“أصبحت أسعار العقارات مثل الخيال، لدرجة أنه في بعض المناطق، الأسعار أغلى من البلدان الأخرى، بما في ذلك البلدان الأوروبية. من سيشتري منزلا بملايين الليرات وأحيانا المليارات في بلد يفقد أبسط المقومات الحياتية، من كهرباء وماء وما إلى ذلك، مستقبل العقارات غامض وكأنه لعبة بيد التجار، حيث أن المشتريين إما من التجار وأمراء الحرب، الذين يملكون أساسا عدة منازل ولا يهتمون إذا هُدم أحد منازلهم أم لا، أو ربما يشترونها لمجرد ادخار أموالهم في عقار أو للتجارة، أو أن المشترين هم من المغتربين”، هكذا يشرح يحيى الفاخوري، عن ارتفاع أسعار العقارات في سوريا وكيف أصبحت حكرا على أمراء الحرب، والمغتربين فقط، في بلد أرهقته الحرب منذ أكثر من عشر سنوات، ولا يزال الوضع يتدهور للأسوأ، ويضيق الخناق على السوريين في الداخل يوم بعد يوم.

يشهد قطاع العقارات في سوريا اضطرابا منذ نحو سنتين، حيث تتراوح بين الركود، والحركة في البيع والشراء وذلك نتيجة لارتفاع الأسعار غير المسبوق، الذي بات يصل إلى مليار وأكثر في بعض الأحيان، وخاصة في العاصمة دمشق والمحافظات الرئيسية، ودائما المبرر يكون بارتفاع الأسعار عالميا، علما أن ارتفاع الأسعار لم يقتصر على تجار مواد البناء فقط، وإنما انسحب إلى عدد من أصحاب المكاتب العقارية، الذين اتبعوا المثل الشعبي “ما حدا أحسن من حدا”، الذين لعبوا الدور الكبير في عملية البيع والشراء.

بسبب تدهور الليرة؟

“الأسعار ترتفع يوما بعد يوم، وأنا أعمل ليل نهار منذ أكثر من عشر سنوات، وكذلك زوجتي، لكن كل يوم يتضاءل حلم حصولنا على منزل يأوينا، وذلك لانخفاض قيمة الليرة السورية أمام الدولار بشكل دراماتيكي، وبالتالي انخفاض قيمة رواتبنا ومداخيلنا إلى أدنى المستويات، إلى جانب ارتفاع غلاء المعيشة الذي لم نعد نستطيع ادخار شيء من مداخيلنا، فبالكاد نستطيع تأمين لقمة العيش اليومية”، يضيف يحيى الفاخوري، الشاب الأربعيني لموقع “الحل نت”، عن واقعه مع الأوضاع المعيشية في البلاد، وهو يسحب أنفاسه بقهر وحزن على الأحوال التي وصلت إليها البلاد، وعجز الحكومة عن فعل أي شيء لصد هذه الأزمات وتدهور الليرة السورية أمام النقد الأجنبي.

ضمن السياق ذاته، أكد الخبير في الاقتصاد الهندسي الدكتور محمد الجلالي، أن ارتفاع أسعار مواد الإكساء سببه تغيرات سعر الصرف في السوق السوداء وليس قرار المصرف المركزي برفع سعر صرف الدولار، باعتبار أن جزءا منها يتم استيراده من الخارج.

ونقلت صحيفة “الوطن” المحلية، اليوم الأربعاء عن الجلالي قوله بأن الليرة السورية شهدت خلال الفترة الماضية انخفاضا أمام الدولار، الأمر الذي أدى إلى قيام تجار مواد الإكساء برفع أسعارها بنسبة تقارب 10 بالمئة.

الجلالي، نوّه إلى وجود تراجع واضح في استثمار العقارات الجديدة بشكل عام نتيجة لارتفاع سعر الإسمنت منذ ما يقرب من الأسبوعين، حيث وصل سعر الطن الواحد في السوق السوداء إلى نحو 700 ألف ليرة، أما بالنسبة للحديد فقد ارتفع سعره مؤخرا لكن بنسبة بسيطة، مبيّنا أن سعر الحديد عالميا ينخفض لكن في سوريا يرتفع بسبب تغيرات سعر الصرف.

الجلالي، أشار إلى أن ارتفاع مواد البناء والإكساء مؤخرا لم يؤثر في أسعار العقارات في سوريا، في حين أن النسبة الأكبر من تجارة العقارات اليوم هي لشقق سكنية قائمة.

