بالرغم من الدلائل الهامة على التقارب بين أنقرة ودمشق، يبدو أنه من المرجح أن يستمر وضع التقسيم الفعلي والصراع المجمد في سوريا.

فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، أصبح من المعتاد الإشارة إلى الحرب في سوريا السورية على أنها “مأزق” والبلد في حالة تقسيم فعلي. وهذه التعريفات دقيقة إلى حد كبير، كون سوريا لا تزال مقسمة إلى ثلاثة كيانات إدارية. وهذه الكيانات الثلاثة هي: منطقة سيطرة حكومة دمشق، وتشكل نحو 65 بالمئة من مساحة البلاد، بما في ذلك المدن الرئيسية والساحل بأكمله. ويقدر عدد سكانها بحوالي 11-12 مليون نسمة، وهذه المنطقة مدعومة من قبل روسيا وإيران.

المنطقة الواقعة شرق نهر الفرات، الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، والتي تشكل حوالي 25 بالمئة من الأراضي السورية، ويبلغ عدد سكانها 2-3 مليون نسمة. وتدعم الولايات المتحدة هذه المنطقة في إطار “عملية العزم الصلب” والقتال ضد تنظيم “داعش” الإرهابي.

المنطقة الشمالية الغربية التي يسيطر عليها معارضون وجهاديون، والتي تشكل حوالي 10 بالمئة من أراضي البلاد ويبلغ عدد سكانها 3-4 ملايين نسمة. وتدعم تركيا هذه المنطقة ويقسمها بعض المحللين إلى منطقتين: محافظة إدلب التي تخضع لسيطرة “حكومة الإنقاذ” التابعة لتنظيم “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقا)، وأرياف حلب التابعة لـ”الحكومة المؤقتة” المدعومة من أنقرة. وبالرغم من هذا التقسيم، إلا أن المنطقة بأكملها مدعومة من قبل تركيا، والتي بدونها لا يستطيع حكامها البقاء على قيد الحياة، وفق تقرير نشره موقع “JNS” الإسرائيلي، وترجمه موقع “الحل نت”.
 

ومنذ أيار/مايو 2022، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرات عديدة عن رغبة أنقرة في تنفيذ عملية عسكرية إضافية في سوريا. وسيكون هذا هو الغزو إن حصل الرابع منذ عام 2016. ومثل سابقاتها، سيكون الغرض من مثل هذه العملية هو تقليص المنطقة التي تسيطر عليها “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، حيث تعتبر تركيا أن هذه السلطة تشكل جبهة سوريّة لـ”حزب العمال الكردستاني” في تركيا، الذي انخرط في تمرد ضد أنقرة منذ عام 1984. وفي حزيران/يونيو، توجه أردوغان إلى نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم، قائلا: “نحن ننتقل إلى مرحلة جديدة من تصميمنا على تشكيل منطقة آمنة بعمق 30 كيلومترا على طول حدودنا الجنوبية. سوف نطهر تل رفعت ومنبج ونفعل الشيء نفسه مع المناطق الأخرى خطوة بخطوة”.

وستكون مثل هذه العملية جزءا من خطة تركيا الأوسع لإنشاء منطقة بعرض 30 كيلومترا (حوالي 19 ميلا) تخضع للسيطرة التركية على طول الحدود بأكملها.

وتل رفعت ومنبج تقعان غرب نهر الفرات وخارج منطقة التعاون بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والولايات المتحدة، إلا أنهما ضمن منطقة نفوذ روسيا، وعلى هذا النحو، لا يمكن تنفيذ عملية تركية هناك إلا بإذن ضمني من موسكو. وإن كانت واشنطن لا تحمي رسميا هذه المناطق، إلا أن تركيا ستحتاج إلى الحصول على موافقة ضمنية من الولايات المتحدة أيضا على الأقل.

