منذ يوم توفيت الملكة إليزابيت الثانية، أطول ملوك المملكة المتحدة حكما، عن عمر ناهز 96 عاما، برزت التساؤلات حول القوة الناعمة التي أضفتها إليزابيت على الحكم الملكي البريطاني، وفيما إذا كانت هذه القوة ستستمر مع الملك الجديد تشارلز الثالث، فهل سيتمكن تشارلز من ملء الفراغ الذي خلفته والدته؟

قوة ناعمة

الملكة إليزابيت الثانية قضت نحو 70 عاما على عرش المملكة المتحدة، منذ أن أصبحت ملكة في فبراير من العام 1952، وتم تتويجها في العام التالي، بعد أن فاجأ اعتلاء إليزابيت الجميع وقتها، وذلك بعد أن توفي والدها الملك جورج السادس في نفس الفترة، وهو الذي أصبح ملكا بعد تخلي شقيقه الملك إدوارد الثامن عن العرش ليتزوج واليس سبنسر، في العام 1936. 

“أتعهد أمامكم جميعاً أن حياتي كلها، قصرت أم طالت، ستكُرس لخدمتكم وخدمة عائلتنا الإمبراطورية العظيمة التي ننتمي إليها جميعاً” . كان هذا هو البيان الذي صرحت به في عيد ميلادها الحادي والعشرين، عندما أصبحت ملكة، ما اعتُبر مؤشرا على مدى تقدير إليزابيث لفكرة خدمتها للعامة، وهذا هو أساس حكمها.

استطاعت الملكة إليزابيت خلال فترة حكمها، خلق “قوة ناعمة مؤثر”، ليس على مستوى المملكة المتحدة فقط، بس على مستوى العالم، لا سيما وأنها جمعت بين دورين، دور رأس الدولة في الأساس وكذلك زعيمة الأمة.

العديد من القواعد والأسس، ساهمت في تعزيز هذه القوة، بينها أن الدستور في بريطانيا، يحتم على رئيس الدولة، اتباع توصيات الحكومة والاضطلاع بالعديد من المسؤوليات، ومنها “تعيين رئيس الوزراء وجميع الوزراء الآخرين، وافتتاح جلسات البرلمان الجديدة، ومنح الموافقة الملكية على مشروعات القوانين التي يقرها البرلمان، فتصبح قوانين رسمية” . لذلك، كان أحد أهم أسباب نجاح حكم إليزابيث هو قدرتها على الحفاظ على الحياد السياسي العام، وعدم التدخل رسميا في أهم القرارات السياسية للحكومة.

أما دورها كزعيمة للأمة، فبرز من كونها محوراً “للهوية الوطنية والوحدة والفخر، ومصدرا منح شعورا بالاستقرار والاستمرارية، ورمزا رسمياً للنجاح والتميز، وداعمة لقيم الخدمة التطوعية” . وكان مفهوم الاستقرار والاستمرارية، سببا آخر لنجاح إليزابيث الثانية بصفتها الملكة. وعلى الرغم من اعتبار دورها أنه شرفي، فلا يعني هذا أن تأثيرها كان محدودا.

قد يهمك: تطورات جديدة أردنية لبنانية تجاه سوريا.. ما قصتها؟

بحسب تقرير لمركز “المستقبل” للأبحاث والدراسات المتقدمة، فإن واحدا من الأمثلة على تأثير الملكة: “اجتماعاتها السرية الأسبوعية مع رؤساء وزرائها، فنظرا لخبرتها الطويلة في الشؤون العامة والتي تفوق خبراتهم جميعا، ربما كان لهذه الاجتماعات مع الملكة أثرا على آراء رؤساء وزرائها”. 

علاوة على ذلك، كانت إليزابيث الثانية تهدف إلى تصوير نفسها كشخصية مرتبطة بالمملكة المتحدة بأكملها، وعلى وفاق معها كذلك. لذلك فإن قوتها الموحدة للأمة كانت ناعمة، ولكنها حقيقية أيضا، “فهي لم تشعر قط أن انتماءها لإنجلترا كان أكبر من انتمائها لاسكتلندا أو أنها رمز لأيرلندا الشمالية أكثر من ويلز مثلا، فلقد زارت الملكة أيرلندا زيارة رسمية في عام 2012، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يزور فيها العاهل البريطاني الحاكم أيرلندا منذ انفصالها عن المملكة المتحدة. وأثناء تلك الزيارة الشهيرة، صافحت مارتن ماكجينيس، أحد أكثر الجمهوريين ارتباطا بالجماعات المسببة لأعمال العنف في الماضي . “لقد كانت قوة موحدة، تستخدم قوتها الناعمة بأسلوب حذر وغير مباشر بهدف وحيد، ألا وهو الحفاظ على الوحدة وبقايا الإمبراطورية.. الكومنولث”.

قوة الإعلام

كذلك أدركت الملكة إليزابيت منذ وقت مبكر، قوة الإعلام، وهو دليل آخر على تاثيرها الناعم، حيث طلبت عام 1953، أن يتم بث حفل تتويجها في كنيسة وستمنستر على الهواء مباشرة، فلطالما أكدت أنه “يجب أن يراك الناس حتى يصدقوك”.

وواظبت على ظهورها المتكرر في التلفزيون، وعند ظهور التلفاز الملون، ارتدت ألوانا أكثر إشراقاً حتى تبر . ولقد اتبعت الأسلوب المسمى بـ “الجولات”، حيث ظهرت وسط العامة في وسائل الإعلام . والأهم من ذلك، أن الإنترنت قد أتاحت لها وسيلة أخرى للتواصل مع الجمهور البريطاني والتقرب إليه، فحافظت على ظهورها على وسائل الإعلام الاجتماعية لكي تكون جزءا من حياة الناس اليومية وأن تؤثر بالتالي عليها.

استطاعت إليزابيت أن تصنع لنفسها أيقونة، وأن تضيف تأثير القوة الناعمة من خلال شخصيتها على مملكة بريطانيا، نجحت كذلك في الحفاظ على حيادها السياسي، فكثيرا ما كانت الملاذ الآمن لأبرز الشخصيات السياسية داخل الحكومة، كما استطاعت في الوقت نفسه توفير الشعور بالوحدة والاستقرار لدى الشعب من خلال إيجاد طرق للتواصل مع العامة والحفاظ عليها. ولم يقتصر “تأثيرها الناعم” على الشعب البريطاني فحسب، بل امتدت بصمتها إلى النطاق الدولي.

وينقل مركز “المستقبل” عن البروفيسور جارتون آش، من جامعة أكسفورد، قوله إنه: “ربما لن نصادف أبداً شخصية بريطانية أخرى يحزن على وفاتها العامة على مستوى العالم .. فما حدث يمثل بطريقة ما آخر لحظات العظمة البريطانية”.

شخصية الملك الجديد

تولى تشارلز فيليب العرش تلقائيا، وبالتالي سيكون لبريطانيا ملك جديد ورئيس دولة، وكذلك لـ 15 دولة أخرى، بما في ذلك أستراليا وكندا ونيوزيلندا، التي تعترف بملك (أو ملكة) بريطانيا كرئيس لها.

تشارلز الثالث قال في أول تصريح له في وقت سابق من هذا العام إنه خلال عام 2022 سيواصل العمل مع الناس في جميع أنحاء العالم للدفاع عن القيم الثمينة التي يتكون منها المجتمع الحر، خاصة في سوريا وأفغانستان. وهكذا، يبدو أن الملك البريطاني الجديد أخذ على عاتقه العديد من المسؤوليات، سواء داخل بريطانيا أو في العالم الخارجي.

من هنا تبرز عدة تساؤلات حول التغيرات المحتملة في السياسة الخارجية لبريطانيا بعد وصول الملك تشارلز، والتغيرات التي قد تطرأ على المستوى الأوروبي، وتحديدا في موضوع إمكانية انفصال اسكتلندا عن بريطانيا، والدور المتوقع من بريطانيا في القارة الأوروبية، في خضم المتغيرات الدولية الأخيرة، والدور البريطاني في الملف السوري والشرق الأوسط، خاصة أنه يتزامن مع فوز ليزا تراس كرئيسة للحكومة البريطانية، خلفا لبوريس جونسون.

يسود ولا يحكم

تشارلز الثالث، انتظر 70 عاما ليصبح ملكا وهو الوريث الأطول خدمة في التاريخ البريطاني، وهو الأكبر من بين أربعة أطفال ولدوا للملكة وزوجها الراحل الأمير فيليب.

وعندما تولت والدته العرش في سن 25، أصبح وليا للعهد وهو في سن 3 سنوات. وفي حال وفاته يأتي من بعده الابن الأكبر لتشارلز وليام (40 عاما) المعروف باسم دوق كامبريدج، وبموت الملكة يضاف لقب جديد إلى وليام وهو أمير ويلز (الذي كان يحمله تشارلز قبل توليه العرش)/ دوق كورنوال.

