احتجاجات تشهدها مختلف المدن الصينية شملت بكين، شنغهاي، بسبب إجراءات الإغلاق الصارمة التي تطبقها السلطات في إطار سياسة “صفر كوفيد” منذ نحو 3 سنوات، فللمرة الأولى منذ عقود، تحدى آلاف الأشخاص السلطات الصينية وقاموا بالاحتجاج في الجامعات وفي شوارع المدن الكبرى، في تظاهرات كان عنوانها الظاهري الخلاص من قيود سياسة “صفر كوفيد”، لكنها حملت أيضا انتقادات كبيرة ومطالبات برفع قبضة الحزب الحديدية على مفاصل الحياة في البلاد، بل وأيضا إقالة الرئيس.

هذه الاحتجاجات تطرح عدة تساؤلات حول تأثير سياسة الإغلاق على الشعب الصيني، والدوافع للاحتجاجات وارتفاع مطالبها للمطالبة بتنحي الرئيس، ومآلات هذه الاحتجاجات ونظرة الغرب إليها وتعامله معها.

آثار سياسة الإغلاق و”صفر كوفيد”

سياسة الإغلاق الصارمة التي تفرضها السلطات الصينية منذ نحو 3 سنوات، أثارت استياء شريحة كبيرة من الشعب الصيني الذي لم يجد مخرجا إلا بالتظاهر للمطالبة برفع القيود التي بات يعاني منها بشكل كبير.

مظاهرات الصين “وكالات”

أيضا فإن الاقتصاد الصيني يعاني بسبب تلك الإجراءات، والنقص في الوصول إلى الإمدادات الطبية والغذائية خلال فترة الإغلاق، وأيضا الصرامة المبالغ بها في أحيان كثيرة من قِبل مسؤولي الحظر الصحي الذين ظهروا في فيديوهات كثيرة، وهم يفصلون أطفالا عن أهاليهم أو مسنين عن عوائلهم بسبب الإصابة.

الخبير في العلاقات الدولية، الدكتور محمد اليمني، يشير في حديثه لـ”الحل نت”، إلى أن الصين ومنذ 3 سنوات تفرض سياسة “صفر كوفيد”، وهذا ما أثّر على كل مناحي الحياة وعلى حياة المواطن الصيني والأسرة الصينية، مع عملية إغلاق لكل المرافق العامة، جميع الظروف أدت إلى الاحتقان الشعبي الذي أدى لتفجر المظاهرات.

إقرأ:حقيقة اقتصاد الصين.. قراءة في الواقع الاقتصادي لبكين وسطوة دول “الآسيان”

ما هي دوافع الاحتجاجات والمطالبة بتنحي الرئيس؟

إضافة للأسباب الاقتصادية والاجتماعية، التي تركتها سياسة الإغلاق اندلع حريق في مدينة شينجيانغ الصينية، يوم الخميس الماضي، أدى إلى مقتل ما لا يقتل عن عشرة أشخاص. وسريعا تحول مقتلهم في المدينة التي تشهد إجراءات حظر تجوال ضمن سياسة “صفر كوفيد” مشددة منذ أسابيع إلى غضب شعبي خاصة بعد أن انتشرت أقاويل في المدينة تشير إلى أن سبب تأخر رجال الإطفاء في معالجة الحريق وإنقاذ الضحايا هو سياسة “صفر كوفيد”.

أيضا فإن مقاطع الفيديو المتداولة على الإنترنت عززت هذا الفهم لدى السكان في مختلف أنحاء البلاد، الذين عانوا أصلا من ثلاث سنوات من ضوابط “كوفيد” الصارمة.

الدكتور اليمني، يوضح أنه هناك دوافع كثيرة جدا خلف الاحتجاجات، أبرزها، أن وضع المصانع والشركات بقي متدنيا للغاية، فمثلا عندما يخرج عمال أكبر مصنع لشركة “آبل” في العالم للاحتجاج ويتم قمعهم من قِبل الشرطة فذلك مؤشر خطير ويحفز الآخرين على الاحتجاج.

