“كل يوم إيدي على گلبي”. ذلك الخوف اليومي لا ينتاب فردا واحدا بعينه، بل المئات إن لم يكن الآلاف من العراقيين، وهم يعيشون في قلق لا ينضب جرّاء النزاعات العشائرية المستفحلة في العراق.

“گلبي وگع بين ايدي”، يقول سمير عبيد، مواطن ميساني، وهو يتحدث لـ “الحل نت”، عن معاناته من استفحال النزاعات العشائرية في منطقته بقضاء المجر الكبير في ميسان، جنوبي العراق.

“مدري تضحك مدري تبچي. عركة شكبرها هدمت بيوت ونهت حياة الوادم علمود ألف دينار”. هكذا يتحدث عبيد، عن آخر نزاع حصل في منطقته قبل يومين فقط، نتيجة خلاف بين طفلين على أحقية أحدهما بذلك المبلغ البائس.

ألف دينار عراقي، هو أقل من دولار واحد، تسبّب بنزاع عشائري طاحن بين عشيرتي الطفلين، استُخدمت فيه الرشاشات والأسلحة بمختلف صنوفها، وراح ضحيته 4 أشخاص، ناهيك عن 20 جريحا، حسب قول عبيد.

السياب ضحية النزاعات العشائرية!

ظاهرة النزاعات العشائرية تستفحل في المدن الحضرية وحتى في العاصمة بغداد، لكنها تنتشر بشكل كبير في الجنوب العراقي، إذ حلّت البصرة أولا في النزاعات العشائرية، تلتها محافظات ذي قار وميسان ومن ثم وبغداد وواسط، حسب إحصائية لوزارة الداخلية العراقية.

شهد العام المنصرم 2021 لوحده، أكثر من 150 حالة وفاة بسبب النزاعات العشائرية المسلحة، فيما شهد الأسبوع الأول من شهر حزيران/ يونيو المنصرم، 9 حالات وفاة، حسب إحصاءات شبه رسمية.

تُستخدم في النزاعات العشائرية أسلحة متوسطة وخفيفة وقنابل هاون، وصولا إلى عبوات ناسفة محلية الصنع، وتتسبب في كثير من الأحيان بفرض حظر للتجوال وإغلاق للطرق والمناطق، من قبل قوات الأمن، فضلاً عن خسائر مادية بالممتلكات العامة والخاصة.

“ألف سلامة عليك شاعرنا السّياب”. عبارة ليست تهكمية، تكتظ بها منصات “التواصل الاجتماعي” العراقية في آخر يومين، بعد إصابة نصب الشاعر العراقي الكبير، الراحل بدر شاكر السياب، بـ 3 رصاصات إثر نزاع عشائري عند شط العرب، وسط البصرة.

التعامل القضائي مع النزاعات العشائرية

“راح بطلقة تايهة”، يقول مصطفى جواد، وهو يبكي بحرقة ما أن تذكّر طفله أمير، الذي توفي قبل شهر ونصف وهو بعمر 4 أعوام، إثر نزاع عشائري استمر 4 ساعات في الشطرة بمحافظة ذي قار.

طلقة طائشة، أصابت رأس الطفل أمير، و”السبب تافه والله العظيم. طلابة علمود دجاجة موّتتني آنه والمرَة واحنا بالحياة ورا ما راح وليدنا”، يقول جواد، الذي يقطن قضاء الشطرة في ذي قار جنوبي العراق.

النزاع كان بعد دهس أحد أولاد عمومته لدجاجة تعود لعشيرة أخرى دون قصد وهو يقود عجلته، فهجمت تلك العشيرة بالأسلحة على قبيلة جواد، وفقد الأخير فلذة كبده، دون حساب للجاني حتى اليوم.

تعرّف “الدگة/ النزاعات العشائرية”، بقيام مجموعة تنتمي لعشيرة أو قبيلة ما، بإطلاق الرصاص على منازل آخرين ينتمون لعشيرة أخرى، بهدف دفعهم لدفع تعويضات (دية، فدية، أتاوة، غرامة) أو الخضوع لحكم عشائري.

