لم تكن الاحتجاجات العراقية وليدة لحظة “انتفاضة تشرين” عام 2019، بل سبقتها بتاريخ أقدم وباحتجاجات عديدة. التاريخ الأول للاحتجاجات بدأ في 2011 مع ما سُمّى بـ “الربيع العربي”، لكن بعد 11 عاما، ما جدوى الحركة الاحتجاجية، وهل يمكن لها تغيير النظام في العراق.

في عام 2011، خرجت أول حركة احتجاجية منذ عراق ما بعد 2003، وكان هدفها الأوحد، هو “إصلاح النظام”، لكن رئيس الحكومة وقتئذ نوري المالكي، تمكّن من قمعها، وشهدت حينها أول اغتيال لناشط بارز في الاحتجاجات، هو الكاتب والصحفي هادي المهدي.

توسع الحركة الاحتجاجية

لم تنته الاحتجاجات، عادت بعد عامين ضد بطش وطائفية حكومة المالكي ضد مكون بعينه، وكانت نتيجتها نهاية حلم الولاية الثالثة للمالكي، بعد سيطرة “داعش” على ثلث مساحة العراق، ومجيء حكومة برئاسة حيدر العبادي في 2014.

الحركة الاحتجاجية توسعت وزاد زخمها في 2015، عندما تظاهر المدنيون مع الشيوعيين للمطالبة بحزمة من الإصلاحات، أكثرها خدمية ومطلبية، ثم اشترك معهم “التيار الصدري” واستمرت لعام كامل، واعتصم مقتدى الصدر، داخل المنطقة الخضراء، معقل الحكومة والبرلمان والبعثات الدبلوماسية.

مُنحت حكومة العبادي آنذاك، تفويضا شعبيا للضرب بـ “يد من حديد” واجتثاث الفساد وتحقيق المطالب الخدمية والإصلاحية. نجح العبادي بتحقيق بعض المطالب الخدمية والإصلاحية، لكنه فشل بمحاربة الفساد.

في عام 2018، خرجت البصرة باحتجاجات استمرت طوال الصيف، نتيجة ملوحة مياه شط العرب، والتسمم الذي قتل الآلاف من أبناء عاصمة العراق الاقتصادية بسبب تلك المياه، إضافة إلى تردي الكهرباء في المحافظة الأعلى حرارة كل صيف.

تلك الاحتجاجات التي ساندها الكثير من أطياف الشعب عبر تظاهرات كل يوم جمعة في بقية المحافظات، أسفرت عن إصلاح الواقع الكهربائي بدرجة معقولة في البصرة وتنقية مياه شط العرب، وأسقطت العبادي، عبر منعه من نيل الولاية الثانية، بعد أن كانت حظوظه كبيرة، لتأتي حكومة برئاسة عادل عبد المهدي.

عام لا أكثر لتحين لحظة “انتفاضة تشرين” في تشرين الأول/أكتوبر 2019 التي طالبت بـ “إسقاط النظام”، إضافة لمطالب أخرى، وهنا شارك كل الوسط والجنوب وبغداد فيها، ناهيك عن دعمها الواضح من قِبل المحافظات الغربية والشمالية، وهي الحركة الاحتجاجية الأقوى حتى هذا اليوم.

نجحت “تشرين”، في إسقاط حكومة لأول مرة منذ 2003، عبر استقالة عادل عبد المهدي، لتأتي حكومة مصطفى الكاظمي الحالية، بل وحققت بعض مطالبها، منها الانتخابات المبكِّرة، التي أفرزت نتائج غير متوقعة بسقوط كبير لقوى إيران فيها.

لا غنى عن الاحتجاجات؟

الكثير من الشباب المحتجين في “تشرين” انتقلوا إلى السياسة، وأسّسوا العديد من الأحزاب انبثقت من رحم “تشرين”، وأفرزت الانتخابات عن وصول نحو 50 نائبا، بين تشريني ومستقل إلى البرلمان العراقي، في وقت لم تحصل قوى إيران سوى على 17 مقعدا حينها.

إضافة إلى “إسقاط النظام”، كانت “انتفاضة تشرين” قد خرجت ضد الفساد السياسي والمالي وضد البطالة ونقص الخدمات، وضد التدخل الإيراني في الشأن العراقي، وبالطبع ضد الميليشيات “الولائية” المسلحة، لكنها جوبهت بقمع مفرط من قِبل تلك الميليشيات و”قوات الشعب” الحكومية.

بعد كل تلك النتائج، كانت الخيبة، بفرض قوى إيران نفسها على الجميع وتستعد لتشكيل حكومة جديدة، بعد أن عطّلت مشروع حكومة أغلبية بقيادة زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر، عبر قرارات قضائية عديدة لم تخطر على البال، ليستعد التشرينيون اليوم من أجل الاحتجاج مجددا.

