في 6 كانون الأول/ديسمبر الماضي عقد زعماء دول غرب البلقان قمة مع نظرائهم في الاتحاد الأوروبي في العاصمة الألبانية تيرانا، حول مستقبل المنطقة وعلاقتها بالوحدة الأوروبية، سبقها حراك دبلوماسي واقتصادي أوروبي تجاه البلقان. يأتي ذلك بعد تردد أوروبي طويل حول الاهتمام بالمنطقة وإمكانيات ضمها إلى مجال الاتحاد. وقد جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتعيد المسألة إلى دائرة الاهتمام الأوروبي، نظرا للأهمية الجيوسياسية التي تلعبها منطقة البلقان الغربية بوصفها منطقة صراع نفوذ بين قوى دولية مناوئة للأوروبيين.

الاستدارة الأوروبية اللافتة نحو البلقان تعد جزءا من استفاقة جيوسياسية أوروبية فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية، مع أنها تحمل أهدافا أبعد من مجرد الحرب، بحكم أن غرب البقان جيب جغرافي واسع في جوار الاتحاد الأوروبي تتنازعه القوى الدولية غير الصديقة مثل روسيا والصين، وكذلك إطلالته على المياه الدافئة، حيث يشكل طريقا بديلا لتدفقات الهجرة الواسعة، سواء من المشرق أو من جنوب المتوسط، وبالتالي فإنه يعد بوابة رئيسة لدخول الاتحاد الأوروبي.

أيضا فإن الاهتمام الأوروبي بدول غرب البلقان في ظل تدخلات عديدة في المنطقة، أبرزها الروسية والصينية والتركية، والتي تمثل إحدى التحديات للأوروبيين، وهذا ما يطرح عدة تساؤلات حول، أسباب عودة الاهتمام الأوروبي بدول البلقان وآفاق الشراكة بين دول المنطقة والاتحاد الأوروبي، والتحديات التي تواجه الأوروبيين في هذه المنطقة.

ما الميزات التي تدعو الأوروبيين للتوسع في البلقان؟

العديد من الأسباب وراء الاستدارة الأوروبية نحو دول البلقان ليس آخرها الحرب الروسية الأوكرانية على حدود الاتحاد الأوروبي، إنما منطقة البلقان بحد ذاتها والتي تتميز بتركيبتها العرقية والإثنية التي من الممكن أن تؤدي أي فوضى فيها إلى تهديد مصالح الاتحاد الأوروبي.

الحدود بين البلقان والاتحاد الأوروبي

فقد شهدت الأسابيع التي سبقت قمة الاتحاد الأوروبي وغرب البلقان في ألبانيا، حراكا دبلوماسيا واسعا من الجانب الأوروبي تجاه دول غرب البلقان الست (ألبانيا، والبوسنة والهرسك، وكوسوفو، والجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية، وصربيا).

في شهر حزيران/يونيو الماضي، عقدت قمة مسار برلين لغرب البلقان، وهي منصة تأسست في عام 2014 لجميع دول غرب البلقان، لتسريع المواءمة الوثيقة مع الاتحاد الأوروبي وتعميق التكامل والتعاون الإقليمي. وخلال هذه القمة، انتقد زعماء البلقان علنا، وبشدة، الاتحاد الأوروبي لعدم إحراز أي تقدم في محادثات الانضمام، وسط خيبة أمل من أن المفاوضات لم تبدأ أو توقفت، بعد سنوات من وعدِهم بالعضوية النهائية في الاتحاد الأوروبي.

الدكتور خالد العزي، الخبير في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، أوضح خلال حديثه لـ”الحل نت”، أهمية منطقة البلقان حيث يعتبر الجزء الجنوبي الغربي منها مهما لأوروبا، إضافة إلى تركيبتها العرقية والإثنية المكونة من الكاثوليك والأرثوذكس والمسلمين، وبالتالي فإن الأوروبيين معنيون بتثبيت الأمن والاستقرار وإنعاش هذه المناطق، وذلك تجنبا لوصول حكام ديكتاتوريين لتلك الدول ما قد ينتج عنه حرب في المنطقة التي سبق وأن شهدت حروبا كبيرا بدءا من الحرب العالمية الأولى وصولا إلى الحرب الأخيرة التي شنها الصرب على كوسوفو وانتهت بتدخل حلف “الناتو”.

العزي أشار إلى أن الصرب يعتبرون أنفسهم القوة الأكبر في هذه المنطقة، وهم يرتبطون بروسيا بشكل كبير، لذلك يقوم الأوروبيون بتوسع تدريجي في المنطقة ويعملون على استنهاضها وحل مشاكلها، وقد استطاعوا حل الخلاف بين اليونان ومقدونيا، كما دخلت كرواتيا مطلع العام الحالي في الاتحاد الأوروبي، وأيضا جمهورية الجبل الأسود مرشحة للدخول للاتحاد، وسلوفينيا أصبحت على أبواب الاتحاد الأوروبي.

قد يهمك:طبول الحرب تقرع في أوروبا الشرقية.. ما نتائج الصراع بين صربيا وكوسوفو؟

من جانب آخر، هناك خلاف بين صربيا وكوسوفو حيث توترت العلاقات منذ أيلول/سبتمبر الماضي، على خلفية رفض صربيا دخول كوسوفو في الاتحاد الأوروبي، و”في الحقيقة هناك يد روسية في توتر العلاقات في هذه المنطقة، حيث تسعى روسيا لإيصال رسالة للغرب أنها تستطيع العبث في البلقان وبالتالي خلق نقطة توتر ستساعد روسيا من خلال تخفيف الدعم الغربي لأوكرانيا في مواجهتها”، بحسب العزي.

