مع قرب دخول الغزو الروسي لأوكرانيا الشهر العاشر ومواصلة روسيا قصف جارتها الغربية، باتت ما تُعرف بأكبر حرب أوروبية منذ عام 1945، وكونها ثاني أكبر أزمة إنسانية منذ ستينيات القرن الماضي، لها تأثير هائل على العالم ككل، ففي روسيا نفسها، السكان عاجزون بسبب سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ يقولون “لا يمكننا شراء ما نحتاجه”، كما أن الجنود الروس غير راضين عن بوتين.

دول الشرق الأوسط، التي هي في الأصل منطقة متقلبة وغير مستقرة مع مجموعة من المشاكل القائمة والمستمرة، لم تكن مستثنية من تداعيات وتبعات الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث تسبب نقص الغذاء والتضخم في إثارة المخاوف من اضطرابات سياسية في الفترات المقبلة، وسط استمرار الحرب في أوكرانيا ولا يُعرف بعد متى ستتوقف، والتي يُرجح أن تمتد لفترات أطول.

الغزو الروسي لأوكرانيا، يترك عددا قليلا من الأسواق الزراعية دون أن يمسها تقريبا، في حين يهدد الأمن الغذائي للملايين داخل منطقة شرق الأوسط وتحديدا الدول غير المستقرة والتي تشهد اضطرابات أمنية ونزاعات داخلية؛ مثل سوريا والعراق ولبنان.

الحرب أدت إلى تقليص الصادرات الغذائية من أوكرانيا وروسيا، وخاصة القمح والذرة وزيت عباد الشمس، ما نتج عنه ارتفاع لأسعار هذه السلع؛ وزيادة الطلب على المنتجات البديلة، وخفض صادرات الأسمدة من البحر الأسود، بالتالي أدى إلى تغيير كمية وطبيعة المحاصيل التي تخطط للنمو في جميع أنحاء العالم. وتضيف التكلفة العالية للطاقة ضغطا تصاعديا على أسعار المواد الغذائية والأسمدة. بالإضافة إلى ذلك، فقد فرضت أكثر من عشرين دولة حظرا على تصدير المواد الغذائية في محاولة للحد من تأثير ارتفاع أسعار المواد الغذائية على السكان المحليين، مع تقليل الإمدادات في الأسواق العالمية.

قبل الحرب الأوكرانية، كانت روسيا وأوكرانيا تصدّران أكثر من ربع صادرات القمح العالمية. والأكثر عرضة لتأثيرات ارتفاع الأسعار الناجم عن الحرب هي البلدان التي يُعتبر القمح بالنسبة لها مصدرا رئيسيا للسعرات الحرارية، والتي تعتمد على الواردات لتلبية احتياجات الأمن الغذائي، والتي تشكل مصدرا لنسبة كبيرة من وارداتها من أوكرانيا وروسيا. فبحسب “منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة” (الفاو)، تعتمد خمسون دولة على روسيا وأوكرانيا في ما لا يقل عن ثلاثين بالمئة من وارداتها من القمح في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أي البلدان العربية عموما.

مما لا شك فيه، أن أسعار المواد الغذائية تؤثر على السياسة في كل مكان، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط. فقد وصل مؤشر “الفاو” لأسعار المواد الغذائية إلى مستوى مرتفع جديد في 2022، بعد قرابة عامين من الزيادات المطردة بسبب جائحة “كورونا”، ومن ثم غزو روسيا لأوكرانيا.

نظريا، بلدان هذه المناطق لا تزال معرّضة للمزيد من تبعات الغزو الروسي لأوكرانيا، لعل أبرزها ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، لذا، فإن درجة مخاطر انعدام الأمن الغذائي، وقدرة حكوماتها على الاستجابة، وقدرة الاستجابات الدولية لها، مجهول وغير مصرّح بشكل رسمي بعد، خصوصا حول مدى القدرة على احتوائها، لذلك بعيدا عن باقي العالم، يطرح هذا الملف أبرز الآثار الرئيسية حتى الوقت الراهن لهذه الحرب على دول الشرق الأوسط من حيث التطورات الدبلوماسية والعسكرية والشراكات الاستراتيجية والمساعدات الإنسانية والأمن الغذائي، وإمدادات النفط والغاز، وكيف أثّر على ارتفاع الأسعار عامة وأسعار العملات المحلية.

الأوضاع السياسية للمشرق العربي

يمكن القول بأن الحرب الأوكرانية أحدثت العديد من المتغيرات على عدة مستويات. ففي سائر أنحاء المنطقة وداخل الدول الغارقة في حروب ونزاعات أهلية وتدخلات خارجية، تبتعد الأطراف الفاعلة السياسية عموما عن الاصطفاف العلني مع روسيا أو أوكرانيا، أو بمعنى أدق الجانب الغربي، وما زالت تفضل حتى الآن التحوّط لرهاناتها.

