خلال السنوات الأربع الماضية، دخل الاقتصاد السوري في دوامة سوداء من التدهور والانهيار، لدرجة أن الليرة السورية بدأت تفقد قيمتها بنسب مهولة وفي أوقات متسارعة نسبيا. فالليرة السورية تراجعت أمام الدولار الأميركي بنسبة وصلت إلى 100 بالمئة على أساس سنوي خلال عام 2022 الماضي، إذ شهدت الأشهر الستة الأخيرة من السنة تغيرات كبيرة على قيمة الليرة، ويعتبر انخفاض الليرة أمام الدولار عام 2022، الأكبر الذي يتم تسجيله في تاريخها.

في شهر كانون الأول/ ديسمبر الفائت فقط، سجلت الليرة السورية تراجعا حادا تجاوزت 23 بالمئة على أساس شهري، وبنسبة قاربت 10 بالمئة على أساس أسبوعي. حيث وصل سعر مبيع الدولار أواخر الشهر نفسه إلى نحو 7150 ليرة سورية للدولار الواحد، في حين بلغ في اليوم الأول من العام نفسه نحو 3600 ليرة، وهذا يعتبر تراجع تاريخي بنسبة 100 بالمئة لليرة السورية خلال عام واحد فقط، وبالتالي، فإن هذا التدهور يترك الباب مفتوحا لجملة من التأثيرات على السوريين المقيمين في الداخل، وتحديدا المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، التي لم تحقق أي زيادة في دخل المواطنين، وسط هذه المتغيرات.

في خضم كل ذلك، خفّض “مصرف سوريا المركزي”، يوم الإثنين الماضي، سعر الصرف الرسمي إلى 4522 ليرة للدولار، في حين أن سعر السوق السوداء المستخدم في معظم الأنشطة الاقتصادية هو حوالي 6100 ليرة، بحسب موقع “الليرة اليوم“. وبذلك تكون الليرة السورية في أدنى مستوياتها، حيث أنها فقدت 99.3 بالمئة من قيمتها منذ عام 2011، عندما كان الدولار يساوي 49 ليرة سورية.

هذا ليس أول تخفيض يقوم به “المركزي السوري”، حيث تم تخفيض الليرة مرارا على مدار السنوات الماضية، وكان آخرها في أيلول/سبتمبر الماضي، ويبدو أنه لن يكون التخفيض الأخير ما دام أسبابه الحقيقية مستمرة.

من هنا تبرز عدة تساؤلات حول معاني وأسباب قيام “مصرف سوريا المركزي” برفع سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية، وتأثير ذلك على الاقتصاد بشكل عام وعلى السوريين في الداخل، وما إذا كانت هناك موجات نزوح وهجرة وتحديدا في مناطق سيطرة الحكومة السورية، وسط التدهور المعيشي في البلاد.

انخفاض قيمة الليرة السورية

“مصرف سوريا المركزي”، قام يوم الإثنين الماضي، برفع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة السورية، في نشرات المصارف والصرافة، والبدل العسكري، وسعر الحوالات.

بحسب النشرة الصادرة عن المصرف، بلغ سعر صرف الدولار الرسمي 3000 ليرة، بدلا من 2500 ليرة سورية. وحدد المصرف، سعر صرف الدولار في النشرة الخاصة بالمصارف والصرافة بـ 4522 ليرة، بدلا من 3015 ليرة، وحدد سعر صرف اليورو أمام الليرة بـ 4839 ليرة سورية.

كما رفع المصرف سعر شراء الدولار لتسليم الحوالات الواردة من الخارج بالليرة السورية ليصبح 4500 ليرة سورية بدلا من 3000، والنشرة المخصصة لدفع البدل العسكري، حدد سعر صرف الدولار فيها بـ 4500 ليرة سورية، بدلا من 2800 ليرة.

إزاء ذلك، برّرت عضو لجنة الإدارة في “مصرف سوريا المركزي”، مها عبد الرحمن، تغيير سعر الصرف في بداية العام على أنه نهج دائم، وأن السنة المالية تنتهي مع انتهاء السنة الميلادية، ويتم تجديدها خصوصا عندما يتم إعداد الموازنة العامة للدولة، وفق وسائل الإعلام المحلية.

