إدارة الرئيس الأميركي، جوبايدن، وبعد تأخر استمر نحو 20شهرا، أصدرت وثيقة “استراتيجية الأمن القومي”، مؤكدة أنها ستعطي الأولوية لمواجهة تفوق الصين التي تعدّها منافسها العالمي الوحيد، بالإضافة إلى “شرق أوسط أكثر اندماجا”.

الرئيس الأميركي، جوبايدن، كتب في مقدمة وثيقة “استراتيجية الأمن القومي”، “في جميع أنحاء العالم، الحاجة إلى القيادة الأميركية كبيرة كما كانت في أي وقت مضى. نحن في خضم منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام الدولي”.

بايدن أضاف، “لن نترك مستقبلنا عرضة لأهواء أولئك الذين لا يشاركوننا رؤيتنا لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن. مع استمرار العالم في التغلب على الآثار المستمرة للوباء وعدم اليقين الاقتصادي العالمي، لا توجد دولة في وضع أفضل للقيادة بقوة وهدف من الولايات المتحدة الأميركية”.

الأولى من نوعها

البيت الأبيض، أصدر في الثاني عشر من الشهر الحالي، استراتيجية جديدة للأمن القومي الأميركي، وهى أول استراتيجية من نوعها، في عهد الرئيس جو بايدن، والتي أعلن فيها أن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة يتمثل في “التغلب على الصين وكبح جماح روسيا”، كما دعت الاستراتيجية إلى تقليص الاعتماد على “الخصوم”، وتعديل “العولمة”.

الوثيقة تنص على ضرورة أن تقوم الولايات المتحدة بتقوية الداخل الأميركي، ليكون قادرا على المنافسة المتصاعدة مع الأنظمة السلطوية على الساحة الدولية، بالإضافة إلى استقطاب الحلفاء والدول الصديقة ليعملوا في الساحة الدولية بموجب الأسس التي تراها واشنطن ضرورية لضمان الأمن والسلم الدوليين، والتي تتمثل من وجهة النظر الأميركية بعدة أشكال.

إقرأ:حقيقة اقتصاد الصين.. قراءة في الواقع الاقتصادي لبكين وسطوة دول “الآسيان”

المواجهة مع الصين

مواجهة التهديدات الصينية، حيث تُعد الصين، حسب الوثيقة، المنافس الوحيد على المستوى الدولي الذي ينوي إعادة رسم النظام الدولي كلّيا، ولديه القدرات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية، للقيام بذلك. ويزيد من تهديد ذلك امتلاك بكين طموحات كبيرة في مناطق النفوذ التقليدية للولايات المتحدة، وتحديدا المحيطين الهادئ والهندي، ويعكس ذلك استمرار إصرار واشنطن على أن مناطق نفوذها تمتد إلى مناطق العالم أجمع، وأنه ليس من حق الصين امتلاك مناطق نفوذ حتى في جوارها المباشر، وتحديدا فى المحيط الهادئ، ويكشف ذلك أن واشنطن لاتزال تسعى للإبقاء على هيمنتها على النظام الدولي.

الرئيس الصيني خلال استعراض عسكري “وكالات”

الوثيقة تعدد أدوات الصين لكي تصبح القوة المهيمنة على النظام الدولي، والتي تتمثل فى تقدمها التكنولوجي، ونفوذها الدولي والدبلوماسي على المؤسسات الدولية، وتوفير تكنولوجيات صينية تصب في النهاية لصالحها القومي ولقيمها التي تسعى للترويج لها، فضلا عن توظيف أساليب القهر الاقتصادية مستغلة الانفتاح الاقتصادي العالمي لزيادة الاعتماد الدولي عليها، وبتقليل اعتمادها على العالم. كما تستمر الصين فى زيادة استثماراتها العسكرية لتطوير جيشها بشكل متسارع لبسط سيطرتها على منطقتي الهادئ والهندي مهددة مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها فى المنطقة وفقا للوثيقة.