لا تغيير في السياسة البريطانية؟

في سياق متّصل، أشار الأكاديمي والخبير في العلاقات الدولية أيمن سلامة، إلى أن الملك في بريطانيا يستطيع فرض حل البرلمان برفض الموافقة الملكية، وهذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى استقالة الحكومة ويصدر أيضا العفو الملكي مثل العفو الرئاسي الصادر في الأنظمة الرئاسية.

أما مسألة تغيير الوزن والسياسة والاستراتيجية البريطانية بعد أن تولى الملك تشارلز الثالث مقاليد الحكم حاليا، سواء كان ذلك في دول الاتحاد الأوروبي أو منطقة الشرق الأوسط وتحديدا سوريا، فلا يعتقد سلامة أن ثمة تغييرا. ومع ذلك، بما أن الملك هو القائد العام للقوات العسكرية البريطانية وتنظيمها، وعلى الرغم من العقود الماضية، التي لم تتدخل الملكة إليزابيث الثانية الراحلة في الأمور السياسية كثيرا، ولكن لأن الملك هو القائد دستوريا، ربما في حالات استثنائية يمكن أن يكون للملك كلمة في مجابهة أخطار مداهمة، وبالطبع في هذا السياق لديه رجال و مجموعة من المستشارين يساعدونه في هذا الشأن.

استبعد سلامة أثناء حديث سابق لـ”الحل نت”، أن سياسة المملكة المتحدة ستتغير مع وصول تشارلز الثالث، بالنظر إلى أن القرارات السياسية تقتصر على الحكومة البريطانية فقط والتي ترأستها ليزا تراس مؤخرا.

وباعتبار الملك رأس الدولة، فإنه يقوم بإلقاء خطابات دورية أمام البرلمان، وذلك في قاعة مجلس اللوردات، حيث يقضي العرف بأن الملك من غير المسموح له أن يدخل قاعة مجلس العموم المخصصة للبرلمانيين. وفي هذا الخطاب يحدد الملك الخطوط العريضة لبرنامج عمل الحكومة السنوي والتوجيهات حول القضايا التي يجب التركيز عليها في عمل الحكومة والبرلمان.

وعلى اعتبار أن العمل السياسي ممنوع على الملك البريطاني وأسرته، فإن مجال اشتغاله يتركز بشكل كبير في رعاية المؤسسات الخيرية وتقديم الدعم لمنظمات المجتمع المدني، كما وسيكون الملك الجديد مشرفا على أكثر من 600 جمعية خيرية.

كذلك، يحافظ الملك على تواصل مباشر مع رئيس الوزراء، من أجل التنسيق في عدد من القضايا المصيرية التي تهم البلاد، ويوجد لدى الملك مجلس من المستشارين يقدمون له الاستشارة السياسية والاقتصادية، إلا أن الملك ممنوع الإبداء بالرأي علانية حول المواقف السياسية.

وسيحصل تشارلز الثالث على دعم من أموال دافعي الضرائب تحت بند “الدعم الملكي”، والذي يبلغ سنويا 110 ملايين دولار، وهو ما يعادل نحو 0.65 جنيه إسترليني كمساهمة من كل مواطن في بريطانيا.

عد دوقية لانكستر من أهم مصادر دخل الملك، وهي عبارة عن محفظة تضم أراضي خاصة تتضمن مشاريع تجارية وفلاحية وتجمعات سكنية وكلها في ملكية الملكة، ولهذه المنطقة التي تمتد على مساحة 18 ألف هكتار تاريخ عريق يعود لسنة 1265، وتصل مداخيل هذه الدوقية إلى 26 مليون دولار، وورثت الملكة هذه المنطقة عن والدها.

أما الكنوز من الجواهر والتاج البريطاني الشهير، فهي تعد كنوزا وطنية، وهي جزء من المجموعة الملكية التي تحتفظ بها الملكة كأمانة نيابة عن الأمة. وتتكون المقتنيات الثمينة للقصر من آلاف اللوحات الفنية، والمنسوجات والأثاث، والصور التي تؤثث القصور الملكية وخصوصا قصر باكنغهام، وفق مجلة “فوربس”.

قد يهمك: لبنان تُهدد وتركيا تتوعد.. ما الذي ينتظر اللاجئين السوريين؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.