وحدهما الحكومتان الإيرانية والسورية، إضافة إلى الميليشيات الموالية لطهران كـ”حزب الله” اللبناني و”الحوثيين” في اليمن، عبّروا عن تضامنهم ودعمهم المباشر بشكل علني مع روسيا، حتى أن دمشق كانت من الدول الخمس التي صوتت ضد قرار إدانة روسيا في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أدان الغزو الروسي، كما واعترفت لاحقا باستقلال وسيادة جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين.

 بالنسبة للتبعات على إيران، وعلى اعتبار أن موسكو عضوا دائما في مجلس الأمن الدولي، فإن روسيا مشاركة في مفاوضات فيينا الرامية إلى إعادة الولايات المتحدة وإيران إلى الالتزام المتبادل بالاتفاق النووي لعام 2015. في حين أن البلدان المتفاوضة كانت قد عزلت بشكل كبير هذه المفاوضات التي بدأت في نيسان/أبريل 2021، عن التطورات الخارجية، بدا أن غزو أوكرانيا قد غير حسابات موسكو لفترة وجيزة.

بدلا من الاستمرار غالبا بعزل المفاوضات النووية الإيرانية عن الخلافات مع الغرب، فإن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 5 آذار/مارس الفائت طالب الولايات المتحدة بضمانات أبرزها عدم إعاقة عقوبات الدول الغربية المتعلقة بأوكرانيا “تجارة روسيا الكاملة والحرة، والتعاون الاقتصادي، والاستثماري، والعسكري والتقني مع إيران”، وهي مجموعة كاسحة من المتطلبات تتجاوز بكثير معايير النقاشات المحددة بالاتفاق النووي، أو خطة العمل الشاملة المشتركة. وهذا التحول إلى دور المفسد ينذر بمحاولة “الكرملين” تأجيل عودة النفط الإيراني إلى السوق أو تعطيل العملية الدبلوماسية برمتها.

قد يهمك: انسحاب الجيش العراقي إلى معسكرات خاصة.. الأسباب والتداعيات؟

لكن فيما بعد، صارت طهران إلى جانب موسكو في غزوها لأوكرانيا، من حيث إمدادها ودعمها عسكريا، من خلال تزويدها بطائرات بدون طيار وتدريب القوات الروسية عليها، مما عقّد مسار الملف النووي الإيراني، الذي له تداعيات خطيرة في حال ركودها لفترات طويلة، وهذا ما أكده منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في 20 من كانون الأول/ديسمبر 2022، والذي دعا إيران إلى “الإنهاء الفوري للدعم العسكري لروسيا “، وشدد على وجوب إبقاء “الاتصالات مفتوحة وإعادة إحياء الاتفاق النووي على أساس محادثات فيينا” المتوقفة منذ أشهر.

غير أن خصومهم ينخرطون في محاولة التوازن على حبل مشدود بالتودد إلى روسيا والدول الغربية معا ويحاولون لعب دور الوساطة، كما فعلت إسرائيل. إن القبول بالخيارات السياسية الغربية، كما ظهر في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أدان الغزو الروسي، ناجم في كثير من الأحيان عن مصالح دبلوماسية مع الجانب الغربي، كما في حالات مصر والإمارات العربية المتحدة. على الرغم من أن القاهرة تجمعها علاقات وطيدة مع روسيا وتحديدا خلال الأعوام الأخيرة، حيث شملت مبيعات السلاح، والتعاون لبناء مصنع للطاقة النووية في شمال غرب البلاد، وتعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية.

في العراق، أثّرت الحرب الأوكرانية بشكل ملحوظ على المستوى السياسي، ففي حين أن العراق، كالكثير من الدول العربية الأخرى، امتنع عن الوقوف إلى جانب أحد طرفي الصراع، فإن ثمة انقسامات بين الكتلتين الرئيسيتين اللتين ظهرتا بعد انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021. فالبعض داخل التحالف الثلاثي الفائز، الذي يضم التيار الصدري، و”الحزب الديمقراطي الكردستاني” وتحالف “السيادة” السني، اعترف بوجود غزو روسي، في حين أن شبكة التنسيق الشيعية، المكونة بشكل رئيسي من الأحزاب المتحالفة مع إيران، تتعاطف أكثر مع الهواجس الأمنية الروسية بشأن “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو). وبشكل يعكس نفوذ اللوبي الموالي لإيران، امتنع العراق عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في مطلع آذار/مارس الماضي لإدانة الغزو الروسي. وصوّت لصالح القرار الثاني في 24 آذار/مارس الذي طالب بوصول المساعدات والحماية الإنسانية في أوكرانيا، بحسب “مجموعة الأزمات الدولية”.

في حين أن هذه الحرب تركت دول الخليج العربية في وضع دبلوماسي حرج. فقد تبنت في الغالب موقفا غامضا من الغزو الروسي في أوكرانيا، وحثت كلا الطرفين على ضبط النفس. إذ إن حكومات الخليج العربي تقيم شراكات وثيقة مع الولايات المتحدة، لكن معظمها أقام علاقات أقوى مع روسيا في محاولة لتنويع علاقاتها الخارجية، وبالتالي فهي غير مستعدة لاستعداء أي من الطرفين صراحة.

الرياض وأبو ظبي، فإن استجابتهما للأزمة الأوكرانية تكشفت على خلفية إحباط متزايد حيال الولايات المتحدة، شريكتهما الأمنية الأكثر وثوقا. إنهما تتصوران حدوث فك ارتباط أميركي من المنطقة وأصبحتا تريان أنه لا يمكن الركون إلى الولايات المتحدة. لكن في المجمل لا ترغب أي دولة خليجية بإعطاء الانطباع بالوقوف مع روسيا، لما لهم من علاقات استراتيجية وتحديدا أمنية مع واشنطن.

الأردن، بطبيعة الحال صوت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في آذار/مارس فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، لكنه امتنع عن التصويت بشأن تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان. نظرا لأن الأردن لا يعتمد بشكل كبير على روسيا أو أوكرانيا، حيث يحصل على غذائه ووقوده بشكل رئيسي من مصادر أخرى. وأعلنت الحكومة أن لدى البلاد من احتياطيات القمح ما يكفي لتسعة أشهر، أي “سيعزل البلاد عن الآثار السيئة لتعطل شبكات الإمداد العالمية”، وفق تصريحات حكومية.

دولة لبنان، أدانت الغزو الروسي لأوكرانيا وصوتت دعما لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 آذار/مارس. لم تكن هذه الخطوة متوقعة، بالنظر إلى أن “حزب الله” اللبناني، الذي يفرض نفوذا قويا في الحكومة، يرى في موسكو حليفا استراتيجيا في الصراع على توازن القوى في المنطقة وعبّر بقوة عن دعمه لروسيا. إلاّ أن الحزب أحجم حتى الآن عن تحويل تموضع بيروت في الصراع الأوكراني إلى قضية سجالية داخل الحكومة. ومن المرجح أن “حزب الله” لا يعتبر تصويت الجمعية العامة مهما بما يكفي لإثارة مشكلة؛ وأن التصريح علنا بدعم روسيا كان يكفي لتسجيل نقاط لدى موسكو؛ وأن انتقاد الولايات المتحدة على غطرستها في محاولة فرض موقف على لبنان سيكون له أثر طيب لدى قواعد “الحزب”، في حين أن المُضي أبعد من ذلك لن يحقق مكاسب سياسية إضافية.

قد يهمك: انبعاثات “داعش” في العراق.. “حواضن متطرفة” أم جغرافيا رخوة؟

في هذه الأثناء، فإن الإعياء الدبلوماسي أو شعور الجهات المانحة بالإنهاك قلّص أصلا الاهتمام بأزمات المنطقة، مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أو الانهيار الاقتصادي اللبناني، أو التهديد المتزايد بحدوث مجاعة في سوريا أو بالكارثة الإنسانية في اليمن والاضطرابات الأمنية والسياسية التي تحدث بين الحين والآخر في العراق. ومن المرجح أن يتضاءل الاهتمام بهذه الأزمات من قبل الجهات الفاعلة الدولية المنشغلة في أحداث عاجلة وملحّة تتكشف في دول ومناطق أخرى.

التبعات الجيوسياسية

 لا شك ومنذ الشهور الأولى من الغزو الروسي لأوكرانيا وما أعقبه من حظر على المنتجات الروسية، بما يشمل حظر الصادرات النفطية الروسية، تسبب بارتفاع في أسعار النفط التي استعادت المستويات التي كانت عليها قبل آب/أغسطس 2014، مع تخطي سعر البرميل 100 دولار أميركي. وفيما تعثرت أيضا القدرات الإنتاجية للجهات الأخرى المنتجة للنفط لأسباب مختلفة، قد تحافظ أسعار النفط على ارتفاعها لبعض الوقت. ولعل أهمية هذا التطور تبرز بصورة خاصة على المستوى الجيوسياسي بالنسبة إلى بلدان الشرق الأوسط، وفق تحليل الخبراء في مؤسسة “كارنيغي”.

الدول في الشرق الأوسط المنتجة للنفط، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية سعت إلى اعتماد تدابير لطالما كانت بحاجة إليها من أجل تحقيق إصلاحات اقتصادية تتيح لها الابتعاد عن الاقتصادات الريعية ونموذج دولة الرعاية الاجتماعية.