مع استفحال ظاهرة الدكَة العشائرية في العراق، وجّه مجلس القضاء العراقي، في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، الأجهزة الأمنية والقضائية، بالتعامل مع قضايا الدكات العشائرية وفق قانون “مكافحة الاٍرهاب”. إلا أن تطبيق التوجيه كان خجولا إلى حدّ كبير.

امتهان “المشيَخة”

رئيس “مجلس القضاء الأعلى” في العراق، فائق زيدان، قال في وقت سابق، إن “بعض الممارسات العشائرية تحولت إلى ظاهرة سلبية تسبب إرباكا في الوضع الأمني وخللا في التماسك الاجتماعي بين أبناء العشيرة الواحدة”.

فائق، أرجع استفحال ظاهرة النزاعات العشائرية، إلى امتهان البعض فكرة “المشيَخة” وكأنها “منصب مكتسب يستغل لأغراض الارتزاق”، على حد تعبيره.

“دولة ما بيها قانون وتحكم بيها الميليشيات شتترجّى منها؟”، يقول المواطن الميساني سمير عبيد، متسائلا، فيما يردف، أنه يضطر مع كل نزاع عشائري إلى الاختباء هو وعائلته في سرداب بناه تحت منزله، فقط لتجنب رصاص النزاعات الطائش.

فوضى السلاح المنفلت وغياب سلطة الدولة في العراق، دفعت العشائر إلى تسليح أبنائها، حتى أصبح كل فرد من أفراد العشيرة يمتلك سلاحا شخصيا بحجة الدفاع عن النفس والعشيرة.

عادة ما تكون النزاعات العشائرية؛ بسبب خلافات اجتماعية واقتصادية أو جرائم جنائية وحوادث عَرضية، سرعان ما تتحول إلى مواجهات بين عشيرتي الطرفين، ويفاقم ذلك انتشار السلاح، وعدم قبول أحد الطرفين بالاحتكام للقانون.

سلطة توازي قوة الميليشيات

قوات الأمن تسقط ضحية للنزاعات العشائرية في أحيان عديدة، إبان محاولتها فض تلك النزاعات، ولعل مقتل مدير استخبارات “عمليات سومر” في ذي قار، العميد علي جميل، في نيسان/ أبريل المنصرم، كانت أبرز حادثة لضحايا النزاعات العشائرية من رجال الأمن.

النزاع العشائري الذي راح ضحيته، العميد علي جميل، وقع بين عشيرة بني زيد وعشيرة عبودة، في قضاء الشطرة بمحافظة ذي قار، واستُخدمت فيه الأسلحة الخفيفة والمتوسطة؛ بسبب اختلاف العشيرتين على قطعة أرض.

“وليدي راح وبعد ما يرجعلي. بس ما أريدن اللي صار ويا ابني يتكرر ويا بقية الوادم. أريد الدولة تتحرك وتوگف العشاير عد حدها وتحمي الناس من سلاحها التارس البيوت”، ذلك هو رجاء المواطن الذي قاري مصطفى جواد، الذي لم تجف دموعه طيلة حديثه مع “الحل نت”.

كانت “لجنة الدفاع النيابية” في البرلمان العراقي السابق، قالت في بيان لها، إن حجم السلاح الذي تمتلكه العشائر العراقية كبير جدا، وهو كافٍ لتسليح فرق عسكرية كاملة، على حد تعبيرها.

يُذكر أن الحكومة العراقية، كانت قد فتحت مراكز في بعض المحافظات لشراء السلاح المنفلت الذي تمتلكه العشائر، في محاولة منها لحصر سلاح العشائر المنفلت، لكن تلك التجربة قد فشلت.

وبين حين وآخر، تُطلق الحكومة العراقية حملة لنزع السلاح من البيوت والعشائر، لكنها غالبا ما تفشل بتحقيق مهمتها؛ لأن سلطة العشيرة توازي قوة الميليشيات التي تعجز الحكومة عن مواجهتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.