في الظاهر، من المحتمل أن تكون روسيا المستفيد الأكبر من مقامرة تركيا العسكرية الأخيرة بشن ضربات جوية على حلفاء الولايات المتحدة المحليين في سوريا، إلا أنه على وقع التهديدات التركية بعملية عسكرية قادمة داخل الأراضي السورية، وزيارة وفد روسي العاصمة أنقرة لبحث التطورات في سوريا، بعد أن سبقه الممثل الأميركي الخاص السابق في سوريا، جيمس جيفري، والتقى مع مسؤولين أتراك في العاصمة التركية، يشير إلى عكس ذلك.

علاقات أنقرة مع الولايات المتحدة وروسيا في سياق الحرب داخل سوريا، وبسبب ديناميكيات الملف، أجرت أنقرة مؤخرا تغييرات كبيرة في سياستها الخارجية وعلاقاتها مع واشنطن وموسكو. فالتأثير الأميركي على حساب الحضور الروسي لا يزال واضحا، خصوصا وأن التحركات الإيجابية لأنقرة مؤخرا دليل على أنها وجهة البوصلة نحو مصلحتها العليا خصوصا مع قرب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد، ودورها الذي بات على المحك في حلف “الشمال الأطلسي” (الناتو)، للعودة إلى المسار السياسي الذي أعدته الأمم المتحدة من أجل تحقيق الحل السلمي وتطبيق القرار 2254.

ما يمكن أن تكسبه روسيا من الصراع؟

هذه الفترة الجديدة من الصراع في سوريا، تعكس احتمال أن تكون روسيا المستفيد الأكبر من مقامرة تركيا العسكرية الأخيرة بشن ضربات جوية على حلفاء الولايات المتحدة المحليين في سوريا. إذ يمكن أن يساعد في تعزيز علاقة الرئيس فلاديمير بوتين بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في وقت تحتاج فيه روسيا بشدة إلى حلفاء مؤثرين، لكن ذلك وفق مراقبين ليس سوى تحليل سطحي.

بحسب بيان أصدرته وزارة الخارجية التركية، فإن أنقرة استقبلت في 8 و9 من كانون الأول/ديسمبر الجاري، وفدا برئاسة نائب وزير الخارجية الروسية، سيرغي فيرشينين، إذ وفق دبلوماسيين أتراك تجتهد روسيا لتلبية مطالب تركيا في شمالي سوريا، من أجل تجنب عملية برية من قبل الجيش التركي.

المباحثات وتبادل الشروط من جانب تركيا وروسيا سبقته ببضعة أيام زيارة المبعوث الأميركي السابق بشأن سوريا، جيمس جيفري، إلى أنقرة لإجراء مباحثات متعلقة بسوريا. والذي أوضح إن لدى أميركا آمال كبيرة في أن تستمر “اللجنة الدستورية” في السير على المسار السياسي، مشيدا بموقف تركيا في دعم المسار السياسي.

جيفري، أضاف أن المرحلة العسكرية من “الصراع السوري” يجب أن تنتهي، إذ لم يعد هناك أي “منبر” يمكن أن تفوز به الحكومة السورية، ويجب أن تعود إلى طاولة المفاوضات والانتباه إلى “بقية المجتمع الدولي”، وهو ما تعمل عليه أميركا مع حلفائها الأتراك في سوريا.

موقع “أكسيوس” الأميركي، نشر معلومات نقلها عن مصدرين لم يسمّهما أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية حذرت تركيا من أن الضربات في سوريا تعرض القوات الأميركية للخطر. حيث وجه مدير وكالة المخابرات المركزية، بيل بيرنز، نظيره التركي “رسالة شديدة اللهجة”، يعارض فيها القصف التركي شمالي سوريا.

الصحفي السوري، عقيل حسين، أوضح لـ”الحل نت”، أن الصرح الروسي الذي لقي آذان صاغية من أنقرة كان ضمان  انسحاب المجموعات الكردية من مدن منبج، وتل رفعت، وعين عرب، وحل مؤسسات الحكومة السورية محلها، إذ تركز السياسة الروسية على مكاسب تريدها في شمال غربي سوريا، وصولا إلى الطريق الدولي اللاذقية – حلب “إم 4”.

مصالح على المحك

الخبير في حل النزاعات، محمود عيد، أوضح لـ”الحل نت”، أن الضربات الجوية التركية اللاحقة ضد أهداف “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في سوريا والتهديدات المستمرة بغزو بري تعتبر أخبارا سيئة للحرب ضد تنظيم “داعش” وسيئة للعلاقات بين واشنطن وأنقرة، وهما في النهاية حلفاء في “الناتو”.

أدى مزيج الضربات والتهديدات التركية إلى تعليق الدوريات الأميركية الكردية المشتركة المناهضة لـ “داعش” في سوريا، في وقت يشير آخر تقييم أميركي لـ”داعش” إلى زيادة كبيرة في نشاطه في سوريا.

