حياتنا تغيرت كثيرا منذ دخلت شبكة “نتفليكس” المنطقة العربية عام 2016، لتقدم لنا تجربة ترفيهية مختلفة، ومفاهيم لم نعتدها كمشاهدين عرب من قبل. كانت البداية مع مبدأ “الدفع مقابل المشاهدة”، الذي لم يألفه كثير منا على الإنترنت في سنوات كان متاحا فيها تحميل كل شيء مجانا، ثم نشر مواسم المسلسلات كاملة في يوم واحد، بعكس العرف المتبع بنشر حلقة أسبوعيا، إلى جانب مئات الأفلام من جميع البلاد واللغات والثقافات، وتنظيمها في تصنيفات ممتعة (كوميديا، دراما، أكشن، أفلام مصرية، أفلام لبنانية، فانتازيا، تاريخ، إلخ…)، لينفتح أمامنا عالم جديد شائق أسرنا لساعاتٍ طويلة. ما زلت أتذكر الاستحسان العظيم الذي سرى بين أصدقائي وهم يبشرون بها بعضهم بعضا، ويشجعون آخرين على الانضمام إليها، وأتذكر كيف انقلب كثير من هؤلاء العشاق على شبكتهم المفضلة لاحقا.

بسبب سياساتها الجذابة في إدارة ونشر المحتوى، توغلت “نتفليكس” في حياتنا كمشاهدين عرب، وتزامن توغلها هذا مع صعود مصطلح “الصوابية السياسية” بقوة عالميّا، وازدهار ثقافة تقبل الآخر مهما كان جنسه أو عرقه أو شكله أو لونه أو معتقده أو ميله الجنسي، وترجمة هذه الثقافة في الأعمال الفنية الجديدة، لدرجة جعلت لجنة جائزة الأوسكار تقر قواعد بعينها لتمثيل الأقليات على الشاشة وضمن فريق عمل الأفلام، لتكون مؤهلة للترشح للجائزة السينمائية الأكثر شهرة. ورغم وجود كثير من المزايا الإيجابية لخطاب “الصوابية السياسية”، فإن تجسيد بعض الأفكار والمعتقدات على الشاشة سبَّب صدمة ثقافية لكثير من المشاهدين العرب.

اقرأ أيضا: “تسجيل خروج”.. تشويق على طريقة “نتفليكس” في رمضان العراق

ظهور المثليين والهويات الجنسية المختلفة، ومناقشة أفكار عقائدية وفلسفية تصطدم بمسلّمات دينية راسخة، هي أبرز ما صدم المتابعين العرب لشبكة “نتفليكس”، فأصبحت مثار غضب وتندّر وسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يمر يوم دون أن يسخر أحدهم من “نتفليكس تجبرنا على تقبّل المثليين بالعافية”، أو “نتفليكس” تفسد معتقداتنا، وتسعى لتغيير مجتمعنا وثقافتنا”.

ورغم الانتقادات العنيفة المستمرة لـ “نتفليكس”، أجدني مؤيدة للغاية لأعمالها وسياساتها، وأشجعها على تغيير ثقافة مجتمعنا، لأنها في رأيي طوق نجاة لخطاب اجتماعي وفني مريض، حان الوقت لنتخلص منه ونخطو إلى المستقبل.

تنمر وإساءات وجرائم.. “أكشن”

قبل سنوات شعرت برغبة في مشاهدة فيلم كوميدي مصري، فرشح لي بعض الأصدقاء فيلم “أمير البحار” من بطولة الفنان محمد هنيدي. كانت المشاهدة تجربة صادمة، فالسيناريو يقطّر تنمرا وذكورية وسخرية مهينة، وصفعات بلا هدف ينهال بها الممثل البطل على غيره من الشخصيات جلبا للضحك، مشاهد مؤسفة تُثري أرشيف الكوميديا الجارحة لهنيدي التي بدأها في “صعيدي في الجامعة الأمريكية”، بتهكمه على الممثلة السودانية مستورة، وبشرتها السوداء، وتنمره على زميلته “سيادة” بسبب اسمها غير المألوف، ناهيك بتعليقات ذكورية عدة تمس النساء.

الصفعات السخيفة التي أنهال بها هنيدي على زملائه تعد تيمة متكررة في أفلام الزعيم عادل إمام، أشهر الممثلين الكوميديين المصريين، بجانب عناصر أخرى غير المقبولة، كالتحرش، وتسليع النساء وتشييئهن جنسيا، وقد تكررت هذه العناصر عبر تاريخه السينمائي في أغلب أفلامه، للدرجة التي طبّعت المجتمع معها باعتبارها شيئا عاديا مقبولا على الشاشة، بل وهي العامل الأكثر إثارة للضحك في الفيلم أيضا.