مصالح أوروبية

 في 12 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، اعتمدت المفوضية الأوروبية حزمة التوسيع لعام 2022، التي قدمت تقييما مفصلا لحالة التقدم الذي أحرزته دول المنطقة، كما أوصت المفوضية مجلس أوروبا بأن يمنح المجلس وضع المرشح للبوسنة والهرسك.

مفوض الجوار والتوسع الأوروبي، أوليفر فارهيلي، كان واضحا في تقديم حزمة العام الفائت، إذ قال “إن سياسة توسيع الاتحاد الأوروبي هي استثمار جيواستراتيجي في سلام قارتنا الأوروبية، واستقرارها، وأمنها، ونموها الاجتماعي والاقتصادي. ومن مصلحتنا المشتركة تسريع عملية التكامل، بدءا من غرب البلقان، حيث استثمرنا لسنوات عديدة لتقريبها من الاتحاد”.

لذلك خرجت القمة الأخيرة بمنجزات ملموسة، على الأقل بالنسبة للجانب البلقاني، وكشفت عن جدية أوروبية هذه المرة في التوجه نحو الجوار. فقد أعلن الأوروبيون عن تقديم دعم لقطاع الطاقة بقيمة مليار يورو، وبحيث ينقسم إلى جزئين، 500 مليون يورو لدعم الميزانية المباشر، والنصف الثاني، 500 مليون يورو، في البنية التحتية. وكذلك اعتماد 40 مشروعا رائدا بقيمة 1.8 مليار يورو.

في هذا السياق، يشير العزي إلى أن هناك مصالح اقتصادية لأوروبا في دول البلقان، وهي مصالح مهمة من خلال استخدام هذه المنطقة وثرواتها في الإنتاج الاقتصادي، كما أن هناك يدا عاملة رخيصة وطاقة بشرية وأكاديمية مهمة في عمليات الإنتاج، وهناك استثمار اقتصادي وسياحي خاصة أن هذه المناطق تقع على البحر الأدرياتيكي الذي تعتبر الخدمات فيه رخيصة كما أنه مؤهل ليكون عامل جذب للاستثمارات.

أيضا تعمل أوروبا من خلال توسعها في البلقان إلى إظهار الوحدة الأوروبية الكاملة وجعل المنطقة منطقة تجارية واحدة، والاستثمار فيها خاصة أن ثرواتها الطبيعة متوفرة، إضافة إلى التعاطي مع مسألة الهجرة وتأمين إدارة حدود المجال الجغرافي، لاسيما أن طريق البلقان يُعد أشهر دروب تدفقات الهجرة غير النظامية نحو دول الاتحاد الأوروبي؛ فمن خلال هذا الطريق تدفق الملايين قادمين من سوريا وأفغانستان والعراق وغيرها من مناطق النزاع في المشرق.

تحديات وتنافس

السياسات الأوروبية الجديدة تجاه غرب البلقان تواجه تحديات عديدة يمكن أن تحول بينها وبين أهدافها، من بينها التدخل التركي والروسي ودخول الصين على خط المنافسة، إضافة إلى الخلاف الصربي الكوسوفي المستمر والذي يعيق وحدة هذه المنطقة.

خارطة منطقة البلقان

العزي بيّن أن الأتراك موجودون في الأصل في هذه المنطقة نتيجة ارتباط البلقان تاريخيا بالغزو العثماني ووصولهم إلى مناطق عديدة، وهم اليوم يشكلون حماية للبوسنيين والألبان والكوسوفيين، كما يشاركون في الدعم والترويج الديني والاقتصادي لهذه الأقليات المسلمة وبحماية الأميركيين، على الرغم من اعتبار الأوروبيين وجود دول مسلمة في أوروبا يمثل تهديدا لديموغرافية القارة.

أما بالنسبة للصين، فإن العامل الصيني هو عامل متحرك دائما نحو تطبيق الفلسفة الاقتصادية الصينية القائمة على الغزو لكل الدول بطريقة اقتصادية وخاصة عبر بوابة “طريق الحرير”، وبالتالي فإن الدخول الصيني إلى البلقان نوع من الاستفادة، أي أن البلقان أحد الجسور التي تعبرها الصين للوصول لدول الاتحاد الأوروبي، حسب العزي.

فالتنافس الأكبر في البلقان بين الروس والصينين والأتراك، لكن شعوب المنطقة أخذت قرارها منذ العام 1991 بالذهاب نحو أوروبا، لأن أوروبا تشكل جزءا أساسيا من حمايتهم العسكرية والسياسية، خاصة مع بروز تخوف من غزو روسي لهذه الدول بعد تجربتي جورجيا وأوكرانيا، بحسب العزي.

إذاً من المتوقع أن يستمر الاتحاد الأوروبي في سياسته الجديدة تجاه غرب البلقان وتعزيزها، من أجل تخفيف النفوذ الصيني في المنطقة ودعم اقتصاديات الدول الست في المنطقة كي تلبي المعايير المطلوبة للانضمام للاتحاد. وكذلك عبر المُضي في مبادرة الحلّ للخلافات السياسية في كوسوفو، بوصفها معضلة رئيسة يجب حلها قبل الشروع في أي مسار انضمام بالنسبة لصربيا وكوسوفو، ولكن انضمام دول البلقان للاتحاد الأوروبي فسيتم بشكل منفرد وهو الأسلوب الذي يتعامل به الاتحاد مع هذه الدول من خلال مطابقة المعايير المطلوبة في الاقتصاد والبيئة وحكم القانون والديمقراطية.

إقرأ:تصاعد التوتر بين صربيا وكوسفو.. حرب جديدة في البلقان؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة