أزمة شح المياه في العراق تفاقمت مؤخرا حتى وصلت إلى مستويات وصفها مراقبون بالخطيرة والكارثية، فتداعياتها بدت واضحة، وسط توقعات باتجاه الوضع نحو الأسوأ، إذا لم يتم وضع الحلول الناجعة للحد من آثارها المدمرة.

ملفّ المياه بات يشكّل تحديا أساسيا في هذا البلد شبه الصحراوي، والذي يبلغ عدد سكانه 41 مليون نسمة، حيث حمّلت بغداد مرارا جارتيها تركيا وإيران مسؤولية خفض منسوبات المياه، بسبب بناء سدود على نهري دجلة والفرات، في ظلّ انخفاض مناسيب المياه وأزمة الجفاف الواسعة التي وصلت لمستويات لم تسجلها البلاد من قبل.

قد يهمك: الأزمة المائية في العراق: هل بإمكان الحكومة العراقية خوض “حرب مياه” مع تركيا وإيران؟

في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حذر البنك الدولي من انخفاض بنسبة 20 بالمئة في الموارد المائية للعراق بحلول عام 2050، بسبب التغير المناخي، إذ يخسر العراق يوميا 10 مليارات دينار (نحو 7 ملايين دولار) جراء هذا التغير والذي اعتبر من أهم التحديات التي تواجه العراق، بحسب وزارة البيئة العراقية. فيما صنف تقرير الأمم المتحدة العراق واحدا من خمسة بلدان تأثرا بموضوع التغير المناخي.

لا تقتصر أزمات العراق على ملف المياه، فالجانب الخدمي يعاني من مشاكل كبيرة، أهما سوء القطاع الصحي، فضلا عن ملف الكهرباء والشوارع المدمرة وغيرها من الملفات الأخرى.

سبعة ملايين عراقي (من أصل 40 مليونا)، تضرر من الجفاف والنزوح الاضطراري بسبب نقص المياه، بحسب تصريحات سابقة للرئيس العراقي السابق برهم صالح، على هامش مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ، الذي عقد في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

الخريف الحالي في العراق ينذر بموجة جفاف جديدة ستضرب البلاد، في تحذير هو الأول من نوعه هذا العام، ما يزيد التهديدات بشأن الزراعة الشتوية، بحسب وزارة الموارد المائية العراقية، التي أشارت أيضا إلى أن المياه التي يحصل عليها العراق من نهري دجلة والفرات، سوف تجف في غضون 20 عاما إذا لم يتم فعل شيء.

في الأثناء، أقرت لجنة الزراعة والأهوار النيابية، بصعوبة الموقف المائي للبلاد ولجوئه الى خزينه المائي منذ مدة. إذ يقول رئيس اللجنة ثائر الجبوري، بإن كثيرا من الدول تمر بسنوات جفاف، لكن تزامن قطع المياه من قبل تركيا وإيران على العراق، أزم الموقف بصورة أكبر، حيث أن هذا الفعل يعتبر انتهاكا للسيادة العراقية، وأن هذا التمادي بسبب مرور البلاد بظروف غير طبيعية من الناحية السياسية.

الفساد هو السبب

الخبير الاقتصادي خالد التميمي، حمل خلال حديثه لـ “الحل نت” الحكومات العراقية المتعاقبة مسؤولية أزمات الخدمات المتعددة، بالرغم من الموازنات الانفجارية التي يقرها البرلمان العراقي بشكل سنوي.

الفساد الإداري المالي وسرقة ثروات البلاد من قبل الميليشيات والأحزاب، وخاصة تلك المرتبطة بإيران، وتهريب ثروات العراق، هي السبب الرئيسي بانهيار الخدمات، بحسب التميمي.

أما بخصوص مجال القطاعات الخدمية مثل الكهرباء والوقود فأن، إيران وتركيا لا يرغبان بإنهاء أزمة الخدمات في العراق، كون بغداد تعتمد عليهم بشكل كبير جدا، وسنويا يخصص أكثر من 5 مليارات دولار لكلا من طهران وأنقرة.

منذ عام 2003 وحتى الآن، تم صرف أكثر من 27 مليار دولار على قطاع الكهرباء فقط، لكن حتى الآن ماتزال محافظات العراق تعاني من أزمة حقيقية في قطاع الكهرباء، وفق التميمي. والذي أشار أيضا إلى أن الأحزاب والميليشيات الماسكة لزمام السلطة في العراق تأتي دائما بوزراء ضعفاء، كي لايكونوا على قدر المسؤولية، وتلك الأحزاب هي من تتحكم بإدارة الوزارة.

أسعار النفط شهدت ارتفاعا غير مسبوق، حيث تجاوز سعر البرميل حاجز 120 دولارا، لكن هذا الأمر لم ينعكس على حال المواضع ووضع الخدمات المقدمة من قبل الحكومة.

تحديات ومشكلات

في ظل شح وانخفاض مناسيب المياه فضلا عن تهالك محطّات تصفية مياه الشرب، برزت مشكلات وتحديات كبيرة لها تماس مباشر مع حياة المواطنين أبرزها، تصاعد مستويات التلوث في الأنهار، وارتفاع نسبة الملوحة وعدم صلاحية المياه للاستهلاك البشري، ما نتج وسينتج عنه مخاطر وكوارث صحية وبيئية بحسب المعنيين.

في أقصى جنوب العراق، رئة البلاد الاقتصادية، محافظة البصرة تعيش أزمات كثيرة كغيرها من البلاد، كأزمة الكهرباء والماء والمجاري ونقص الخدمات والبطالة وتفشي الأمراض.

المدينة تعتمد على مياه شط العرب بنسبة كبيرة جدا للشرب والزرعة وتربية المواشي، لا بل هو المورد الرئيسي لها كما يراه المختصون، ولكن في السنوات الأخيرة، بدأ هذا الشريان المائي للمحافظة بالانحسار، ومعه ازدادت نسبة ملوحة شط العرب، وأصبحت تهدد حتى حياة الكائنات التي تعيش فيه.

في الوضع المتردي في مناطق الجنوب حملت دراسة بعنوان “انخفاض التدفقات إدارة المياه في جنوب العراق” نشرها معهد “دراسات الشرق الأوسط”، حيث بحثت الدراسة آلية التشغيل والطريقة المتبعة لمعالجة المياه في محطتين رئيسيتين لتصفية المياه في محافظة البصرة، للتعرف على أسباب انخفاض تدفقات المياه.

 الدراسة أرجعت السبب إلى الإهمال الحكومي في صيانة شبكات المياه العامة في المحافظة، التي يقطنها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، إضافة إلى القيود المفروضة على تدفقات المياه في دول المنبع لنهري دجلة والفرات، بسبب السدود التي أنشأتها تلك الدول.

مواطنون انتقدوا تعامل الحكومة مع ملف المياه بينهم وزراء وسياسيون، يقومون بزيارات وصفها الصحفي عماد التميمي بالبروتوكولية ولا تجدي نفعا، حيث يقول بإن البصرة أصبحت حقل تجارب للوزراء. كل الوزراء في الحكومات السابقة، أتوا بمشاريع وهمية لم تجد نفعا على العكس، لا تزال مشكلة الملوحة وشح المياه تتجدد كل سنة في فصل الصيف، وما زيارة هؤلاء الوزراء للمحافظة إلا زيارات بروتوكولية دون جدوى.

كارثة على الأبواب

في 8 سبتمبر 2022 حذر رئيس الاتحاد العام لجمعيات الفلاحين حسن التميمي، من هجرة كبيرة ستحدث من الريف إلى المدن، في حال عدم إيجاد حلول سريعة لمسألة الجفاف ونقص الموارد المائية في العراق.

التميمي قال في تصريحات صحفية إنه، في حال بقي الوضع على ما هو عليه، ستكون هنالك هجرة من الريف إلى المدينة، وستتسبب بكارثة على البلد خصوصا في حال عدم إيجاد حلول سريعة لمسألة الجفاف في العراق.

إذا بقي العام الحالي جافا، وبحال عدم التوصل إلى اتفاق مع إيران وتركيا، فأنه يتوقع أن تكون هنالك هجرة كبيرة جدا، سيما أن توجد قرى بعيدة عن مصادر المياه خصوصا في أقصى جنوب العراق.

الفلاحين في محافظات الوسط وجنوب البلاد ومنها واسط وذي قار وميسان والمثنى والديوانية والبصرة والنجف وبابل، يواجهون مشاكل عديدة، أهمها النقص الكبير في الموارد المائية.

الحكومة العراقية لوحت عدّة مرات باللجوء إلى المؤسسات الدولية للحصول على المياه من إيران وتركيا، وفقا لاتفاقيات تقاسم المياه، إلا أن الحكومة لم تخط أي خطوة نحو تدويل الملف على الرغم من رفض إيران وتركيا أي حلول يطرحها العراق.

خبراء البيئة يحملون الحكومات العراقية المتعاقبة المسؤولية وسوء إدارتها أزمة المياه التي سبّبت موجة جفاف حادة، ويتحدثون عن ضعف الخبرات في التعامل مع تحديات التغير المناخي.