هناك تساؤل شهير يصطدم به المثقفون المصريون مع كل عمل سينمائي مثير للجدل، هل تؤثر السينما في المجتمع وتشجعه على العنف؛ أم يُلهم المجتمع السينما فيظهر عنفه على شاشتها. إنه سؤال يشبه فزورة “البيضة أولاً أم الدجاجة”، وفي رأيي أن السينما تبدأ من مجتمعها أولا، تتأثر به وتستلهمه وتعكسه، مع هذا لا يمكننا إنكار أن للسينما تأثير عظيم على المجتمع، وأن كثير من فئاته تقلدها، خصوصا الأطفال والمراهقين، ويتلقون ما فيها من مبادئ باعتبارها حقائق الحياة ومبادئها، بينما يأخذ منها الناضجون الضوء الأخضر لكثير من السلوكيات المؤذية التي ترقى لمرتبة الجرائم، وهنا موطن الخطورة.

لقد عشت بنفسي صعود موجة التحرش العنيف في الشارع المصري بنهاية العقد الأول من الألفية، ورغم تجذّر هذه الجريمة في المجتمع، وعشرات الأسباب التي ولّدتها ورسّختها في حياتنا، فقد كان ملموسا تأثير أفلام المطرب المصري تامر حسني، التي قدم فيها التحرش كأمر جذاب ومحبب وخفيف الدم، لينطلق آلاف المراهقين في الشوارع في أعقاب الفتيات مقلدين ما فعله “نجم الجيل”.

هذا التأثير الحساس للسينما يفرض واجبا على كل سينمائي أن ينتبه لما يغرسه من أفكارٍ في أعماله، وأنه حتى لو التزم بالواقعية والتعبير عن قبح الحياة وأسوأ ما فيها، فعليه أن يصوغ أفكاره بعناية ليعبر عن القبح بشكل جميل، ولا يغفل عن اتهام القبح بأنه قبح، لا أن يمجده، والأهم من كل هذا ألا يستعمل القبح نفسه كوسيلة فنية لإيصال الفكرة.

مجتمعنا يردد دائما أنه مجتمع محافظ متدين محترم، لا يقبل الرذيلة ولا النقائص الأخلاقية، أو انتهاك حرماته الدينية، ومع هذا فإنه يطّبع الكثير من السلوكيات المؤذية المروعة والجرائم. وفي الوقت الذي تهتز فيه الأسرة المصرية لمشهد قبلة، أو ممثلة تتظاهر بأنها خلعت سروالها الداخلي في مشهد عابر لا يكشف بوصة من جسدها، كما حدث عقب بث فيلم “أصحاب ولا أعز” ضد الممثلة المصرية منى زكي، لدرجة أن البعض طالب زوجها الفنان أحمد حلمي بتطليقها، نجد أن شاشتنا السينمائية تروج للتنمر واختراع الألقاب المهينة للشخصيات بناء على لونها أو عرقها، أو بدانتها أو نحافتها، أو طولها أو قصرها، وتتسامح مع التحرش باعتباره جرأة وجاذبية، وتستخدم خطابا ذكوريا مهينا للنساء في عبارات مثل “هخليك مرة” و “عامل زي النسوان” و “نسوان مجانين”.. الخ، دون أي حرج، بخلاف العنف الرهيب الذي يفجعنا بمشهد رجل يضرب زوجته بوحشية، أو يتعدى على أبنائه بقسوة، دون أي محاكمة أخلاقية لتصرف كهذا.

قد يهمك: الدراما العربية ومتاعب العرض العالمي

بالطبع لا يمكننا أن نجد فيلما يناقش فكرة فلسفية تخالف المقرر علينا من الدين والأفكار، وحتى الأعمال التي وصفت بأنها جريئة وتحارب التطرف الديني، مثل فيلم “مولانا” و”الضيف”، من تأليف الصحافي المصري إبراهيم عيسى، كانت تتحرك على أرضية دينية “وسطية” وتتوسل التفاهم مع أصحاب الفكر الإرهابي، دون استعداد لنسف الخطاب الديني من جذره والتأسيس لفكرة المدنية والمواطنة على أساس الإنسانية ولا شيء سواها، ووقعت في فخ الخطابية والسفسطة التي جعلت تحمّل الفيلم لما يريد عن الساعة جهدا يفوق طاقة البشر.

لا تمثيل كاف للمسيحيين على الشاشة، ولم نر مسلمين شيعة ولا ملحدين ولا حتى لا أدريين، ولا أي أقلية دينية.

أما ما يخص المثليين والهويات الجنسية المختلفة، فقد دأبت السينما المصرية على السخرية من النساء “المسترجلات”، أو الرجال الذين يتميزون بالنعومة، وتعد المثلية في حد ذاتها وصما واتهاما، أمَّا الأعمال التي تناولت الأمر بشكل أكثر جدية، مثل فيلم “عمارة يعقوبيان” أو “أسرار عائلية”، فقد أرجعت المثلية إلى التعرض لاعتداء جنسي في فترة الطفولة، وهي سردية مجتمعية ركيكة مألوفة، وكان مصير الرجل المثلي إمَّا الموت على يد أحد عشاقه، أو رجوعه إلى “حالته الطبيعية” بعد العلاج، وهو أيضا اعتقاد مجتمعي شائع، فلا أحد لا يتخيل أن يواصل المثلي حياته على ما هو عليه، بل يُعالج أو يموت.

هكذا كانت السينما التي نشأنا عليها، والتي لم نر سواها إلا لماماً، مما تذيعه قنوات وبرامج متخصصة في الأفلام الأجنبية، والتي كانت بدورها تتعرض للتهذيب وحذف ما لا يعجب الرقيب، وقد ساهم هذا في تطبيع المشاهد المصري، وربما قطاع عريض من الجمهور العربي، على أفكار معينة وثقافة معينة، وأعمانا عن أي أفكار مختلفة، وساعد على هذا الانغلاق الإعلامي الكامل الذي ميّز بلادنا لعقود.

كل هذا تغير مع الانفتاح على الإنترنت وثورة الاتصالات في العقد الأول من الألفية الحالية، فلم نعد أسرى إعلام الدولة وما يختار أن يريه لنا، وأصبح متاحا لنا أن نشاهد ما نريد كما هو، ونقبله أو نرفضه كما هو، ثم جاءت ثورات الربيع العربي، التي رغم أنها منيت بهزائم سياسية شديدة القسوة، فإنها فتحت أعيننا على عالم آخر، ومفاهيم جديدة، وزلزلت آرائنا وقناعاتنا، وجعلتنا نعيد التفكير في كل المسلّمات والقوالب التي فرضت علينا، وكانت السينما والدراما أحد هذه المسلّمات.

موسم الهجرة إلى “نتفليكس”

منذ طفولتي أميل إلى الدراما والأفلام الأجنبية، فرغم عدم وعيي بكل ما سردته عاليا من أفكار، فقد كنت أشعر به ولا أستريح له، وكنت أرصد كيف يردد أقاربي دعابات عنصرية سمعوها في الأفلام ضد صديق طفولتي أسود البشرة، وكيف يفرّقون في المعاملة بيني وبين أخي لأنني بيضاء البشرة وهو أسمر، ثم كيف يفرقون بيننا لأنني بنت وهو ولد، وهكذا دواليك. ترسخ فيَّ أن هذه السينما لا تعبر عني، بل وتؤذيني بعبارات ومشاهد عنيفة، وتتسامح مع قبح حقيقي بشع وتعيد إنتاجه وتصديره للمجتمع، وهكذا ولد الصدع بيني وبينها، رغم شعوري من وقت لآخر بالوحشة، لعدم استمتاعي بما فيه الكفاية بدعابات وكوميديا وأفكار إنسانية مؤثرة، تتكلم لغتي وتحتضن هويتي.

بعد ثورات الربيع العربي، التي جعلتني أنفتح على أفكار لم ترد بخاطري من قبل، وأعيد محاكمة قناعاتي الشخصية، وما ورثته من أفكار ومعتقدات ربّتني على الرفض القاطع للمختلفين عني، وغيرت تفكيري مئة وثمانين درجة، وهي تجربة شاركني إياها آلاف وربما ملايين من الشباب المصري والعربي، أصبح من المستحيل أن نتسامح مع الفن التقليدي، والوصفات الجاهزة التي سأمناها على شاشاتنا، كان العالم أو على الأقل عالمنا، مهيئا لصعود خطاب الصوابية السياسية، وما تبعه من فنٍ يعبر عن الناس جميعا، ولا يستبعد أحدا من المعادلة.

“نتفليكس” قدمت لي أعمالا فنية تروي الروح، يجمح فيها الخيال ليعالج أكثر الأفكار تعقيدا، كما في مسلسل “ذا جود بليس”، الذي ناقش فكرة الجنة والجحيم والأخلاق الإنسانية في قالب كوميدي مذهل، وقدمت معالجة مثيرة للاهتمام لشخصية الشيطان الذي لعنته الأديان الإبراهيمية الثلاثة في مسلسل “لوسافير”، تعيد التفكير فيه من زاوية مختلفة. إنها سعة الخيال وحريته التي أفتقدها أكثر من أي شيء في سينماتنا.

تجسيد الأعراق، والأقليات، والثقافات المختلفة، وتجلّي المرأة على الشاشة ككيان حر مستقل يعامل كند وليس كتابع، ولا يُهان لإثبات فحولة البطل المغوار حامي الحمى، ولا يُتخذ منه وسيلة للسخرية أو الإهانة. لا نرى عنفا أسريا يُحتفى به باعتباره “تربية”، ولا تنمرا يعتبر “خفة دم”، كل هذه جوانب عظيمة نفتقر لها في إنتاجنا السينمائي والدرامي، ومع هذا فإن الانتقادات تعلو باستمرار ضد “نتفليكس”، والسبب الأبرز هو تسامحها مع المثلية الجنسية، والتي ترفضها الثقافة العربية مطلقا ولا تتقبل أصحابها، وتنكل بهم وتزج بهم في السجون وتنبذهم اجتماعيا وتشهّر بهم وتقتلهم. لا يتسامح مجتمعنا مع ممارسة جنسية تتم بين بالغين بالتراضي، لكنه يمرر جرائم التحرش الجنسي والعنف الأسري والعنف ضد المرأة دون حساسيات.

لكل هذه الأسباب أراهن على “نتفليكس” في تغيير هذا الوعي، في طرح خطاب مختلف يؤسس للحريات، لاحترام حق الجسد والميول الشخصية التي لا تخص أحدا سوى صاحبها، وأشجع تأسيس عالم فني كامل بقواعد جديدة يفتقر إليها واقعنا، ليغير بالتدريج رؤيتنا لمن حولنا، ويخرجنا من القوالب التي وضعتنا فيها الأجيال القديمة، والتي كانت أكثر انغلاقا وتطرفا وأحادية الرؤية.

قد يبدو هذا وكأن أعمال “نتفليكس” بعيدة عن الواقع، تصنع عالما موازيا لا يمت لعالمنا بصلة، فيه كل الأشياء مثالية، لكن لا، تعالج أعمال “نتفليكس” قضايا الاعتداء الجنسي والاغتصاب والعنف بجرأة، وتقدم الواقع القبيح المأساوي بضراوة، وتخوض غمار الخيال الديستوبي الكئيب بلا تردد، لكنها تستخدم أدوات “نظيفة” في طرحها، مهما كان الموضوع عنيفا أو صادما.

إنها مفارقة مثيرة للتأمل، فالسينما “النظيفة” التي يطالب بها أغلب الجمهور العربي، تنفر من قبلة عاطفية أو مشهد حميمي، لكنها تؤصل للعنف والإهانة والكراهية ورفض الآخر المختلف، ولا تعبر عن مجتمعها بكامل أطيافه، بعكس السينما/الدراما الموصومة بالانحلال التي تحترم إنسانية الإنسان مهما اختلف، وتسعى لإشراكه مهما كان جنسه أو شكله أو عرقه أو لونه في أعمالها.

اقرأ أيضا: ما الجديد في أول إنتاج مصري لنتفليكس مسلسل “ما وراء الطبيعة”؟

لـ “الصوابية السياسية” جوانب سلبية عديدة بلا شك، وقد أفسدت بعض الأعمال الفنية المهمة التي طال شوقنا لها، مثل مسلسل “خواتم السلطة” الذي يُعرض حاليا على شبكة “أمازون برايم”، كما أن أعمال “نتفليكس” ليست جميعها رائعة، وبعضها فيه أخطاء درامية أو فنية فادحة، لكن يشفع لها أننا في البداية نؤسس لعالم جديد، ونخلق لغة سينمائية جديدة تحاول تغيير الواقع إلى الأفضل. الواقع الذي يحتاج بشدة إلى أكبر قدر ممكن من التسامح وتقبل الاختلاف، في تلك السنوات المزدحمة بالأزمات والحروب والكوارث البيئية والاقتصادية والأوبئة.

هل تتبع السينما المحلية خطى السينما العالمية في تبني هذا الخطاب. هل يُراجع كُتَّاب السيناريو أنفسهم قبل أن يستخدموا تشبيها مهينا، ويتوقفون عن مشاهد الضرب والصفع والإهانة، والسخرية من الإعاقات والعاهات، على سبيل المرح. سيحدث هذا يوما بلا شك، لأن قواعد اللعبة تغيرت، والعالم مفتوح على مصراعيه أمامنا لنشاهد أعمالا لا تفجعنا وتروعنا وتشعرنا بالسوء. آمل أن ننضم إلى هذا العالم، وآمل أكثر أن يصبح واقعنا مصوَّبا سياسيا مثل ما نراه على الشاشة، تُنبذ فيه العنصرية والتفرقة والاضطهاد بدلا من الحريات الشخصية والمشاعر.

نحن بحاجة إلى بعض السلام.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.