وفق تحليل عيد، فإن “داعش” ليس المستفيد الوحيد المحتمل من الضربات الجوية التركية ضد حلفاء الولايات المتحدة في سوريا. فأي انقسام بين حلفاء “الناتو” له تداعيات أوسع على الحرب في أوكرانيا. ولا تزال تركيا واحدة من عضوين فقط في حلف “شمال الأطلسي” التي لم توافق بعد على انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، وهذا ما تسعى إليه موسكو عبر عرض أطروحاتها بالملف السوري.

ربما تكون تركيا هي الأقرب لروسيا من حليف داخل “الناتو”، وسيكون خروج أنقرة عن حلفائها في “الناتو” موضع ترحيب كبير في موسكو. بينما كان “الكرملين” يحذر من العمل العسكري التركي في سوريا، فقد حاول أيضا تعزيز التقارب بين أردوغان والأسد.

لكن بالنسبة لروسيا، بحسب عيد، ليس من المهم فقط دعم حليف حيوي في أنقرة، فهي أيضا لا تستطيع تحمل التزام أكبر في سوريا، بالنظر إلى مدى سوء الحرب في أوكرانيا. ومن شأن التقارب بين أنقرة ودمشق، أن يعزز دور روسيا كطرف رئيسي في السلطة في سوريا، وبالتالي وجودها ونفوذها في بلد مهم استراتيجيا في الشرق الأوسط.

لذلك، فإن تعزيز القوات السورية سيسمح أيضا لروسيا بالحفاظ على علاقات جيدة مع إيران، التي ظهرت مؤخرا كمورد للطائرات المسلحة بدون طيار التي تستخدمها روسيا في الهجمات على البنية التحتية الأوكرانية.

عيد يقول في حديثه لـ”الحل نت”، إن “روسيا بارعة تماما في لعب مثل هذه الألعاب متعددة المستويات وربط النقاط بين مسارح العمليات البعيدة جغرافيا التي تبدو غير مرتبطة. وحقيقة أن الحرب في أوكرانيا لم تسر في طريق روسيا مؤخرا تجعل من المرجح أن تحاول موسكو استغلال أزمات مثل الأزمة الحالية في سوريا لصالحها. ولن تنجح في القيام بذلك إلا إذا كسبت رضا أنقرة”.

قياس تهديدات أنقرة

على المستوى السياسي، يعي حزب “التنمية والعدالة” الحاكم في تركيا أن حظوظه في الانتخابات على المحك، وتحركاته نحو بإيجابية تحددها بوصلة الصراعات السياسية الإقليمية التي تدخل بها مؤخرا، لذلك فإن الطرح الأميركي بالحوار مع المكون الكردي في سوريا وإعادة المسار السياسي بتعديلات ترضي جميع الأطراف، تضبط توازنات الملف السوري الذي تسعى موسكو إلى زعزعته لتحقيق مصلحتها، وفقا لتعبير عيد.

رغم تصاعد التهديدات التركية ووصولها مراحل متقدمة جدا من التهيئة لانطلاق عملية عسكرية برية جديدة شمالي سوريا، إلا أن الدبابات التركية لم تبدأ بعد أي تحرك ميداني في ظل تعاظم التعقيدات السياسية المرتبطة بالمباحثات مع الأطراف الدولية وخاصة الولايات المتحدة وروسيا إلى جانب إيران والحكومة السورية أيضا.

ما بين التأكيدات التركية بأن أنقرة “لا تنتظر الحصول على إذن من أحد للقيام بما يلزم لحماية أمنها القومي”، وما بين الحديث عن تعقيدات عسكرية وسياسية وحاجة أنقرة للحصول على “ضوء أخضر” للبدء بالعملية، يبدو الثابت الوحيد هو وجود تعقيدات مع كافة الأطراف الفاعلة على الأرض في شمال سوريا تجعل إطلاق العملية العسكرية أمرا بالغ الصعوبة.

ويمكن القول إن العملية جُمدت أو أُلغيت، إذ إن التهديدات التركية وصلت إلى ذروتها الأسبوع الماضي وكان يعتقد بانطلاق العملية خلال الأيام الماضية، لكن عدم بدئها بالتزامن مع التصريحات الأمريكية والروسية التي تؤكد المعارضة الشديدة لها، وبعض التحركات العسكرية الروسية على الأرض، يؤشر إلى حجم التعقيدات التي ربما دفعت أنقرة نحو التروي.

واشنطن ترغب ببناء الثقة بين جناحي شرق الفرات وغربه، من خلال فتح المعابر بين المنطقتين، وتوحيد السوق الاقتصادية فيهما، مع منح أنقرة كل الامتيازات الاقتصادية في المنطقة.

من شأن أي توافق على مجال وحدود العملية البرية أن يضمن سلامة كافة القوات العاملة في سوريا ويضمن عدم وقوع حوادث أو صدام عسكري غير محسوب، كما أن ذلك يتيح لأنقرة الاستفادة من الوضع الراهن في الانتخابات فضلا عن المكاسب الاقتصادية التي ستحققها، وتاليا عودة المسار السياسي للحل في سوريا إلى طريقه الصحيح خصوصا وأن روسيا وإيران عرقلتا هذه المسار على مدى الأشهر الماضية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة