وسط الأزمات والصراعات السياسية المستمرة بين الحين والآخر في تونس منذ أكثر من عشر سنوات، وبينما تشهد تونس أزمة اقتصادية غير مسبوقة أثرت بشكل كبير على مفاصل الحياة المعيشية اليومية في البلاد، ثمة مخاوف من أن الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، أو على الأقل الالتزام به، قد يكون صعبا؛ لما يسعى إليه الرئيس التونسي، قيس سعيّد، لتعزيز قبضته على السلطة.

مؤخرا وعقب مفاوضات كثيفة امتدت لأكثر من سنة، وافق صندوق النقد الدولي مبدئيا على منح تونس قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار في انتظار الموافقة النهائية في شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل. مدّة القرض 48 شهرا، ويهدف إلى استعادة استقرار الاقتصاد الكلي وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي والمساواة الضريبية. أما صندوق النقد الدولي قال من جانبه، إن البرنامج المتفق عليه مع تونس سيشمل تغييرات لتوسيع قاعدة الضرائب وتوسيع تغطية شبكة الأمان الاجتماعي لمساعدة الأشخاص الأكثر فقرا على مواجهة ارتفاع الأسعار، وكذلك سنّ قانون يحكم إصلاح الشركات المملوكة للدولة.

من هنا يجدر التساؤل عن النتائج المتوقعة حول الحصول على هذا القرض، وما يترتب عليه من تداعيات، وهل ستنجح الحكومة التونسية في المضي قُدما في تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي عن طريق سحب الدعم عن الشعب وفي الوقت ذاته ضبط الشارع التونسي إزاء ذلك، أو فيما إذا كانت البلاد ستواجه موجة أخرى من الاحتجاجات الشعبية، وبالتالي ستدخل تونس مرحلة الاضطراب والفوضى وتدهور اقتصاد البلاد أكثر فأكثر، بالإضافة إلى تداعيات كل هذا على مستقبل البلاد بشكل عام.

أهمية القرض

القرض الدولي يأتي في ظل ظروف اقتصادية صعبة ومعقدة يطغى عليها ارتفاع أسعار المحروقات والمواد الغذائية الأساسية وفقدانها في بعض الأحيان، ليقدم بصيص أمل لبلد أرهقته الصراعات السياسية التي لم تتوقف منذ اندلاع الثورة التونسية في كانون الأول/ديسمبر 2010، واتخذ منعطفا خطيرا آخر منذ أن تولى الرئيس قيس سعيّد السلطة، وأعلن إجراءات 25 تموز/يوليو التي سمحت له بالحصول على جميع السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.

إن قيمة عجز الميزان التجاري في تونس تقدر بـ9.92 مليار دينار (3.25 مليارات دولار) وعجز في ميزانية الدولة لسنة 2022 بقيمة 8.5 مليار دينار (2.59 مليار دولار)، ما يعني أن القرض لوحده لن يكون قادرا على تغطية هذه الاختلالات في التوازنات المالية العمومية التونسية، وفق خبراء اقتصاديين.

إن القرض، سيُدفع على أقساط على امتداد أربع سنوات، وسيتم على استهلاك وتوفير المواد الغذائية والمحروقات، التي تعرف تقطعا في التزويد في السوق التونسية ولن ينفق على الاستثمار وتنمية البنية التحتية كما هو متوقع.

ضمن هذا الإطار، يرى الأكاديمي السياسي وأستاذ العلوم الجيوسياسية في الجامعة التونسية، ورئيس أكاديمية “حانون” للعلوم الجيوسياسية والاستراتيجية، رافع الطبيب، أن أهمية القرض الممنوح من البنك الدولي تفوق قيمته المالية، لتمثل تجديد ثقة الفاعلين الاقتصاديين في العالم بقدرة تونس على تخطي الوضع الراهن. ستحفّز هذه الثقة العديد من شركاء تونس على الوفاء بوعودهم فيما يتعلق بتمويل الميزانية، والوعود التي كانت معلقة على مدى شهور من المفاوضات مع الصندوق.

الطبيب أردف في حديثه لـ”الحل نت”، أن الحديث عن رفع الدعم لا يستقيم في تونس، وأن رئيسة حكومة تونس، نجلاء بودن، نأت بنفسها عن هذا الشعار مفضّلة الحديث عن ترشيده وتوجيهه إلى الشرائح التي في حاجة إليها بعيدا عن منطق “منطق الريع والتمعش”. كما أن المواد المدعومة في تونس تنتهي عموما في جيوب الطبقات المرفّهة التي استفادت في المقام الأول، خاصة في المحروقات التي تستحوذ على ثلثي الميزانية.

لكن بالمقابل، وفق تقدير الطبيب، تخشى الطبقة الوسطى التي دفعت أثمان الانهيارات الكبرى في قدرتها الشرائية على امتداد عشريتين متتاليتين، زمن الرئيس الفار بن علي وفترة حكم النهضة، من تحميلها أثمان التوجه الجديد للدعم. لذا، تتمسك النقابات التي تنتظم ضمنها أغلب شرائح الموظفين بالدعم في شكله الحالي، وإن كانت تقرّ بعلاته واستشراء بؤر الفساد في مفاصله.

قد يهمك: بعد تزويدها روسيا بالأسلحة.. ما احتمالات التصاعد بين الغرب وإيران؟

بنود الاتفاق من يستهدف

العديد من النقابيين، اتهموا الحكومة التونسية بالقيام بعملية “تعطيش” للسوق التونسي من خلال رفع أسعار بعض السلع، حتى يقبل المواطن بشراء السلع التي يحتاجها بأي سعر، لافتين إلى أن هذا الأمر هدفه “تهيئة الشعب نفسيا” لرفع الدعم.

هذا ومن بين البنود الأخرى التي ينص عليها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، بيع جزء من الشركات العمومية والقيام بإصلاحات هيكلية للبعض منها، وهو ما شرعت فيه الحكومة التونسية عندما بدأت في سياسة التخفيض من كتلة الأجور للعاملين في القطاع العام والتقليل من الميزانية المخصصة للإنفاق عليها، وفق تقارير صحفية.

بحسب الأكاديمي السياسي، رافع الطبيب، فإن أهم بنود الاتفاق مع البنك الدولي لا يستهدف الدعم الذي يمكن صياغة توافقات حوله وتأجيل تفعيل إعادة هيكلته، بل يقرّ بضرورة التفويت في بعض المؤسسات العامة المملوكة للدولة والتي تحولت إلى ثقب أسود يبتلع ميزانيات ضخمة عوض تمويل الخزينة.

كما أن هذه المؤسسات أصبحت عبئا على الجميع ولن تنجح محاولات البعض عبر الضغط والإرباك الأمني في تنفيذ مطلب ملح، لا فقط للمالية الرسمية، بل أيضا للشارع الواسع الذي يرفض تمويل مؤسسات كانت بالأمس تسجّل أرباحا وتحولت بفعل الفساد والمحسوبية والحوكمة الجاهلة إلى ملكية خاصة للوبيات نجحت في إفلاسها، على حدّ تعبير الطبيب.

قد يهمك: استعداد العديد من الاقتصادات العالمية للانكماش.. ما التحديات والتوقعات؟

“احتجاجات وانهيار للبلاد”

في الإطار ذاته، أكدت المنظمة الشغيلة على صعوبة تمرير هذه الأجندة، لأن أجور العاملين بالقطاع العام ضعيفة والهشاشة الاجتماعية كبيرة جدا، و80 بالمئة من الشعب التونسي يحتاج إلى الدعم، كما أن الاتحاد العام التونسي للشغل قد أعلن منذ نحو 3 أشهر، أنه عازم على بدء خوض إضراب، احتجاجا على تراجع الأوضاع الاقتصادية، وتنديدا بالإجراءات التي اقترحتها الحكومة بهدف الخروج من الأزمة المالية.