أما حول آلية تعديل وتغيير نشرة الأسعار أشارت عبد الرحمن إلى أنها “تتم وفق آلية تغيير الأسعار حسب النشرة العالمية وظروف الاقتصاد العالمي، ومراقبة الأسعار المحلية والعالمية بشكل دائم”، مضيفة أن “الجميع يتأثر بالتغييرات الحاصلة، كونها أسواق مفتوحة”.

قد يهمك: لماذا تتجه اهتمامات فصائل “المعارضة السورية” صوب الاقتصاد؟

عبد الرحمن أوضحت أن “التغييرات تجري بناءً على دراسات مستمرة، وليس وفق اتجاه أو دراسة واحدة، وكل سياسات المصرف تصبّ في ضبط سعر الصرف”.

خلال السنوات الماضية، لجأت الحكومة السورية إلى خلق أسعار صرف متعددة للعملات الأجنبية أمام الليرة السورية لأسباب عديدة، منها محاولة السيطرة على قيمة الليرة، والاستفادة من فروقات أسعار الصرف. ووفق النشرات الصادرة عن “المركزي السوري”، توجد في سوريا أربعة أسعار يُعلن عنها بشكل يومي، بالإضافة إلى سعر إضافي غير رسمي هو سعر السوق السوداء.

استسلام “المركزي السوري” للواقع الجديد

ضمن السياق ذاته، يرى الخبير الاقتصادي، والباحث في “مركز السياسات وبحوث العمليات”، الدكتور كرم شعّار، أن الزيادة بهذه الوتيرة السريعة لقيمة العملات الأجنبية مقابل الليرة السورية من قبل “المركزي السوري”، والتي نادرا ما حدثت في تاريخ “المركزي السوري” على الأقل خلال 10 سنوات الماضية، تعكس مدى تزايد “معدل التدهور” في قيمة الليرة السورية.

كما هناك أمر آخر وراء هذا التخفيض بحسب تقدير شعّار لموقع “الحل نت”، وهو “استسلام البنك المركزي للواقع الجديد لقيمة الليرة المتدهورة مؤخرا لمستويات كبيرة”.

شعّار استدرك ذلك بالقول “عادة عندما تشعر البنوك المركزية أن سعر الصرف يمكن أن يتعافى، فإن السعر الرسمي لا يتغير حتى يتغير السعر في السوق السوداء، ولكن عندما يرتفع سعر السوق السوداء بهذا الشكل ويظل على حاله، فإن هذا يعكس إقرارا من البنوك بأنه لا يمكنه إعادة سعر الصرف المحلي إلى قيمته السابقة”.

يبدو أن رفع “مصرف سوريا المركزي” لأسعار صرف الدولار أثار الكثير من الهواجس ولا سيما لجهة عدم قدرة المركزي على ضبط نظيره في السوق الموازية أو السوداء كما يسمونها، حيث اعتبر البعض أن “المركزي” بهذه الحالة يتبع الأخيرة، بدلا من العكس، ولجهة الانعكاس الفوري لهذا الرفع على ارتفاع أسعار المواد والسلع في الأسواق المحلية.

التبعات على القطاع العام

الأوضاع المعيشية في سوريا تزداد سوءا يوما بعد يوم وخاصة في مناطق حكومة دمشق، مؤخرا ومع اشتداد أزمة المحروقات في البلاد، ارتفع أجور النقل والمواصلات بشكل كبير، لدرجة أن تكاليف النقل للذهاب إلى العمل باتت متساوية لقيمة راتب الموظف الحكومي، وفقا لموقع “أثر برس” المحلي.

تكاليف النقل للذهاب إلى العمل باتت متساوية لقيمة راتب الموظف الحكومي في سوريا.

بدوره، أوضح الخبير في الجدوى الاقتصادية الأستاذ الجامعي، الدكتور سائر برهوم، للموقع المحلي، أن دراسة الجدوى الاقتصادية لأي عمل يقوم به الإنسان البسيط تقوم على دراسة المنفعة من هذا العمل، ويقوم بالدراسة قبل الفعل وبعد تنفيذه، ويسأل ما هي المنافع هل هي أقل أو تفوق أو تساوي التكاليف وبناء عليه يتم اتخاذ القرار.

برهوم تساءل عن “فائدة العمل إذا كان مردود العمل ضئيلا جدا”، وهنا يضطر الموظف إلى ترك العمل أو البحث عن بدائل أخرى وتفضيل الجلوس في المنزل على العمل بوظيفة تكاليفها المادية تساوي المدخول أو أكثر منه.