تقرير دولي تحدث عن دور سلبي لدول الجوار في ملف المياه تجاه العراق، مشيرا إلى أن تركيا تعتقد بأن نهر الفرات هو ملك لها وما تعطيه للآخرين مجرد بادرة حسن نيّة ولا تلزم نفسها بأي اتفاق، فيما أشار إلى تسبب السدود الإيرانية بقطع إمدادات الأنهر، ونوه التقرير إلى تخلي الآلاف من المزارعين عن قراهم وأراضيهم والانتقال إلى المدن الكبرى. أزمة شحة المياه ألقت بظلالها على حدوث تغيير ديموغرافي للتجمعات السكانية في بعض مناطق البلد، وفق التقرير.

الزراعة العراقية تحتضر

أزمة المياه دفعت بالحكومة العراقية إلى تقليص مساحة الأراضي المشمولة بالخطة الزراعية الموسمية إلى النصف، فيما تم استبعاد محافظات معينة من الخطة بشكل كامل.

رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت، حثت في 22 آذار/مارس 2022 اليوم العالمي للمياه، جيران العراق على بدء حوارات حول تقاسم المياه، في ظل أزمة مائية ضربت العراق منذ العام الماضي، نتيجة تراجع الإيرادات المائية التي تأتي من إيران وتركيا، محذرة من أنّ التخفيض النشط لتدفقات المياه من البلدان المجاورة إلى العراق يمثل تهديدا خطيرا آخر.

سكان معظم المحافظات العراقية يعيشون معاناة كبيرة ليست وليدة اليوم، فانعدام مياه الشرب فضلا عن افتقارها لخدمات البنى التحتية الأساسية بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء المستمر، مشاكل ضيقت الخناق على أهالي تلك المحافظات لتبقى مناطقهم من المناطق المنسية من قبل الحكومة المتعاقبة.

لا يقتصر شح المياه على المناطق الجنوبية والوسطى، فإقليم كردستان العراق هو الآخر يعاني من شحة المياه وتداعياتها المتمثلة بتقلص الأراضي الزراعية والمساحات الخضراء وتلوث المياه وهجرة الفلاحين، وبحسب مصادر إعلامية فأن الإقليم وقع عقدا مع شركة “باور شاينا” لبناء أربعة سدود جديدة في الإقليم، وبدون علم الحكومة العراقية، الأمر الذي أثار ردة فعل لدى بعض السياسيين والمراقبين للشأن العراقي، رافقها تساؤلات عن تداعيات مثل هذا المشروع.

أربعة سدود من بين تسعة سيتم البدء بإنشاؤها في القريب العاجل، بحسب حديث مدير السدود السابق في إقليم كردستان أكرم أحمد، لـ “الحل نت”، حيث تمت إحالة هذه السدود إلى الشركة الصينية ولازالت في طور المناقشة، ولم يتم الاتفاق عليها رسميا ولم تنفذ حتى الآن.

جميع السدود التي تقام على الأنهر الرئيسية في إقليم كردستان، وفق أحمد، جاءت على أساس مخرجات الدراسة الاستراتيجية العراقية، منوها أنها ستساعد على إتمام الموازنة المائية في العراق كاملة، وستعمل على تغذية جميع المناطق في الإقليم بالمياه.

تأثيرات مستقبلية

مراقبون في الشأن العراقي يرون أن بناء السدود في المستقبل على نهري دجلة والفرات سيعرض جزءا كبيرا من سكان المحافظات الجنوبية والوسطى من العراق لخطر الهجرة السكانية، ويمكن أن تتسبب هذه السدو في خلق أزمة سياسية جديدة بين أربيل وبغداد على غرار أزمة ملف النفط بين الطرفين.

على مدى سنوات تغرق المحافظات العراقية في بحر من المعاناة، والتي تراكمت بسبب الإهمال الحكومي لها من تدني مستوى الخدمات المقدمة فيها وتهالك بناها التحتية، وبعد أن طوى العراق قضية تشكيل الحكومة الجديدة الذي استمر أكثر من عام هل سترى معاناتهم النور. كيف ستتعامل الحكومة مع المزارعين والفلاحين الذين هاجروا من قراهم تاركين خلفهم أملاكم وأراضيهم، بسبب شح المياه والإهمال الحكومي.

قد يهمك: آلية عراقية لمعالجة شح المياه بالمحافظات الجنوبية

لا يبدو المواطن العراقي متأملا بإنفراجة في ملف الخدمات خاصة بعد وصول القوى الموالية لإيران، لمسك زمام السلطة في العراق، وترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة. إيران تعاني من أزمة اقتصادية كبيرة جراء العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة، لذلك فأنه من المنتظر استمرار تدفق الغاز الإيراني، وتزويد طهران لبغداد بالطاقة الكهربائية، الأمر الذي يعني استمرار الواقع الخدمي المتردي في البلاد، في ظل الاعتماد على الشركات الصينية في تنفيذ المشاريع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.