الوثيقة حددت بعض السياسات الأميركية للرد على الصين، والتي تتمثل في استمرار التدخل في الشئون الداخلية للصين، من بينها، توظيف ورقة حقوق الإنسان، حيث تؤكد الاستراتيجية أهمية فضح الأساليب الصينية للتعامل غير الإنساني مع الإيغور، وحقوق الإنسان لسكان التبت، كما تنص على دعم الديمقراطية في هونغ كونغ، حيث تؤكد واشنطن ضرورة الوقوف أمام محاولات بكين إضعاف الاستقلالية والديمقراطية التي تتمتع بها هونغ كونغ.

أيضا تنص الوثيقة على منع الصين من ضم تايوان، حيث أكدت الولايات المتحدة استمرارها في دعم سياسة الصين الواحدة، غير أنها في الوقت ذاته أكدت رفضها أي محاولات أحادية من جانب الصين لتغيير “الوضع الراهن بالقوة وبشكل أحادي”. وعلى الرغم من نفي واشنطن نيتها دعم استقلال تايوان، فإنها أكدت مواصلة تقديم الدعم العسكري لتايوان. وإذا ما تم الأخذ فى الاعتبار تهديدات الإدارة الأميركية الحالية بالتدخل للدفاع عن تايوان عسكريا، فإنه يلاحظ أن واشنطن سوف تعمل بكل قوة على منع توحد الصين وتايوان، نظرا للوزن الاقتصادي الكبير، الذي تتمتع به تايوان، إذ يقدر ناتجها المحلي الإجمالي لعام 2022 بنحو 850 مليار دولار.

كما تشير الوثيقة إلى التعاون في بعض الملفات، فلم تستبعد الاستراتيجية التعاون تماما مع بكين فى بعض المجالات، إذ أكدت أن هناك بعض المعضلات التي تواجهها الولايات المتحدة، والتي تتشاركها مع الصين مثل التغير المناخي والصحة العامة العالمية.

الوقوف بوجه الإمبريالية الروسية

الوثيقة الأميركية عدّت روسيا دولة تسعى لفرض نفوذها “الإمبريالي” على الدول المجاورة لها منذ ما يقارب عقدا من الزمان فى محاولة لتغيير النظام الدولي، ولعل المثل الواضح في هذا الإطار هو حرب روسيا ضد أوكرانيا، بالإضافة إلى تدخلاتها العسكرية في الشأن السوري، فضلا عن محاولة زعزعة استقرار الدول المجاورة باستخدام الهجمات السيبرانية والاستخباراتية فى دول آسيا الوسطى، وشرق أوروبا وحتى حول العالم؛ حيث أكدت الوثيقة التدخل الروسي في العملية الانتخابية الأمريكية فى 2016.

الوثيقة حاولت تأطير الحرب الأوكرانية ليس باعتبارها صراعا جيوسياسيا بين الغرب وروسيا، ولكن باعتباره دفاعا عن المبادئ الأساسية للأمم المتحدة الخاصة بالسيادة، ووحدة أقاليم الدول. ووضعت الاستراتيجية الآليات للتعامل مع التحدي الروسي، والذي يتمثل في الدعم المستمر لأوكرانيا، حيث تسعى الولايات المتحدة لاحتواء السياسات الروسية العدائية من خلال الدعم المستمر للشعب الأوكراني، لكي يتمكن من الدفاع عن نفسه ودعمه اقتصاديا وإنسانيا من خلال جمع المساعدات من الحلفاء والدول الصديقة، بحيث تتحول الحرب الروسية ضد أوكرانيا إلى “خطأ أو فشل استراتيجي”.

أيضا استنزاف الاقتصاد الروسي، ستقوم الولايات المتحدة بتوجيه ضربات اقتصادية تهدف لإضعاف مجال الدفاع والفضاء الروسي، بالإضافة إلى زيادة قدرات “الناتو”، لردع روسيا من الاعتداء على الدول الأوروبية، من خلال الترحيب بالسويد وفنلندا فى الحلف.

