، وغيرها من المحافظات الغربية، والعاصمة بغداد.

كما انخفضت مناسيب الأنهار التي تنبع من إيران، إلى عدد من المحافظات العراقية، ما تتسبب بشح كبير في كميات تجهيز الأراضي الزراعية في محافظات ديالى، وواسط، والبصرة.

ودفع قطع المياه عن العراق من قِبل تركيا وإيران، إلى لجوء وزارة الموارد المائية العراقية لحفر الآبار الارتوازية، ضمن مجموعة إجراءات اتخذتها لمعالجة شحّ المياه في البلاد.

في حين أن مساحة الأراضي المتصحرة في العراق، بلغت ما يقارب 27 مليون دونم، أي ما يعادل 15 بالمئة، تقريبا من مساحة البلد بسبب الجفاف، وفقا لإحصائية أوردتها وزارة الزراعة في مطلع تموز/يوليو المنصرم.

اقرأ/ي أيضا: 23 سدا مائيا للسيطرة على الجفاف في كردستان العراق 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.