على إثر انخفاض وتيرة العمليات العسكرية والقصف من قبل روسيا وإيران والحكومة السورية على مناطق شمال غربي سوريا خلال عام 2022 مقارنة بالعام السابق وما قبله، رغم أن القصف لم يتوقف بشكل كامل. يبدو أن “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقا) وفصائل “الجيش الوطني” المعارض المدعومة من تركيا، مهتمة أكثر من أي وقت مضى بالجانب الاقتصادي.

اهتمام الفصائل بالملف الاقتصادي والتجاري بات واضحا للجميع، حيث وصف أهالي شمال غرب سوريا مرارا هذه الفصائل بـ “الشركات الربحية”، بعد أن أصبحت أهداف هذه المجموعات العسكرية تحقيق مصالح مادية، وما يؤكد ذلك هو الاقتتالات الداخلية الأخيرة التي حصلت بين هذه الجماعات الفصائلية العسكرية نفسها، نتيجة لغايات مادية.

من هنا يجدر التساؤل عن أهداف وغايات فصائل المعارضة السورية حول الاهتمام بالجانب الاقتصادي، وتحديدا في هذا التوقيت الذي يحدث فيه التقارب التركي السوري بوساطة روسية، وهل الملف الاقتصادي سيرفع من جديد المواجهة بين “هيئة تحرير الشام” وفصائل “الجيش الوطني”.

كذلك، فإن التساؤل الأهم الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت هذه التشكيلات ستنجح في إدارة الملف الاقتصادي وإنعاش المنطقة، وهل سيكون هذا الأمر بوابة لتوسيع العلاقات مع الأطراف الخارجية، وكيف ستؤثر هذه المصلحة على سكان شمال غرب سوريا وما إذا كان سيحقق نوعا من الاستقرار.

توجه تركي؟

منذ الخامس من شهر مارس/آذار عام 2020 لم تتغير خرائط السيطرة بين الفاعلين العسكريين في سوريا، ومنذ ذلك الوقت لم تشن فصائل المعارضة عمليات برية تهدف لاستعادة جزء مما خسرته لحساب روسيا ودمشق عام 2019 ومطلع عام 2020، في أرياف إدلب وحلب وحماة.

بحسب تقارير صحفية، فإن نشاط الفصائل العسكرية يقتصر على قصف مواقع عسكرية تابعة لدمشق بالأسلحة المدفعية أو الصواريخ، ويكون ذلك غالبا ردا على مجازر ارتكبتها الطائرات الروسية بحق المدنيين، ومع ذلك لم تسهم عمليات القصف هذه بوقف المجازر، أو التأثير بالمواقع المستهدفة.

المحلل العسكري، العقيد ركن مصطفى الفرحات، يرى ضمن هذا الإطار أن اهتمام الفصائل بالجانب الاقتصادي ليس بجديد، “فعندما أصبحوا رهن القرار الخارجي، بات الخارج هو الذي يتحكم في العمليات العسكرية”، لذا فلم يعُد الملف السوري في يد السوريين، سواء من قِبل الفصائل العسكرية “تركيا” أو الحكومة السورية “إيران وروسيا”.

اليوم، في السياق السياسي العام، تتمتع تركيا بالسيطرة الأكبر على الفصائل المعارضة، وتركيا التي تقترب من دمشق، وبجهود روسية لخلق توافق بين دمشق وأنقرة من خلال عقد قمة ثلاثية، وقد عبّر عنها الجانب التركي، وبشكل خاص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أنه سيكون هناك لقاء ولكن اللقاءات ستبدأ على المستوى الأمني والعسكري من وزراء الدفاع والخارجية ومن ثم على المستوى الرئاسي، مع الرئيس السوري بشار الأسد، لذا، فإن الجانب العسكري يتجه لمسار آخر، أي عدم القيام بعمل عسكري في المنطقة، والتوجه نحو مسار سياسي، على حد تعبير الفرحات لموقع “الحل نت”.

قد يهمك: أثر الغزو الروسي لأوكرانيا على الشرق الأوسط.. الحقائق الأساسية والاحتياجات الماسة

أما الفصائل، وفق تحليل الفرحات، فيجدر الاستعانة بمقولة “إن كنت تريد إفساد الثورة، أغمرها بالمال”، ومعظم قادة الفصائل الحاضرين اليوم، لا علاقة لهم بالعسكرة أصلا، فقد امتهنوا واستغلوا هذا الأمر للاستفادة المالية وتحقيق مكاسب فقط، فالكثير منهم يمتلك مطاعم وأرصدة بنكية في تركيا وأماكن أخرى، وبالتالي فليس من مصلحتهم معارضة القرار التركي، وأن هذا التوجه صوب الاقتصاد أو القرار بالأحرى “يعود بشكل أساسي إلى الجانب التركي”.