أيضا الإجراءات شديدة الخطورة والإجبارية ضمن سياسة “صفر كوفيد” أدت إلى تململ الصينيين، خاصة في مدينة تشينانغ التي يقطنها أكثر من 19 مليون مواطن، وهي مدينة يعتمد أهلها على الزراعة وباتت أوضاعها المعيشية صعبة للغاية.

بالإضافة لكل ذلك، ففي عام 2020 تجاوزت الخسائر التي تكبدتها الصين أكثر من ترليون “يوان” صيني، أي ما يعادل 143 مليار دولار أميركي، وهذا أدى إلى خسارة كبيرة في حركة المبيعات وتوقف حركة التصدير إلى حد كبير، بحسب اليمني.

في سياق الاحتجاجات أيضا، برز تطور مهم للغاية ففي جميع أنحاء البلاد، أصبحت صرخة “نريد الحرية”، هي العلامة لموجة من الاحتجاجات التي يقودها بشكل رئيسي جيل الشباب، والكثير من المحتجين أصغر من أن يكونوا قد شاركوا في أعمال سابقة من المعارضة العلنية ضد الحكومة.

بالنسبة للعديد من المتظاهرين، فإن المظاهرات تدور حول أكثر بكثير من مجرد “كوفيد”، فهي تجمع بين العديد من الشباب ذوي العقلية الليبرالية الذين قد يتم إحباط محاولاتهم للتحدث علنا بسبب الرقابة الصينية الصارمة على الإنترنت، وخلال الليلة الأولى من المظاهرات في شنغهاي، هتف حشد “تنحى يا شي جين بينغ تنحى أيها الحزب الشيوعي” في تحدّ مباشر غير مسبوق للزعيم الأعلى.

كما هتف بعض المحتجين مرة أخرى مساء الأحد الماضي مطالبين بعزل شي، وهتفت حشود بالمئات في عدة مدن “أعطني الحرية أو أعطني الموت”، وفي تشنغدو، لم يذكر المتظاهرون اسم شي، لكن من الصعب تفويت معنى الهتافات المعارضة للديكتاتورية، وقال المحتجون “لا نريد حكاما مدى الحياة. لا نريد أباطرة” في إشارة مبطنة لكن واضحة إلى الزعيم الصيني، الذي بدأ الشهر الماضي فترة ولاية ثالثة محطما للمعايير في منصبه.

في هذا السياق، يشير اليمني، إلى أن هناك أيضا أسباب دفعت الصينيين للمطالبة بتنحي الرئيس والحزب الحاكم، أبرزها سياسة القمع الممارسة على المواطنين ومنعهم من حرية التعبير، إضافة إلى عدم حدوث أي تطور إيجابي في الخدمات الصحية المقدمة منذ 3 سنوات، وجاء الحريق الأخير في منزل “الإيغور” الذي قُتل فيه 10 أشخاص ليكون بمثابة المفجّر الذي أشعل الاحتجاجات.

كيف ستواجه بكين الاحتجاجات وما مآلاتها؟

مع اندلاع الاحتجاجات، بدأت صفوف من ضباط الشرطة، الذين كانوا يشاهدون من الخارج في البداية، في التحرك لصد المحتجين وتفريقهم، كما أفادت تقارير صحفية باقتياد العديد من المحتجين من قِبل الشرطة إلى مراكز الاحتجاز، مع انتشار كثيف لقوات الشرطة وقطع الشوارع بالحواجز، وقيامهم بضرب المحتجين وسحبهم في الشوارع، ما دفع متظاهرين للصراخ بوجه الشرطة بأنهم “عصابة الثالوث”، في إشارة إلى عصابة الجريمة المنظمة الشهيرة في الصين.

وسائل عديدة يمكن لحكومة بكين أن تواجه فيها المحتجين بحسب اليمني، أهمها الاعتقال والضرب، ومنع الحديث عن الاحتجاجات في وسائل الإعلام الصينية، إضافة لوصف المحتجين من قِبل الحكومة بأنهم قلة الأقلية وهذا ما يردده الإعلام الصيني.

مظاهرات الصين “وكالات”

اليمني يشير إلى أن الحكومة الصينية الآن مرتبكة للغاية والأسباب كثيرة منها مشاكل الاقتصاد والخدمات والرعاية الصحية، لذلك فإن هذه الاحتجاجات سوف تمتد لشهور قادمة، إلا إذا اتخذت الحكومة الصينية إجراءات حاسمة قادرة على التقليل من غضب الشعب الصيني وعلى رأسها التخفيف من إجراءات الإغلاق الخاصة بـ “كوفيد”.

تقارير صحفية نقلت عن مصادر من المحتجين أن السلطات الصينية فتحت تحقيقات مع بعضهم، في وقت واصلت فيه الشرطة الانتشار بأعداد كبيرة في شوارع المدن، كما دافع المندوب الصيني في “مجلس الأمن” الدولي جانغ جون، عن تدابير بلاده في ظل انتشار الفيروس، بأن التدابير التي اتخذتها بكين تهدف إلى الحفاظ على سلامة الناس.

في الردود الدولية، طالبت واشنطن وعواصم غربية بضمان حق الاحتجاج السلمي، في حين دعت الأمم المتحدة الصين إلى احترام معايير حقوق الإنسان الدولية.

“البيت الأبيض”، أعلن اليوم الثلاثاء، أن الرئيس جو بايدن “يتابع عن كثب” المظاهرات الجارية في الصين، وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، للصحفيين إن “البيت الأبيض يدعم الحق في التظاهر السلمي”، مؤكدا أن بايدن “يتابع المستجدات عن كثب، ونحن أيضا”.

كما رفض كيربي الإفصاح عن موقف بايدن من المطالب التي يرفعها المشاركون في هذه المظاهرات، وقال إن “الرئيس لن يتكلم بالنيابة عن المتظاهرين في أنحاء العالم. هم يتحدثون بأنفسهم”، مضيفا أنه من حق الناس التظاهر في أي مكان من العالم بما في ذلك الصين، وأوضح أنه سيكون صعبا على الصين القضاء على فيروس “كورونا” إذا استمرت في تطبيق استراتيجية “صفر كوفيد” التي تعتمدها منذ تفشي الوباء.

من جهته، قال ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، إن المنظمة الدولية تؤمن بأهمية حق الناس في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، وحقهم في التظاهر السلمي.

أما المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، وصف اعتقال صحفي في “هيئة الإذاعة البريطانية” خلال تغطيته الاحتجاجات ضد الإغلاق في الصين، بالصادم وغير المقبول، مؤكدا أن الحكومة البريطانية ستواصل إثارة موضوع حقوق الإنسان مع الحكومة الصينية بشكل بنّاء ومفيد لعلاقات البلدين.

اليمني وفي هذا السياق أكد على أن الغرب وخاصة الولايات المتحدة، سوف تستغل ملف الاحتجاجات في الصين، وستحاول العمل عليه بمواجهة الصين في الأيام القادمة، فعلى الرغم من لقاء الرئيسين الأميركي والصيني على هامش قمة العشرين، فإن الولايات المتحدة لا تزال تدين الجرائم التي ترتكبها الحكومة الصينية بحق شعب “الإيغور” في الماضي وكذلك بريطانية.

الاحتجاجات الحالية أيضا ستصب في مصلحة الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث سيتم استخدامها ضد الصين وربما يتطور هذا الاستخدام بنفس المستوى الذي تتعاملان به مع الاحتجاجات في إيران، بحسب اليمني.

احتجاجات كانت حتى فترة قريبة غير ممكنة التصور في بلد كالصين تتعامل حكومته مع المواطنين بأقسى الأساليب القمعية، أصبحت أمرا واقعا الآن مع مطالب بسقف مرتفع للغاية وصل إلى تنحي الرئيس وحزبه الحاكم والمطالبة بالحرية والحقوق، وهذا ما سيجعل الصينين يعودون للاحتجاج في كل مناسبة حتى لو توقف الاحتجاجات الحالية.

إقرأ أيضا:الصين تسرّع جدولها الزمني.. ما هي “خطة بكين” في تايوان؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.