“لا أحد يُخبرك عن الشركة قبل إغلاقها، ولتفادي فخ شركات النصب والوهم والاحتيال المخادعة عليك التجربة”، هذا الحديث يقوله محامي المعاملات المالية، علي جيوش، بعد أن أصبح بعض الناس في سوريا يميلون إلى ابتكار أشكال جديدة من الخداع بسبب حاجتهم الجشعة إلى وضع أيديهم على ما تبقى من أموال المواطن.

ولكن يبدو أن حدود البخل والجشع لم تعد تحددها الثروة، أصحاب هذه الأعمال الوهمية يضعون أعينهم على حساب مدّخرات الفقراء، كالرجل الذي باع سيارته حتى يتمكن من إرسال ابنه إلى الكلية، وصاحب المنزل الذي تخلى عن منزله حتى يتمكن من وضع الطعام على الطاولة لعائلته، أو المستأجر الذي تخلى عن أصوله المعدنية حتى يتمكن من توفير غرفة للإيجار، كل ذلك مقابل بيع هذه الشركات الأحلام والأوهام التي تختفي بمجرد أن يختفي أصحاب هذه الشركات.

منذ بداية العام الحالي، فُتح باب التساؤل عن أسباب موافقة دمشق لتسجيل عدد من الشركات برأس مال صغير، وفق القانون 29 لعام 2011، حيث كان غالبيتها من الشركات المحدودة المسؤولية ورأسمالها 5 ملايين ليرة سورية فقط، لكن التحليلات تشير إلى أن هذه الشركات والصناديق الاستئمانية السرية والمجهولة الهوية تلعب دورا رئيسيا في غسيل الأموال وتوجيهها، إذ تخفي وراء ستار من السرية هوية الأفراد الفاسدين، والشركات غير المسؤولة المتورطة في أنشطة غير مشروعة.

عين على السلطة

“خسارة خمسة أشخاص تجاوزت 250 مليون ليرة”، هنا يشير جيوش، المنحدر من الحجر الأسود بريف دمشق، إلى بعض القضايا التي وكّلت إليه، فبسبب الظروف المالية الصعبة لمعظم الأُسر السورية، أصبح العديد منهم الآن يقعون ضحية مخططات الوهم والاحتيال التي تختصر بدفع الأموال على أمل الحصول على تعويض كبير وسريع، يقيهم صدمات الأيام القادمة.

يقول جيوش، إن هذه الظاهرة موجودة حتى قبل عام 2011، المحاكم اعتادت على هذا النوع من القضايا، وأصبح التعامل معها بشكل دائم بعد أن كانت بمعدل قضيتين فقط في كل عام، إلا أن الوضع الراهن يثير التكهنات حول تسهيل المؤسسات الحكومية إعادة فتح مثل هذه الشركات.

وبحسب جيوش، الذي يتردد إلى محكمة الجزاء في دمشق منذ بداية العام الجاري، بسبب احتيال شركة تسويق إلكترونية على خمسة من عملائه بمبلغ 250 مليون ليرة، ثم أغلقت أبوابها دون سابق إنذار، واختفى مالكوها، “حتى الحكومة وأجهزة الدولة ليس لديها علم أين ذهبوا”.

فشركات جمع الأموال، أو عمليات جمع الأموال هي إحدى أنواع الشركات الوهمية غير المرخصة وفق قانون الشركات في سوريا، وهي ليست جديدة إذ يعمل العديد من الأشخاص بها حتى قبل العام 2011، تحت مسمى تشغيل الأموال وإعطاء نسب ربحية يتفق عليها الطرفان، ولطالما كان معظمها مبنيا على حالات النصب والاحتيال، ولكنها زادت خلال سنوات السابقة، وزاد المقبلون عليها خاصة من يدّخرون بعض الأموال للحصول على مرابح شهرية بدلا من تجميد أموالهم.

أعداد الدعاوى بازدياد

وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، سجّلت منذ بداية 2022، 16 شركة غالبيتها شركات ذات مسؤولية محدودة برأسمال 5 ملايين ليرة سورية. حيث يحدد قانون الشركات السورية سبع فئات من الشركات: الشركات التجارية والمشتركة، والشركات المساهمة، والمملوكة للدولة، وشركات المناطق الحرة، والشركات القابضة، والشركات الأجنبية، والشركات المدنية.

حول آلاف الشركات التي تؤسس كل عام في سوريا، قال الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور، إبراهيم العدة، إن رأس المال المعلن ظاهرة غير سليمة في الاقتصادي السوري، مبينا أن الهدف منه “قد لا يكون نظيفا ولغاية خاصة في نفس المؤسسين، لكون مبلغ 5 ملايين لا يشتري باب للشركة، ويمكن سحبه في اليوم التالي للتأسيس”.

تقول معلمة اللغة العربية في مدرسة “الثورة” بدرعا، وفاء مسالمة، لـ”الحل نت”، إن تقديم الدعاوى على الشركات التي أعلنت إفلاسها على حين غرّة يتزايد يوما بعد يوم، وجميع ضحايا هذه الشركات هم من الطبقة الفقيرة، الذين باعوا بعضا من أصولهم من أجل الحصول على ربح لتسيير أمورهم، خصوصا وأن التجارة ومصادر الدخل في سوريا ليست بالمستوى المطلوب.

وفقا للصحف المحلية، فالعديد من السوريين تعرّضوا لعمليات نصب بعد أن وضعوا مبالغ مالية محدودة لتشغيلها في بيع الكهربائيات، وملابس “البالة”، ليجدو فجأة أن من وضعوا أموالهم لديهم قد اختفوا ولم يبقَ أمامهم إلا التقدم بالشكاوى في حال أدت لنتائج، كما لم تقتصر عمليات النصب على مبالغ صغيرة، إذ بيّن تقرير لصحيفة “الوطن” المحلية، بداية أيلول/سبتمبر الجاري، أن العديد من السوريين وضعوا مبالغ كبيرة جدا لتشغيلها، ليتعرضوا لعمليات نصب مماثلة أيضا.

مليارات الليرات اختفت

سعي الكثير من السوريين للبحث عن زيادة مصادر دخولهم، عن طريق تشغيل ما ادّخروه من أموال واستثمارها في بعض المشاريع لتكون سندا لهم مقابل غلاء الأسعار، كان عَبر وضع بعضهم الأموال مع أشخاص يعملون في العقارات، أو في بيع الألبسة وما إلى ذلك من دون وجود أدنى مقومات الأمان لنقودهم.

رئيس محكمة بداية الجزاء السابعة بدمشق، القاضي محمد خربوطلي، كشف في حديث لصحفة ”البعث” المحلية، الخميس الفائت، عن تزايد كبير في قضايا جمع الأموال، حيث يرد للمحكمة قضية أو اثنتين بشكل شهري، وتكون غالبا عبر شركات تعتبر وهمية، أي غير ظاهرة وغير مرخّصة نظاميا وليس لها نظام داخلي، وهي أشبه بالشركات العائلية مثلا التي تبدأ كتجارة صغيرة بين الأقارب مع إغراء الضحايا بأرباح بنسب كبيرة.

وبيّن خربوطلي، أن عدد الضحايا يجب أن يتجاوز العشرة حتى يعتبر الجرم جمع أموال، فأقل من ذلك يكون جرم احتيال أي ضمن نطاق الجُنحة وعقوبته 3-5 سنوات، فيما يعتبر جمع الأموال جناية يعاقب عليها وفق قانون جمع الأموال رقم 8 لعام 1994، باعتقال مؤقت حتى 7 سنوات، موضحا أن مرتكبي تلك الجرائم إما يدّعون جمع المال لاستيراد مادة ما، أو لتأمين سفر وإقامة في دولة ما، أو عبر مكاتب سياحة تعلن عن رحلات وسفر، وسواء كانت تلك المكاتب وغيرها مرخصة أو لا، فالجرم ذاته والترخيص شأن إداري يعود للجهة المعنية به.