هناك تحشيد كبير لتنظيم احتجاجات من قبل قوى “تشرين” في 15 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، ناهيك عن تحشيدات شعبية للخروج بحركة احتجاجية جديدة في ذكرى دفعة “انتفاضة تشرين” الثانية، وذلك في يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي.

الأسئلة هنا، ما الجدوى من استمرار الحركة الاحتجاجية التي يتم مواجهتها بالقمع والعنف في كل مرة، وما الذي نتج عن الاحتجاجات، وهل يمكن للحركة الاحتجاجية تغيير النظام في العراق، ليتم التحشيد إلى احتجاجات جديدة.

لا غنى عن الاحتجاجات؛ لأنها الطريقة الأسلم والأكثر ديمقراطية وحضارية للتعبير عن الرفض للطبقة السياسية، فزمن الانقلابات العسكرية أكل عليه الدهر وشرب، بحسب الباحث السياسي عصام الفيلي.

صحيح أنها لم تسفر عن الهدف المنشود بعد وهو تغيير النظام، إلا أن الحركة الاحتجاجية في العراق حقّقت مكاسب عديدة، أهمها إنهاء تفرد المالكي بالسلطة وطموحه ليكون صدام حسين جديد في البلاد، وفق الفيلي.

إسقاط حكومة عبد المهدي مكسب مهم، وهو ما لم يتحقق في أي حركة احتجاجية سلمية على امتداد تاريخ العراق الحديث؛ لأن معظم التغييرات حدثت عبر الانقلابات العسكرية منذ أن تأسست الدولة العراقية قبل أكثر من 100 عام، كما يقول الفيلي لـ “الحل نت”.

هل يمكن تغيير النظام؟

الفيلي يردف، أن إسقاط قوى إيران في الانتخابات الأخيرة قبل عام من الآن ورجوع حجم تمثيلها النيابي إلى أكثر من النصف بعد إعلان النتائج الانتخابية، ناهيك عن شبه تصفير مقاعد قوى سياسية لها حجمها، مثل “تيار الحكمة” الذي يقوده عمار الحكيم و”ائتلاف النصر” بزعامة العبادي، مكاسب لا يمكن عبورها والمرور عليها مرور الكرام.

كان “تيار الحكمة” بزعامة رجل الدين عمار الحكيم، حصل على مقعدين نيابيين فقط في الانتخابات المبكرة الأخيرة بعد أن كان يمتلك 20 مقعدا في انتخابات 2018، بينما حصل حزب العبادي على مقعدين يتيمين أيضا، في وقت كان الفائز الثالث بانتخابات 2018 عندما حصد 43 مقعدا.

الفيلي يدعم الاحتجاجات المقبلة، ويؤكد أنه مع كل حركة احتجاجية مقبِلة مهما كان حجمها ومهما استغرق طولها الزمني؛ لأن كل حركة احتجاجية تخلخل النظام الحالي وتضعفه وتزعزع تماسكه، الأمر الذي يمهّد إلى تغييره لاحقا.

بحسب الفيلي، فإن تغيير النظام عبر الحركة الاحتجاجية ليس بالمستحيل، بل من الممكن جدا تحقيقه، لكنه يحتاج إلى وقت أطول، والاحتجاجات المستمرة منذ عقد من الزمن قطعت أشواطا كبيرة في طريقها لتغيير النظام الراهن.

ما يجعل النظام يقاوم إلى اليوم، هو سلاح الميليشيات التي تديرها الأحزاب السياسية. هذا هو المعرقل الوحيد لتغيير الطبقة السياسية الحالية، ولولا السلاح المنفلت لتغيّر النظام في “انتفاضة تشرين”، لكن التغيير حتمي من خلال الحركة الاحتجاجية مستقبلا، وفق الفيلي.

القمع الذي مارسته الميليشيات الموالية لإيران و”قوات الشغب” الحكومية تجاه “انتفاضة تشرين”، أسفر عن مقتل 750 محتجا، وإصابة 25 ألفا بينهم 5 آلاف محتج مصاب بإعاقة دائمة، وفق الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية.

مما تقدم يتضح أن إنهاء الطبقة السياسية الحالية في العراق ليس بالأمر اليسير، لكنه لن يكون بالأمر الإعجازي أيضا، وتحقيقه يحتاج إلى الصبر والاستمرار بالضغط على النظام الحالي من خلال الاحتجاجات دون السماح لليأس، بأن يتسلل إلى نفوس المحتجين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.