الاتحاد التونسي للشغل يحذر الحكومة من خفض الدعم “Getty Images”

وفق مراقبين، فإن جملة من التحديات تتحكّم في مدى نجاح الحكومة التونسية بالحصول على الموافقة النهائية للقرض من صندوق النقد، ومن بينها استقرار الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد والتي تعتبر شرطا أساسيا للحصول على التمويل الدولي، لا سيما وأن السلطات الأمنية التونسية قامت مؤخرا بقمع العديد من المسيرات والاحتجاجات، التي نظمتها المعارضة السياسية المطالبة بإلغاء ما سمته بـ”قرارات الانقلاب” التي أعقبت تحولات 25 تموز/يوليو.

من جانبه، يرى الأكاديمي السياسي، رافع الطبيب، أن الاحتجاجات قادمة لا محالة، لكنها قد لا تكون موجهة نحو السلطة هذه المرة، ذلك لأن الرئيس نجح في ترسيخ فكرة المسؤولية المباشرة للمجاميع الخاصة الاحتكارية على فوضى التموين وارتفاع الأسعار. وما يؤكد هذه الفرضية، هو الانخراط الفعلي والميداني للتنسيقيات المساندة للرئيس في عديد التحركات الأخيرة وتأكيد بعض رموزها استعدادهم لقيادة الحراك الاحتجاجي الاجتماعي فور اندلاعه، لأنه سيمثل تعبيرا شعبيا عن رفض واسع لوضعية الاحتكار التي ورثتها تونس من عهد بن علي، ورسختها سلطة النهضة المتواطئة مع أباطرة السوق.

من جانبه، يرى المراقبون، أن هناك دلالات سياسية لتأجيل توقيع الاتفاق النهائي مع الصندوق الدولي، حيث يسعى الصندوق إلى معرفة نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة والتأكد من نجاح الانتخابات. المسار الذي خطط له سعيّد وتحقيق الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة من قبل الصندوق لتوقيع الاتفاقية.

أما المستشار السياسي لراشد الغنوشي، رياض الشعيبي، فقد أفاد في تصريحات إعلامية، أن لدى السلطة التونسية “فرصة أخيرة” لتحقيق توافق سياسي لتجاوز الأزمة الشاملة في البلاد واحتواء “الحراك الاجتماعي”، مشيرا إلى أن “الحكومة ورئيس الدولة لا يذهبان في ذلك الاتجاه ما قد يساهم في انفجار الأوضاع في البلاد”.

تونس “إنترنت”

وعليه، فإن تقدم الحكومة التونسية في سحب الدعم عن الشرائح المجتمعية، الأمر الذي سيزيد من احتمالية خروج التونسيين إلى الشوارع للاحتجاج والاعتراض على هذه السياسات، وبالتالي تهديد للاستقرار الاجتماعي، وهو شرط مهم للحصول على الدعم الدولي، بالإضافة إلى وضع مسار الانتخابات البرلمانية المقبلة في مرحلة خطرة، فضلا عن انهيار المالية العامة وعدم قدرة الدولة على الإنفاق داخليا وسداد ديونها الخارجية، وهو ما سيدخل البلاد في مرحلة حرجة وخطيرة. أو ربما تقوم الحكومة التونسية بضبط الشارع التونسي بالقوة الأمنية، وبالتالي ضمان مناخا من الاستقرار السياسي ونوعا من الهدنة الاجتماعية، ومن ثم استكمال الانتخابات النيابية في موعدها المقرر نهاية العام الحالي، والتوصل إلى الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي وإعطاء البلاد منفذا اقتصاديا حتى لو كان هشا، مرحليا. ومع ذلك، يعتبر هذا الخيار ضعيفا حسب وجهة نظر المحللين.

قد يهمك: ما هي حدود مساهمة الجزائر في مواجهة أزمة الطاقة في أوروبا؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.