المفارقة، أنه وبالرغم من توعد قائد “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، بتحرير دمشق وحلب واللاذقية وحماة وغيرها، إلا أن الواقع يوحي بغير ذلك تماما، وسط التقارب التركي السوري، كما هو الحال بالنسبة لفصائل “الجيش الوطني” المدعوم تركياً، الذي يركز بشكل أساسي في عملياته العسكرية أو القصف على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

مشروع سياسي؟

خلال الفترات الماضية، كانت هناك تطورات لافتة من قبل بعض الدول العربية في المشهد السوري، حيث سعت بعض الدول العربية، مثل الأردن والأمارات، للتطبيع مع دمشق، بجانب الجهود الأردنية والجزائرية لإعادة دمشق إلى مقعدها في “جامعة الدول العربية”.

التطور المباغت الأكثر اندهاشا، هو الانعطافة التركية تجاه الملف السوري، حيث بُدّل الموقف التركي من إمكانية اللقاء والحوار مع الأسد، إذ أكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قبل أشهر، إمكانية رفع مستوى اتصالات بلاده مع دمشق إلى المستوى الدبلوماسي، في حال توفرت الأرضية المناسبة لذلك، كما شدّد لاحقا، على ضرورة إيجاد حل سياسي لسوريا عبر التوصل إلى اتفاق بين دمشق والمعارضة.

مؤخرا قال أردوغان، إنه “اقترح على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تشكيل آلية ثلاثية مع روسيا وسوريا لتسريع الدبلوماسية بين أنقرة ودمشق”، وبدء سلسلة من الاجتماعات بين هذه الأطراف لإعادة النظر في العلاقات المتوترة مع الحكومة السورية. إلا أنه ورغم كل هذه التطورات، فإنه لم يبدِ أي من هذه الفصائل أي مواقف حادة قد تغيّر مسار هذه التغيرات.

المحلل السياسي، حسن النيفي، يرى أن العامل الاقتصادي هو الحامل الحقيقي لأي مشروع سواء أكان عسكريا أم سياسيا أو غير ذلك، واهتمام الفصائل بهذا الجانب لم يكن جديدا بل كان هذا الاهتمام ملازما لتكوين هذه الفصائل منذ نشأتها، إذ إن البحث عن مصادر التمويل كانت نقطة البداية لتشكيل أي كيان عسكري.

النيفي وفق حديثه لموقع “الحل نت”، لا يعتقد أن الاهتمام بالاقتصاد يعني نهاية الحرب بالنسبة إلى الفصائل العسكرية، بل إن إيجاد بنية اقتصادية قوية يُعد عاملا معززا للقدرات الحربية، وخاصة إذا كانت الفصائل تفكر بتطوير قواها العسكرية، الأمر الذي يستدعي مداخيل مالية كافية.

أيضا، بحسب النيفي، هذه الفصائل ليس لها مشاريع وطنية كبرى ولا تسعى لاستثمار الاقتصاد في المجال الوطني العام، بل إن اهتمامها بالاقتصاد يمكن أن يخدم أجنداتها المحلية الضيقة لا أكثر من ذلك.

هل ينتهي الاقتتال الفصائلي؟

مؤخرا، كشفت وسائل إعلام تركية عن تفاصيل اجتماع جمع مسؤولين أتراك مع قادة “الفصائل المعارضة” المقربة من أنقرة في سوريا، بهدف إعادة هيكلة الجماعات المناهضة لحكومة دمشق من الصفر، وقالت صحيفة “تركيا” المقربة من “حزب العدالة والتنمية”، إن الاجتماع الذي استمر 4 ساعات في ولاية غازي عنتاب جنوب تركيا، يمكن أن يُعتبر علامة فارقة لتنظيم الهيكل العسكري لفصائل المعارضة، سيما أن أنقرة أكدت رفضها لاستمرار حالة الفصائلية بين القوى العسكرية في الشمال السوري.