وأشار خربوطلي، إلى أن أعلى قيمة جمع أموال سُجلت هذا العام هي 4 مليار ليرة تقريبا، فيما كانت أعلى قيمة بالمطلق لشركة “شجرتي”، التي ضُبطت من عدة أعوام وتجاوز المبلغ المجموع فيها 32 مليار ليرة، مؤكدا أن القانون يحمي ضحايا هذا النوع من الاحتيال ويضمن إعادة حقوقهم “إن ضُبطت” فقط، ففي معظم الأحيان تكون الأموال المصادرة غير كافية لإعادة ما دفعه الجميع، إذ يعمد جامعوا الأموال لعدم ترك أي أملاك باسمهم، وتهريب معظم أموالهم لخارج سوريا فيصبح من الصعب استرجاعها.

أدوار السوق السوداء

هذه الحالات ليست جديدة على الشارع السوري، فهي تعود إلى التسعينيات من القرن الماضي حيث كان يقوم بعض الأشخاص بجمع أموال لفتح مشروع معين، أو منشأة ما ليلوذوا فيما بعد بالفرار، والمثال على ذلك موجود، كشركة “شجرتي”، التي تم كشفها قبل نحو عامين.

إلا أن رئيس محكمة بداية الجزاء السابعة بدمشق، أكد أن أغلب جامعي الأموال يعملون بالمضاربة في السوق السوداء للصرافة، وتحويل الأموال بصورة غير مشروعة داخل وخارج القطر، أما عن ربط هذه الشركات بغسيل الأموال، فالهدف يكون التغطية على تلك الأموال وليس جمع المزيد، علما أنه سبق وقُدّم للقضاء ادعاءات على شركات ضخمة ظهرت فجأة على أنها جمعيات سكنية مرخّصة من عدة جهات، وجمعت أموال المواطنين ليتبيّن أن هدفها تبييض أموال.

طريقة الهروب بحسب خربوطلي، عبر توجه بعض الشركات لما يُعرف بالإفلاس الاحتيالي، أي أن تعلن الشركة إفلاسها فجأة بقصد التهرب من الدائنين والدفع للمكتتبين، حيث سُجّل أكثر من 8 قضايا في العام الأخير فقط، تاركين ورائهم عشرات ومئات المتضررين.

تُعتبر شركات الواجهة، أو ما تُعرف بالشركات الهيكلية، أحد أبرز الأساليب التي يتم اللجوء إليها للالتفاف على القوانين الاقتصادية، وهي شركات يتم استخدامها من قِبل شركات أو أفراد، لتكون واجهة لأغراض قد تكون مشروعة، أو غير مشروعة لتكون ستارا لبعض الجرائم الدولية، حسب البنك الدولي، بحسب تقرير سابق لـ”الحل نت”.

وتقوم هذه الشركات بتقديم بيانات غير حقيقية، تهدف إلى الالتفاف على القوانين، والقواعد التي تسعى إلى الحد من الفساد والتهرب الضريبي، وتغطية أعمال أخرى. ويتم التلاعب في هذه الشركات في مرحلة التأسيس بشكل رئيسي، حيث يتم تقديم بيانات غير حقيقية، حول هيكلية الشركة من ناحية ملكيتها، ومجلس إدارتها، وتفاصيل عن الأشخاص النافذين فيها، والشخص النافذ، هو الذي يملك 25 بالمائة، من أسهم الشركة، أو حقوق التصويت فيها، أو يملك الحق بإقالة وتعيين معظم أفراد مجلس إدارة الشركة.

وما يدفع بعض الأشخاص في سوريا للمخاطرة بأموالهم، هو البيئة الاقتصادية الموجودة التي تُعد معدلات الفقر والبطالة فيها مرتفعة، وادخار الأموال صعب جدا، خاصة في ظل صعوبة تأمين مستلزمات المعيشة، فمن يجمع مبلغا معينا عن طريق جهد أو قرض وما إلى ذلك يصطدم بصخرة الواقع، الذي لا توجد فيه مشاريع يمكن أن تُقام بمبالغ أقل من عشرة ملايين ليرة، فيفضل الأشخاص تشغيل أموالهم والحصول على (فائدة مبطّنة).

الجدير ذكره، أن سوريا تعد من بين الدول الأقل قدرة على الصمود في العالم، حيث تحتل المرتبة 154 من بين 163 دولة، في مؤشر أسعار المنتجين، والتي حددت سوريا كنقطة بيئية ساخنة، حيث تواجه البلاد حاليا تعرضا كبيرا لأربعة تهديدات بيئية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.