منع روسيا من استخدام النووي، ترى الوثيقة أن إضعاف روسيا، عسكريا واقتصاديا، عبر استنزافها في أوكرانيا، قد يؤدى إلى لجوء روسيا للأسلحة النووية، ولذلك أكدت الاستراتيجية أن الولايات المتحدة، “لن تسمح لروسيا، أو لأي قوة أخرى، بتحقيق أهدافها من خلال استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها”، لكن الوثيقة لم تناقش ردّ الولايات المتحدة وحلف “الناتو” إذا اختار بوتين استخدام سلاح نووي تكتيكي في أوكرانيا، في استمرار واشنطن في اتباع استراتيجية الغموض الاستراتيجي.

الشرق الأوسط المزدهر

في الجزء الخاص بالشرق الأوسط، الذي جاء في 827 كلمة فقط، ركزت الاستراتيجية الجديدة على رسم خطوات يمكن أن تعزز مصالح واشنطن، وتساعد شركاءها الإقليميين على إرساء الأساس لمزيد من الاستقرار والازدهار.

في ظل مصالحة بين إسرائيل ودول خليجية عربية، دعت الاستراتيجية إلى “شرق أوسط أكثر اندماجا” من شأنه أن يقلل على المدى البعيد “مطالب الموارد” من الولايات المتحدة التي وفرت حماية للدول المنتجة للنفط على مدار عقود.

الاستراتيجية تتضمن إطارا من 5 مبادئ يحكم سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، حيث ستدعم واشنطن وتعزز الشراكات مع الدول التي تحترم قواعد النظام الدولي، مع تأكيد ضرورة تمكين هذه الدول من الدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية.

أيضا لن تسمح واشنطن للقوى الأجنبية أو الإقليمية بتعريض حرية الملاحة عبر الممرات المائية في الشرق الأوسط للخطر، بما في ذلك مضيق هرمز وباب المندب، ولن تتسامح مع الجهود التي تبذلها أي دولة للسيطرة على دولة أخرى، أو المنطقة من خلال الحشود العسكرية أو التوغلات أو التهديدات.

كما ستعمل واشنطن على خفض التوترات وخفض التصعيد وإنهاء الصراعات حيثما أمكن ذلك بالدبلوماسية، أيضا ستعمل على تعزيز التكامل الإقليمي من خلال بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركاء الولايات المتحدة وفيما بينهم، ومن ذلك هياكل الدفاع الجوي والبحري المتكاملة، مع احترام سيادة كل دولة وخياراتها المستقلة، كما ستعمل دائما على تعزيز حقوق الإنسان والقيم المكرّسة في ميثاق الأمم المتحدة.

الوثيقة أبرزت أيضا ما تراه مخاطر وتهديدات إيرانية لواشنطن وحلفائها، وأكدت دعمها اتفاقات “إبراهام” بين إسرائيل والدول العربية، وكررت دعمها لحل الدولتين بوصفه أساسا لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي.

القطب الواحد و”تحالف القيم”

خبراء في القانون الدولي، يرون أن “استراتيجية الأمن القومي الأميركية” الجديدة، التي صدرت عن البيت الأبيض في 49 صفحة تشكل منعطفا جديدا، وربما خطيرا في بيئة العمل الدولية، ليس فقط لأن “الاستراتيجية” الجديدة تصرّ على أن تظل الولايات المتحدة هي قائدة العالم وصاحبة القطب الأوحد، بل لأن هذه “الاستراتيجية” تقسم العالم إلى نصفين، الأول معسكر حلفاء الولايات المتحدة السياسيين أو العسكريين، وهو ما تطلق عليه واشنطن “تحالف القيم”.

أما النصف الآخر هم من تستهدفهم الولايات المتحدة، لأن “مصفوفة القيم” الخاصة بهم تختلف عن “حزمة القيم”، التي تروّج لها واشنطن، لكن الأخطر في هذه الوثيقة أنها لا تستهدف فقط أكثر من نصف دول العالم، بل إنها تجبر النصف الآخر من العالم “الأصدقاء والحلفاء” أن يستخدموا الأدوات نفسها ويحددوا الأهداف نفسها، حتى تبقى أميركا هي سيدة العالم.