لكن في مقابل ذلك، يرى مراقبون أتراك، أن الطرح الجديد لا يمكن تنفيذه، لأن تركيا حاولت أن تجعل “فصائل المعارضة” كيانا واحدا عند تشكيل “الجيش الوطني” السوري لكنها فشلت، ومنتقدين لمساعي تركيا المتكررة لتوحيد فصائل المعارضة السورية على اعتبار أن ذلك يعوق التطبيع مع حكومة دمشق، ومضيفين “الجيش الثاني يعني دولة ثانية، أي تقسيم سوريا”.

الفرحات، يقول في هذا الإطار إن الاقتتال الفصائلي بين فصائل المعارضة السورية حدث سابقا وسيستمر على هذا النحو على ما يبدو، حيث أنه عندما أرادت “هيئة تحرير الشام” ابتلاع بعض فصائل “الجيش الوطني”، وأكثر من ذات مرة وقعت اشتباكات بينهم، لكن عند التدخل التركي توقفوا، لأن تركيا كانت تحرك كل هذه الأمور.

فرحات، يعتقد إنه لا أحد من قادة “هيئة تحرير الشام” أو فصائل “الجيش الوطني” يجرؤ على الانحراف عن الرأي التركي، لأن المنطقة بأسرها بيد وتحت سيطرة تركيا، لذا فإن موضوع المواجهات بين الفصائل يعتمد كليا على توجه ومصالح الجانب التركي.

أما وفق تقدير النيفي، فإنه كان وما يزال الجانب الاقتصادي هو السبب الرئيس للخلاف بين هذه التشكيلات العسكرية، إذ يسعى كلا الطرفين إلى بسط هيمنته على مفاصل الاقتصاد كالمعابر والسيطرة على حركة التجارة كالنفط ومواد البناء وسوى ذلك، وأن نزوع كلا الطرفين نحو السيطرة والهيمنة الاقتصادية هو خلاف أهم من الجوانب الإيديولوجية والسياسية.

قد يهمك: لقاء ثلاثي تركي روسي سوري.. قمة “غير مشروطة” للتقارب مع دمشق؟

مما لا شك فيه أن الملف الاقتصادي كان له دور كبير في المواجهات الأخيرة بين “هيئة تحرير الشام”، وفصائل في “الجيش الوطني”، إذ كان “معبر الحمران” الفاصل بين مناطق سيطرة “الجيش الوطني” وقوات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شرقي حلب، من ضمن الأهداف في قائمة “الهيئة”، نظرا للمكاسب المادية الكبيرة التي يمكن أن يوفرها.

اختلافات التشكيلات العسكرية

بحسب التقديرات، فإن “هيئة تحرير الشام” تدير الملف الاقتصادي بشكل “منظّم براغماتي، بينما فصائل “الجيش الوطني” تديره بعشوائية، إذ وجِد في كل فصيل مكتب اقتصادي يعمل بمعزل عن الفصائل الأخرى، مهمته رسم السياسات وتنفيذ المشاريع وتوفير الموارد المالية بشتى الوسائل.

حيث أنها تعتمد على تمويل نفسها بنفسها، من خلال الاستثمارات والتجارة والرسوم والإتاوات و”الغنائم”، وتنشط بتجارة عدة سلع، والقطع الإلكترونية والكهربائية، بجانب استثمارها بشكل غير مباشر في المولات التجارية والمطاعم.

كذلك، تحصل على 10 بالمئة من الحصص الإغاثية الموزعة من قبل بعض المنظمات الإنسانية، إضافة لرسوم الطلبة في الكليات والمعاهد بجامعة “إدلب”، وتأجير العقارات، وتقديم خدمات أمنية للتجار لقاء مبالغ مالية، بالإضافة إلى الواردات المالية الكبيرة عبر احتكار تجارة المحروقات وغير ذلك من المواد الأساسية.

أي أن عملية الملف الاقتصادي منظمة من قِبل “الهيئة”، في حين تعتبر الإدارة الاقتصادية من قبل فصائل “الجيش الوطني” غير منضبطة؛ بسبب تعدد المكاتب المالية والاقتصادية في كل فصيل، والتي تعمل بشكل مستقل عن الفصائل الأخرى، وترسم سياسات تعنى بالفصيل فقط، مع غياب التنسيق والتخطيط المشترك بين هذه المكاتب.

الخبير الاقتصادي، والباحث في “مركز السياسات وبحوث العمليات”، الدكتور كرم شعار، يشير إلى أنه لطالما كان الاقتصاد مرتبط بشكل وثيق بالسياسة، فهما وجهان لعملة واحدة عمليا، والسلوك السياسي بجزء كبير منه ليس مرتبط فقط بتوطيد سلطة أمنية وإنما مرتبط أيضا بإيجاد موارد لاستدامة الوضع الأمني.