وبحسب الجلالي، فإن أسعار هذه الشقق اليوم تعتبر أقل من التكلفة نتيجة لوجود العرض وقلة الطلب، وأن الركود في حركة بيع وشراء العقارات في سوريا يتجه نحو الازدياد.

كما أن المؤسسة العامة للإسكان ومعظم الجمعيات السكنية التي تنفّذ حاليا مشاريع سكنية قامت برفع الأقساط على المكتتبين بسبب ارتفاع تكاليف البناء، ولكي تنسجم الأقساط الجديدة مع التكاليف، لكن، هذا الأمر سبّب أشكالا كبيرا وعبئا جديدا على المواطن المكتتب على مسكن، على حد قول الجلالي للصحيفة المحلية.

وقال ياسر محفوض، أحد أصحاب المكاتب في تجارة المنازل والعقارات، لـ “الحل نت”: “في الحقيقة، أصبحت أسعار العقارات ضرب من الخيال، وهي ترتفع يوما بعد يوم، نتيجة تراجع قيمة الليرة السورية مقابل الدولار، حيث إن سعر الليرة السورية غير مستقر أمام الدولار خصوصا خلال الأسابيع الماضية”.

وأضاف محفوض: “إن أسعار العقارات ووضعها غير ثابت وغير مؤمّن من قِبل الحكومة. حيث لا دراسة حقيقية تحدد قيمة العقارات، ولهذا أصبحت العقارات لعبة في أيدي التجار، ولا تتدخل الدولة إلا عند تحصيل الضرائب أو رفع الرسوم، وهذا ما جعل نسبة كبيرة من المتعاملين في العقارات يتلاعبون بالأسعار حسب رغباتهم”.

قد يهمك: راتب المؤسسات الحكومية السورية.. “البحصة ما بتسند جرة”

البيع بداعي “السفر”

في سياق موازٍ، إن العروض موجودة لكن المشكلة أن المعروض أكثر من الطلب وهذا الأمر موجود منذ مدة، كما أن الأسعار مرتفعة مقارنة بالدخل وهذا الأمر معروف وواضح لكنها ليس مرتفعة مقارنة بالتكاليف فعلى سبيل المثال، هناك عقارات معروضة للبيع تكلفتها بحدود 300 مليون، ومالكها يطلب سعر 150 مليون ليرة، لبيعها لغاية السفر ويخفض سعره لعدم وجود مشترين، على حد قول الخبير الاقتصادي للصحيفة المحلية.

وبالنسبة لحركة شراء العقارات من قِبل المغتربين، أوضح الجلالي، أن الحركة موجودة لكنها تراجعت بسبب الوضع العام ونتيجة ارتفاع الأسعار العالمي، لافتا إلى أن المغترب الذي كان يقوم بالتوفير من دخله لغاية الاستثمار في العقارات في سوريا، أصبح معظم دخله يستخدمه لشراء مستلزمات معيشته اليومية نتيجة ارتفاع الأسعار العالمي.

وخلُص الجلالي، حديثه بالقول: “إن تحسّن حركة البيع والشراء مستقبلا مرتبط بتحسن واقع البلد الداخلي والوضع العالمي”.

بالعودة إلى ياسر محفوظ، أحد أصحاب المكاتب في تجارة المنازل والعقارات بدمشق، يقول: “كل المشترين إما من المغتربين ومعظمهم من المقيمين في دول الخليج، أو من الطبقة الغنية في البلاد ونسبته قليلة، ولكن خلال الفترة الماضية انخفضت حركة الشراء، وزادت حركة المبيعات، وكلها بدواعي السفر، حتى أن بعضهم وضع أسعارا أقل من أجل البيع بأسرع وقت، ومن ثم شد رحاله والسفر إلى الخارج”.

“هون بالبلد الكل صار بدو يسافر، ما عاد توفي مع حدا حق المعيشة، غلا بكل مكان، لهيك الناس صارت بدها تبيع أملاكها وتسافر فيها لبرا، حتى لو بأسعار قليلة”، على حد قول الخبير العقاري، ياسر محفوض.

قد يهمك: شركات الوهم والاحتيال في سوريا.. زيادة المواجع بدون تخدير!

حلم امتلاك منزل!

يحيى الفاخوري المنحدر من العاصمة السورية دمشق، ويعمل موظفا حكوميا في النهار ويعمل بأحد المحلات بدوام مسائي يضيف لـ “الحل نت”: “عندي ولدان، واشتغل ورديتين، وزوجتي موظفة أيضا، لكننا بالكاد نعيّش أنفسنا، وأعيش في منزل أخي المغترب منذ سنوات، ولولاه، لكان وضعنا صعبا، لأنه لا يأخذ منا أجرة المنزل ويساعدنا في مصاريفنا أحيانا”.

“قبل عام 2011، كنت أنوي الحصول على قرض ونفس الشيء لزوجتي، وشراء منزل بالتقسيط، ولكن مع تدهور قيمة الليرة السورية، وارتفاع أسعار العقارات بشكل تدريجي، أصبح شراء منزل في سوريا من الأحلام وصعب التحقيق، وأعتقد أنه لا يتحقق حتى لأطفالنا ما دامت أوضاع البلاد تتدهور يوميا، والحل هو السفر إلى الخارج، وإلا فإنه من المستحيل شراء منزل بمثل هذه الرواتب المنخفضة”، يختتم الفاخوري، حديثه لـ”الحل نت”.

قبل عام 2011، كان امتلاك منزل في دمشق وريفها بمثابة حلم لأصحاب الدخل المحدود والمتوسط الذي يمكن تحقيقه بعد سنوات من العمل الشاق. الآن أصبح حُلما بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلا. ويرجع ذلك إلى الارتفاع الهائل في أسعار العقارات بسبب ارتفاع وندرة مواد البناء.

كان سعر المنزل الذي تبلغ مساحته 100 متر مربع، في دمشق يتراوح بين أربعة وخمسة ملايين ليرة سورية، في ذلك الوقت كان الدولار الواحد يساوي حوالي 50 ليرة، بينما كان سعره في المناطق العشوائية المحيطة بالمدينة. بين مليون ونصف ومليوني ليرة، أي ما يعادل حوالي ست سنوات من أجر العامل السوري، حوالي 30 ألف ليرة في الشهر.

في ذلك الوقت، كان يتحتم على ذوي الدخل المحدود إمضاء قرابة 15 إلى 20 عاما، في العيش ضمن حياة التقشف والمعيشة الأساسية من أجل شراء أحد هذه المنازل في المناطق العشوائية حول العاصمة، لكن مع قلة المساحات الآمنة، أدى ذلك إلى ارتفاع الأسعار والتضخم، وخلق تفاوت كبير بين الطلب والدّخل.

حاليا، وبحسب خبراء اقتصاديين، فإن المنزل بمساحة 100 متر مربع، يكلف ما لا يقل عن 80 مليون ليرة، مما يجعل تكلفة المتر المربع الواحد من المبنى 600 ألف ليرة، مع السقف والأعمدة، وما يصل إلى 800 ألف ليرة مع الإكساء الخارجي، وذلك من دون الأخذ في الاعتبار كلفة الأرض التي يحددها السوق العقاري المحلي، والتي قد تصل في منطقة أبو رمانة، مثلا إلى 25 مليون ليرة، للمتر المربع.

قد يهمك: هجرة سوريّة مستمرة.. طرق متعددة من أجل طوق النجاة

انخفاض نسبة البناء

بسبب العرض الكبير مقارنة بضعف الطلب الناتج عن انخفاض القدرة الشرائية للأفراد السوريين، نتيجة انخفاض الدخل وانخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار، تشهد صناعة العقارات في سوريا، ركودا حادا، حيث وصلت نسبة الانخفاض في البناء إلى 60 بالمئة، وباتت مقتصرة على الشركات العقارية الكبيرة.

وبحسب ما أكده رئيس نقابة البناء والإسمنت، إحسان قناية، لصحيفة “تشرين” المحلية، مؤخرا، فإن السبب وراء ذلك، ارتفاع أسعار مواد البناء من الإسمنت والحديد والبلوك، ومواد الصحية والكهرباء بنسبة أكثر من 100 بالمئة، عما كانت عليه في العام الماضي، فيما ارتفعت بنسبة 15 بالمئة، في الأيام القليلة الماضية.

ووفقا لحديث قناية، فإن تكلفة طن الإسمنت الرسمي ارتفعت إلى 416 ألف ليرة، بدلا من 180 ألف ليرة في العام الماضي، في حين ارتفعت تكلفة طن الحديد إلى 3.5 مليون ليرة، بدلا من 225 ألف ليرة، كما أن تكلفة اليد العاملة قد زادت أيضا بسبب غلاء المعيشة، حيث وصلت يومية العامل المساعد إلى 18 ألف ليرة.

وتابع قناية، “بينما تبلغ يومية المعلم 50 ألف ليرة، حتى إن أجور النقل زادت أضعافا، فقد كان عامل الصحية يستقل سيارة لنقل العمال من مركز المدينة إلى الريف بتكلفة 10 آلاف ليرة، أما اليوم فأجرتها أكثر من 50 ألف ليرة”.

وقال مجد، وهو أحد مالكي مكاتب العقارات في جرمانا، إن الإجراءات التي اتُخذت فيما يتعلق بعمليات الشراء والبيع (قانون بيع العقارات)، أثّرت بشكل كبير على سوق العقارات بسبب أوضاع التحويلات المالية والمصرفية والموافقات الأمنية، واللجان التي أنشئت لتحديد متوسط أسعار المنازل في كل منطقة.

فبالإضافة إلى مواد البناء الباهظة الثمن والكسوة التي قد تصل تكلفة الإكساء إلى 600 ألف ليرة للمتر المربع، يفضّل المغتربون شراء المنازل في مناطق إقامتهم، بعد مقارنة الأسعار ببلاد الاغتراب فيجد أن السعر ذاته، وعليه فقد تأثر هذا السوق بسبب عزوف بعض المغتربين عن الشراء نهائيا، على حد قول مجد، في تصريحات صحفية سابقة.

بحسب تقارير صحفية محلية، فإن أسعار العقارات لم تزد إلا بنسبة لا تتجاوز 5 بالمئة، منذ بداية العام الجاري، ولكن في عامي 2020 و2021، أي بعد تفشي وباء فيروس “كورونا”، ارتفعت الأسعار بنحو 50 بالمئة.

وبحسب مالك المكتب، فإن سعر أي منزل بأسوأ منطقة في جرمانا يتجاوز الـ 100 مليون ليرة، أما المناطق الجيدة فيتراوح سعر المنزل فيها بين 300 – 600 مليون ليرة، وينخفض السعر إلى نحو 60 مليون ليرة، في مناطق الغوطة.

وأشار إلى أن سعر المتر في العاصمة يصل إلى 20 مليون ليرة، أي إن سعر الشقة التي تبلغ مساحتها 100 متر في منطقة كفرسوسة، يتراوح بين 2-3 مليارات ليرة، أما سعر ذات الشقة في ضاحية قدسيا، فيَصل إلى 500 مليون ليرة، أي إن سعر المتر الواحد يبلغ 5 ملايين ليرة.

وتشير التقارير الصحفية المحلية إلى أن الأسعار في العاصمة دمشق، تصل إلى مليوني دولار، أي ما يقارب 3 مليارات ونصف المليار ليرة سوريا، والحديث هنا عن منازل في منطقتي المالكي، وكفرسوسة في حين تقل بنسبة قليلة في المهاجرين والروضة، والقيمة تنخفض شيئا فشيئا.

حي المالكي بدمشق “إنترنت”

أما بالنسبة لمنازل دمشق القديمة، فالأسعار تختلف بحسب القيمة التراثية أو الحضارية لمنطقة المنزل والأماكن المحيطة به، وبالتأكيد المساحة وإن كان طابقا أم اثنين مع السطوح، والأخير ثمنه مرتفع لأن الاستفادة منه أكبر فقد يتحول لفندق تراثي أو لمطعم أو كافيه شبابي، في المدينة القديمة.

الجدير ذكره، أن متوسط صافي الراتب الشهري للموظف السوري يبلغ 90 ألف ليرة سورية، وعليه فقد بات شراء منزل في سوريا أمر يفوق خيالات السوريين، فمع ارتفاع أسعار العقارات في سوريا غير المبرّر، أصبح من المستحيل شراء منزل في سوريا، حتى لو كان المرء محظوظا بما يكفي للعثور على وظيفة، حيث تُعتبر أزمة السكن في سوريا من أكثر القضايا إلحاحا في البلاد، في الوقت الذي ارتفعت فيه تكاليف البناء بنحو 200 بالمئة.

قد يهمك: الكهرباء لمواجهة الشتاء في سوريا.. “على الوعد يا كمّون”

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.