تحول دراماتيكي

التحول الذي تحمله “استراتيجية الأمن القومي الأميركي” الجديدة، تشبه التحول، الذي بدأ في كانوا الأول/ديسمبر عام 2018 في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، فمنذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 وحتى كانون الأول/ ديسمبر 2017 كانت الاستراتيجية الأميركية تركز على ما تسميه بالحرب على “الإرهاب الراديكالي”، لكن مع تولي الرئيس ترامب الحكم عام 2017 تخلى جزئيا عن قضية الإرهاب.

الغزو الروسي لأوكرانيا “وكالات”

حيث اعتبر الصين وروسيا المنافسين الاستراتيجيين للولايات المتحدة على الساحة الدولية، ورغم التباين في النظرة الأميركية لكل من الصين وروسيا، إلا أن واشنطن وضعت منذ عام 2018 كلا من بكين وموسكو في سلة واحدة، وتجدد هذا الأمر في “الدليل المبدئي” لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي صدرت في مارس 2021، حيث ظلت تنظر الولايات المتحدة لروسيا والصين باعتبارهما المنافسين لها على الساحة الدولية.

من المفترض أن تعلن واشنطن استراتيجيتها للأمن القومي في أواخر كانون الأول/ديسمبر الماضي، لكن بداية من 19 من نفس الشهر، بدأت التقييمات المخابراتية تقول، إن روسيا سوف تدخل إلى أوكرانيا، وهو ما حدث في 24 شباط/ فبراير الماضي، وبعد مرور نحو 8 أشهر على الحرب في أوكرانيا، ترى التقييمات الأميركية أن روسيا تراجعت عن مكانتها كـ”منافس” لواشنطن على الساحة الدولية، ولهذا ترى “الاستراتيجية” الجديدة أن روسيا هي أقل الدول الكبيرة الفاعلة عندما يتعلق الأمر بالصين والهند واليابان، وهو انعكاس لما تقوله الصحافة الأميركية.

أي أنه بحسب “الاستراتيجية”، فإن روسيا ما هي إلا “دولة إقليمية كبيرة”، وهي مجرد “محطة بنزين” مدججة بالأسلحة النووية، وربما يعكس هذا التصور الرغبة الأميركية بهزيمة روسيا وربما تفكيكها وانهيارها بنهاية حرب أوكرانيا. وتظل الصين هي الخطر الأكبر على الولايات المتحدة في “الاستراتيجية” الجديدة، حيث تراها “التحدي الوحيد” سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا، ولهذا تعتمد استراتيجية واشنطن على “توظيف الحلفاء” ضد الصين.

هذه “الاستراتيجية” واضحة في تحالفات مثل “أوكوس”، الذي يضم بجانب الولايات المتحدة كلا من بريطانيا وأستراليا، و”كواد الرباعي”، الذي يضم مع واشنطن كلا من نيودلهي وكانبرا وطوكيو، وتحالف “العيون الخمس”، الذي يضم أميركا وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، لكن الجديد أيضا في “الاستراتيجية الأميركية” أنها لا تفصل بين ما يحدث في أوروبا وبين ما تراه خطرا صينيا في منطقة “الإندو- باسيفك”.

إقرأ أيضا:هل الصين على حافة الركود الاقتصادي؟

من الجدير بالذكر أن “الاستراتيجية الأميركية” استطاعت رسم ملامح جديدة للسياسة الأميركية في عصر صراع القوى الكبرى، والتي تعكس إجماعا داخليا، يتجاوز الانقسامات الحزبية الأميركية، ويتضمن تركيزا على إقامة شراكات عسكرية واقتصادية مع حلفاء الولايات المتحدة، لمواجهة الخصوم، وتحديدا روسيا والصين، مع إعادة مراجعة “العولمة” لضمان عدم استمرار تحقيق الصين فوائد اقتصادية أكبر على حساب الولايات المتحدة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.