وفق حديث الشعار لـ “الحل نت”، فإن الحاصل في شمال غربي سوريا، هو اتجاه نحو التفكك الاقتصادي وليس الاندماج، ذلك لأن حكومة “الإنقاذ” في مناطق إدلب ومحيطها متجهة لعمل مؤسساتي أكثر بكثير من مناطق “الجيش الوطني”، حيث يفرضون قيود شديدة على الدخول والخروج وإدخال السلع والمحروقات، ومتجهين لعمل جهاز شرطة موحد وإصدار بطاقات لـ”الهوية الشخصية”، بمعنى أن مناطق “هيئة تحر ير الشام” متجهة نحو إنشاء “مشروع دولة”، وبعقلية الجولاني، فإنه يريد تأسيس دولة، وبالطبع يبقى هذا الوقت المستقطع في حال الجمود السياسي، وبالنسبة له، الاقتصاد يساعده على استدامة هذا المشروع السياسي والأمني.

قد يهمك: دمشق تفرض آلية جديدة على المساعدات الأممية.. ما علاقة الأزمة الاقتصادية ؟

بحسب تقدير الشعار، فإن المشاكل التي تواجه هذه المناطق مختلفة جدا، حيث إن مناطق “الجيش الوطني” ليست مرتبطة بالعقوبات الخارجية ومقاطعة المجتمع الدولي لها، بقدر ما هي مرتبطة بغياب أطر حوكمة صالحة وواضحة وهي في حالة التفكك والتشرذم الإداري. وعلى العكس من ذلك، هناك محاولات واضحة لبناء مؤسسات حكومية في مناطق “هيئة تحرير الشام”، لكن هناك مقاطعة دولية، بسبب تصنيف “الهيئة” على أنها منظمة إرهابية.

هل تنتعش المنطقة؟

في سياق، مدى احتمالية نجاح الفصائل في إدارة الملف الاقتصادي وإنعاش المنطقة، يرى الشعار، أنه من الصعب جدا التكهن بهذا الأمر في الوقت الحالي، ولكن رغم أن الأوضاع المعيشية هناك صعبة جدا، فمناطق “الجيش الوطني”، لا زالت الأمور غير واعدة بنفس القدر، على الرغم من استثناء غالبيتها من العقوبات الأميركية مؤخرا، لذا فأسباب المعاناة وطرق المعالجة مختلفة في المنطقتين بشمال غرب سوريا.

بالعودة إلى المحلل السياسي، حسن النيفي، فقد قال إنه في ظل غياب مشروع وطني متكامل وكذلك في ظل غياب جيش وطني موحد يخضع لقيادة مهنية غير تابعة أو خاضعة لجهة ما، فمن الصعب الحديث عن انعكاس ايجابي لأي ازدهار اقتصادي على السكان المحليين.

في الواقع، رغم تهالك أوضاع السوريين في شمال غرب وشرق سوريا، إلا أنه يبقى أفضل نوعا ما من مناطق سيطرة دمشق، ذلك لأن المساعدات الإنسانية موجودة في كل المناطق بسوريا، إلا أنه في مناطق سيطرة دمشق، فإنها تتذرع بتأثيرات قانون “قيصر”، لكن فساد دمشق ومؤسساتها، وتحكم أمراء الحرب وتجار المخدرات التابعة بشكل غير مباشر لدمشق يفضي بتأزم الأوضاع وفقدان المواد والمحروقات.

حيث شلت الحركة مؤخرا، بسبب فقدان الوقود، إلا أن الوضع في الشمال يبقى أفضل مقارنة بهم، ولكنه غير مستقر ومجهول المستقبل فيه، خاصة وأن “هيئة تحرير الشام” ترغب بالهيمنة على كامل المنطقة الشمالية الغربية هناك، وهي مصنفة على قائمة الإرهاب الدولي.

في النهاية، وعلى الرغم من عقد العديد من القمم والمؤتمرات لإيجاد حلول للأزمة السورية، فإنه طالما أن قوى المعارضة خاضعة لتركيا، ودمشق أيضا خاضعة للقرار الروسي والإيراني، فلن يكون هناك أي حل سياسي شامل لتهدئة واستقرار أوضاع السوريين خاصة الجانب الاقتصادي الذين يعانون منه منذ عدة سنوات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.