بالعودة إلى الخبير الاقتصادي، كرم شعّار، قال إنه خلال الأشهر الستة الماضية شوهد تدهور كبير في سعر الصرف، وعدم قدرة الحكومة السورية على استيراد شحنات النفط بنفس الوتيرة السابقة، وتحديدا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ثم عاد وتحسّن نسبيا في كانون الأول/ديسمبر الفائت، وهذه كلها أسباب تعكس مدى تدهور الوضع الاقتصادي للحكومة السورية.

شعّار قال إن بقاء المداخيل على حالها في سوريا وخاصة رواتب العاملين في القطاع العام، سيرفع من معدل التضخم بشكل أكبر في البلاد، وبالتالي سترتفع نسبة ترك العمل بين موظفي القطاع العام، لا سيما أولئك الذين يعملون في أماكن ليست في الواجهة، أيّ غير قادرين على تحصيل موارد ومنافع جانبية، بما في ذلك “الرشاوى”.

على سبيل المثال، الموظفون الذين يعملون في وزارة الصناعة ومن في حكمهم، غير قادرين على تدبير معيشتهم بهذه الرواتب الضعيفة التي لا تتناسب مع الواقع المعيشي، وبالتالي سيميلون إلى ترك العمل، وقد حصلت حالات سابقة وستزداد وتيرة هذا الأمر لاحقا، وفق شعّار.

ازدياد حالات الهجرة والنزوح؟

إن الانخفاض في قيمة الليرة السورية، بطبيعة الحال سينعكس على الأسواق، من ارتفاع الأسعار وما إلى ذلك، وعلى الرغم من أن ارتفاع الأسعار لا يزال يحدث بطريقة دراماتيكية، وعدم قدرة الحكومة على التدخل وضبط الأسواق، أو إبداء أي قدرة على استخدام أي وسيلة للسيطرة على أسعار الصرف، مما يعني أن المركزي غير قادر على فعل أي شيء بشأن الليرة، الأمر الذي سيُلقي بظلاله على المشهد السوري الحياتي بالتأكيد.

قد يهمك: اقتصاد عالمي متأزم في 2023.. كيف يمكن إصلاحه؟

بالتالي، وفق مراقبين، هذا مؤشر على أن “المركزي السوري”، فَقَد القدرة على احتواء العملات الأجنبية، أي أن احتياطيات البنك تكاد لا تكفي اليوم إلا لتأمين الاحتياجات الأساسية والضرورية، وحتى الحكومة السورية لا تستطيع تأمينها كلها، ولهذا السبب هي بدأت في استخدام سياسة “تخفيف الدعم”، حيث سحبت الدعم منذ بداية هذا العام من فئات عديدة من الشرائح السورية.

هذا وازدادت محاولات النزوح من مناطق سيطرة الحكومة السورية إلى مناطق شمال شرقي سوريا، على اعتبار أنه أفضل مقارنة بالوضع المعيشي العام في سوريا، أما حالات الهجرة خارج البلاد، فيرى شعّار، أن الهجرة ازدادت مؤخرا في سوريا ولبنان أيضا، لكن هذه الزيادة بقيت ضمن إطار ونسب محدودة، بالنظر إلى أن هذا التدهور في الأوضاع المعيشية تزامن مع قيود الاتحاد الأوروبي على وصول لاجئين جدد.

مع بداية العام الجاري 2023، ارتفع متوسط تكاليف المعيشة في سوريا إلى أكثر من 4 ملايين ليرة سورية لعائلة مكونة من خمسة أفراد، بعد أن كان في نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي أكثر من 3.5 ملايين ليرة سورية، في حين يبلغ متوسط دخل المواطنين ما بين 165-250 ألف ليرة سورية، بحسب دراسة نشرتها جريدة “قاسيون” المحلية.

إجمالا، لا يبدو أن هناك حلول تلوح في الأفق في هذا الدرك المظلم الذي يمر به السوريون منذ سنوات طويلة، لا سيما وأن دمشق متعنتة في إيجاد أي تسوية سياسية شاملة للبلاد وتطبيق القرار الدولي 2254، وبالتالي جميع المعطيات والمؤشرات تشير إلى تدهور الليرة أكثر مما هي عليه في الفترات القادمة، وسيزداد الوضع المعيشي سوءا، مما يعني أن حالات النزوح والهجرة ستزداد، وهذا ما له تداعيات سلبية بطبيعة الحال على المستويين الإقليمي والدولي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.