وقد حذرت الولايات المتحدة، علنا على الأقل، تركيا من أي توغل من هذا القبيل، حيث قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن: “نحن نعارض أي تصعيد في شمال سوريا”. ومعارضة الولايات المتحدة ليست مجرد كلام، ولا يمكن لتركيا أن تتجاهلها. فقد كلفت الإجراءات والمواقف التركية المناهضة لرغبات الولايات المتحدة و”حلف شمال الأطلسي” (الناتو) الحيلولة دون حصول أنقرة على طائرات مقاتلة من طراز “إف 35”. وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، طلبت أنقرة شراء 40 طائرة مقاتلة من طراز “إف 16” من الولايات المتحدة، إلى جانب معدات عسكرية إضافية. ولا يزال هذا الطلب ينتظر موافقة الكونغرس الأميركي.


كذلك فإن الموافقة الروسية لم تكن وشيكة، وإن كانت هذه القضية هي محور النقاشات في الاجتماعات الأخيرة بين أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في طهران وسوتشي في 19 حزيران/يونيو و 5 آب/أغسطس على التوالي. وتسيطر روسيا على المجال الجوي السوري غربي الفرات وهي الداعم الرئيسي لحكومة دمشق.

وينبغي كذلك النظر في معارضة إيران للعملية التركية المزعومة. ومن المرجح أن تؤدي الخطوة التركية للاستيلاء على تل رفعت إلى جعل القوات التركية على مقربة من قريتين شيعيتين كبيرتين في شمال محافظة حلب، نبل والزهراء. وإيران ملتزمة بأمن هذه القرى. وبحسب التقارير، فقد أرسلت قوات إلى هناك عندما بدت العملية التركية وشيكة. ويعد احتمال الاشتباك مع القوات الإيرانية عنصرا إضافيا معقدا لأنقرة.

وتأتي معارضة دمشق وطهران لمثل هذه العملية من احتمال أن تؤدي عملية تركية في منطقة تل رفعت إلى تقريب القوات المتحالفة مع تركيا من حلب. وهو تطور غير مرحب به لا من دمشق ولا من طهران ولا من موسكو، لأسباب واضحة.


ويواجه أردوغان انتخابات عامة العام المقبل، وعملية تقليل الوجود المرتبط بـ”حزب العمال الكردستاني” بالقرب من الحدود وإعادة بعض اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم قد تأتي بنتائج إيجابية مع قسم من ناخبيه. وبالنظر إلى التركيز المحلي التركي الحالي على الوضع الاقتصادي السيئ والتضخم الجامح (حاليا عند حوالي 80 بالمئة)، يبقى السؤال إلى أي مدى سيستفيد الزعيم التركي من العملية العسكرية، لاسيما بالنظر إلى المخاطر والشكوك الكامنة التي تنطوي عليها.

لذلك يبدو أن الاجتياح التركي لمنبج وتل رفعت يبدو أقل احتمالا حاليا بالنظر إلى كل تلك الأسباب. وعلى هذه الخلفية، برز احتمال بذل جهد تركي لإضعاف أو تدمير سلطة “الإدارة الذاتية” في سوريا وإعادة اللاجئين السوريين من تركيا عبر الوسائل الدبلوماسية، بدلا من الوسائل العسكرية. وقد ألمحت عدة تصريحات لأردوغان، ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إلى هذا الاحتمال. ففي 11 آب/أغسطس، قال جاويش أوغلو: “نحن بحاجة إلى الجمع بين المعارضة والنظام من أجل المصالحة بطريقة ما. وإلا فلن يكون هناك سلام دائم”. وجاءت تصريحات وزير الخارجية هذه مفاجأة للمراقبين. وتابع جاويش أوغلو، تأكيده على التزام تركيا بوحدة أراضي سوريا، قائلا: “سلامة الحدود وسلامة الأراضي والسلام في بلد مجاور لنا تؤثر علينا بشكل مباشر”. كذلك كشف وزير الخارجية التركي أنه التقى نظيره السوري فيصل مقداد.

وردد أردوغان هذه الإيحاءات في التصريحات التي أدلى بها في 19 آب/أغسطس. وتراجع الرئيس التركي فعليا عن عقد من السياسة التركية بقوله: “ليس لدينا مثل هذه القضية سواء هزمنا الأسد أم لا”. وتابع أردوغان حديثه بأنه مؤيد “للحوار” بين أنقرة ودمشق.

وبحسب تقرير على موقع “دوفار”، فإن مطالب أردوغان لحكومة دمشق تتمثل في تطهير كامل لسيطرة القوات الكردية في الشمال السوري وعودة اللاجئين السوريين بأمان من تركيا. وبحسب “دوفار” أيضا، فإن الرئيس السوري بشار الأسد يريد نقل سيطرة إدلب إلى سلطة حكومة دمشق، ونقل معبر ريحانية سيلفيغوزو الحدودي، وإنشاء ممر تجاري بين سيلفيغوزو ودمشق، ودعم تركيا لمطالب سوريا بإنهاء العقوبات الأوروبية والأمريكية المفروضة على دمشق.


وترقى هذه المطالب، في جوهرها، إلى عودة السلطة الكاملة لحكومة دمشق إلى شمال شرقي سوريا، والانسحاب التركي من الجزء الأكبر من شمال غربي سوريا، وعودة حوالي ثلاثة ملايين لاجئ سوري من تركيا.

وفي تقرير لصحيفة “الشرق الأوسط” في 27 آب/أغسطس، وردت تفاصيل ما زعمت أنها مطالب الجانبين التركي والسوري. كما أثيرت هذه المطالب في اجتماع بوساطة روسية في موسكو، في تموز/يوليو، بين هاكان فيدان، رئيس المخابرات التركية، وعلي مملوك، المستشار الخاص للرئيس السوري ومدير مكتب الأمن القومي السوري. وبحسب التقرير، فإن مواقف الجانبين ظلت متباعدة. وأوضح التقرير أن دمشق طالبت بجدول زمني لانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، وإعادة إدلب إلى سيطرة حكومة دمشق، وإعادة معبر باب الهوى الحدودي إلى سيطرة دمشق على الجانب السوري، ووقف دعم الفصائل المدعومة من قبل تركيا، وفتح الطريق السريع “إم 4” الممتد من الجانب السوري من حلب إلى الحسكة، والمساعدة في جهود إعادة الإعمار، ومواجهة العقوبات الغربية واستعادة الثروات الطبيعية شرق الفرات.

من جانبها، طالبت أنقرة باتخاذ إجراءات ضد “وحدات حماية الشعب”، وعودة اللاجئين السوريين، والمفاوضات بين دمشق والمعارضة المدعومة من تركيا، وإنشاء مناطق آمنة في حلب على بعد 30 كيلومترا من الحدود السورية التركية، ومساعدة وتسهيل عمل اللجنة الدستورية السورية.

وبينما يعتبر بدء الحوار بين أنقرة ودمشق بلا شك تطورا ذا أهمية، فلا يزال الطريق نحو تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه طويلا ومليئا بالعقبات. والأهم من ذلك أن استمرار دعم الولايات المتحدة لـ”قسد”، وإن كان جزئيا بطبيعته، يعني أن دمشق لا يمكنها ببساطة تلبية مطالب تركيا بنزع سلاح الأكراد السوريين وتفكيك هياكلهم الإدارية. وبالنظر إلى كل ذلك، من غير الواضح كيف يمكن للأسد تلبية مطلب أردوغان الأساسي، حتى لو رغب في ذلك.

وبالمثل، لا يبدو أن تهديد تركيا بالتوغل العسكري ذي مصداقية كبيرة إذا ما فشلت حكومة دمشق في تلبية مطالبه. فالمعارضة الروسية والأميركية، وبدرجة أقل الإيرانية، لخطوة عسكرية كبيرة تعني أن الأسد أقل عرضة للترهيب من هذا الاحتمال.

بالإضافة إلى ذلك، قد لا يكون الأسد في عجلة من أمره لاستقبال ثلاثة إلى أربعة ملايين سوري من لاجئيه في تركيا، خاصة أن هؤلاء السكان يتكونون في معظمهم من المعارضين لحكمه. وبالتالي، على الرغم من علامات التقارب الكبيرة بين أنقرة ودمشق، يبدو أن حالة التقسيم الفعلي والصراعات المجمدة ستستمر في سوريا في المستقبل المنظور.

وفي الوقت الحالي، يبدو اللاعبون، الأقوى والأهم من أردوغان أو الأسد على الساحة السورية، على استعداد لمنع التحقيق الكامل لمطالب أردوغان. وطالما استمرت منطقة الحكم الذاتي الكردية في شمال سوريا، فمن غير المرجح أن يفكر أردوغان في التخلي بالجملة عن وكلائه في شمال سوريا.

وبالرغم من أهمية الاتصالات بين دمشق وأنقرة، فإنها لا تغير من حقيقة أن الدول الضامنة الخارجية تظل اللاعب الرئيسي في سوريا. وسيتعين على واحد أو أكثر من هؤلاء اللاعبين تغيير مواقفه حتى يحدث تغيير كبير. 

ومن المرجح أن تكون المرحلة التالية هي محاولة روسية لتطوير خطة عمل مقبولة لكلا الطرفين لتوسيع التعاون الأمني. ومع ذلك، فإن واقع الانقسامات الحادة بين دمشق وأنقرة، فضلا عن عدم قدرة أي منهما على تلبية العناصر الأساسية لأجندة الآخر، يعني أنه من المحتمل أن تقتصر النتائج الملموسة على المجالين التكتيكي والأمني في الوقت الحالي، بدلا من التأثير على الشكل الأساسي للوضع السوري.

وفيما يتعلق بتداعيات هذه الأحداث على إسرائيل، يبدو أن الأخيرة تستفيد من الحفاظ على الوضع الراهن في سوريا. فمصلحة إسرائيل الأساسية في سوريا هي حملتها المستمرة لمنع ترسيخ وتحصين المشروع العسكري الإيراني. والوضع الحالي المتمثل في التقسيم الفعلي والصراع المجمد في سوريا، فضلا عن استمرار عزل حكومة دمشق، يوفران ظروفا مثالية لاستمرار هذه الحملة. وطالما أن دمشق تفتقر إلى الشرعية الدولية، فإن إسرائيل ستواجه ضغوطا قليلة أو معدومة لإنهاء الحملة. وعلى الرغم من التفاعلات المتزايدة بين دمشق وأنقرة، لا يبدو أن أي تحول كبير في العلاقات يلوح في الأفق، وهو أمر إيجابي بالمجمل بالنسبة لإسرائيل.

وتجدر الإشارة إلى أن مصالح إسرائيل في هذا المجال لا تتوافق دائما مع مصالح شركاء إسرائيل الخليجيين. وكانت الإمارات العربية المتحدة من رواد تطبيع العلاقات مع دمشق، كما قامت مؤخرا بترميم خلافاتها مع تركيا. من الممكن على الأقل، إن لم يكن مرجحا، أن تكون الدبلوماسية الإماراتية قد لعبت دورا في الجهود المبذولة لتأمين التقارب التركي السوري كجزء من الجهد الأكبر لإنهاء الحرب في سوريا وإعادة البلاد إلى موقفها الطبيعي تجاه سوريا.


وبعد 11 عاما من اندلاع الحرب السورية، لا تزال سوريا نقطة محورية في الاشتباكات بين المتنافسين الإقليميين (تركيا وإيران وإسرائيل) والقوى العالمية (الولايات المتحدة وروسيا). وتظل مصالح هذه القوى وقدرة اللاعبين العالميين على التأثير على خيارات وتفضيلات الخيارات الإقليمية وتجاوزها أحيانا هي الديناميكيات الرئيسية التي يجب مراقبتها في البلاد. وفي هذا الصدد، يمكن الاستنتاج أن الحصيلة والنتيجة الرئيسية للحرب السورية حتى الآن هي الخسوف العملي للسيادة السورية وتحويل البلاد إلى ساحة تتنافس فيها مصالح لا علاقة لها بمصالح السوريين.

ومن الصحيح أيضا أن حياة السوريين قبل الحرب الأهلية لم تكن في ظل حكومة تركز في المقام الأول على تعزيز مصالحهم، إنما كانت في ظل ديكتاتورية تركز في المقام الأول على بقائها. واعتبارا من الآن، يبدو أن البديل الرئيسي للوضع الحالي هو عودة السلطة الحاكمة إلى سيطرة أكبر على البلاد، وفق ما ذكر التقرير الإسرائيلي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.