لكن التأثيرات كانت سلبية وستكون أشد في الفترات المقبلة على البلدان المستوردة للنفط. ففي حين أن أسعار النفط المرتفعة ستزيد من المخاطر المُحدقة بالبلدان التي تعاني أصلا من هشاشة في اقتصادها، أمكن في السابق التخفيف من حدّة بعض هذه التحديات من خلال الحصول على قروض من البلدان المنتجة للنفط. ليس واضحا حتى في الوقت الراهن إذا ما كانت هذه القروض ستُستأنَف بعد التحولات في التحالفات السياسية، ما يُعرِّض بعض البلدان المستوردة للنفط لخطر اقتصادي متزايد.

التأثير الاقتصادي على المنطقة

إن الغزو الروسي لأوكرانيا، نتج عنه ارتفاع حاد في أسعار السلع الأولية، مما سيساهم في تصاعد التحديات التي تواجه بلدان الشرق الأوسط. وبعد أن سجلت أسعار النفط قفزة حادة عقب الغزو الروسي، حيث بلغت في ذروتها 130 دولارا أميركيا للبرميل، ومن ثم تراجع تدريجيا واستقر عند متوسطها السنوي إلى نحو 107 دولارات أميركية.

بداية بالنسبة لدول الخليج العربي، فبوصفها دولا مصدّرة للنفط والغاز، من المتوقع أن تحصد دول الخليج العربية أرباحا من زيادة أسعار النفط والغاز ولم يتضرر اقتصاد بلادهم بهذا الشكل. فمثلا المملكة العربية السعودية، تحتاج أن يكون سعر النفط الخام أقل من 70 دولارا بقليل للبرميل حتى تحقق التوازن لموازنتها. فبعد الغزو، ارتفع السعر بشكل كبير إلى ما فوق 130 دولارا للبرميل الواحد، قبل أن يستقر على أقل من 100 دولار بقليل، ومن ثم ارتفع مرة أخرى بعد الحظر الذي فرضه الرئيس الأميركي جو بايدن على استيراد النفط الروسي.

بالنسبة لقادة الخليج، فإن زيادة الأسعار مرحّب بها، بالنظر إلى أن دخل الحكومة كان قد تقلص خلال جائحة “كوفيد-19”. في الوقت نفسه، وبالنظر إلى عدد سكانها القليل، وزيادة حصة الفرد من الدخل ووجود منشآت تخزين قمح كبيرة، فإن لدى دول الخليج العربية أدوات عازلة أكثر من كثير من الدول الأخرى تحميها من صدمات الإمداد وزيادات أسعار السلع الزراعية. الإمارات وقطر وعُمان تستورد كميات كبيرة من القمح من روسيا وأوكرانيا، لكن ليس لديهم دواعي القلق الأكثر حدة كما في مصر ولبنان على سبيل المثال.

حسب أحدث إصدارات “صندوق النقد الدولي” من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، يُتوقع أن تسجل أسعار الغذاء زيادات إضافية بنسب أكبر في أواخر عام 2022 لعموم بلدان الشرق الأوسط، بعد أن وصلت إلى ارتفاعات غير مسبوقة خلال الأشهر الأولى من الغزو الروسي لأوكرانيا.

مصر ضعيفة بشكل خاص أمام الصدمات الاقتصادية والسياسية المترتبة على الغزو الروسي لأوكرانيا. فهي أكبر مشترٍ للقمح في العالم، وتعتمد في 80 بالمئة من وارداتها على روسيا وأوكرانيا. وانقطاع الواردات بسبب الحرب يعني أن تواجه الحكومة تحديا معقّدا، إذ يترتب عليها البحث عن مزودينَ جدد في الوقت الذي تحاول فيه امتصاص ضربة ارتفاع أسعار الأغذية.

قد يهمك: ملف “سدّ النهضة”.. ما حدود التدخل الأميركي في الحل؟

التقارير تشير إلى أن أسعار الخبز غير المدعوم ارتفعت بنسبة 50 بالمئة منذ بداية الغزو، في حين أن الكلفة الأكبر للذرة المستعملة في العلف تغذي تضخم أسعار اللحوم والأسماك التي تتم تربيتها في المزارع. إضافة إلى ذلك، فإن الزوار الروس والأوكرانيين يشكلون نحو ثلث العدد الإجمالي لزوار مصر؛ وأي انخفاض كبير سيلحق الضرر بصناعة السياحة، التي تشكل مصدراً رئيسياً للتوظيف والعملة الأجنبية على حدّ سواء.

رغم أن القاهرة تبنت إجراءات طوارئ لتلافي الأثر المباشر لارتفاع أسعار الأغذية، لكن التداعيات الاقتصادية الأوسع أثّرت وتحديدا في ارتفاع سعر الجنيه المصري مقابل الدولار الأميركي، وما تزال غير واضحة إلى أين ستصل هذه التبعات، على الرغم من حظر السلطات تصدير المواد الغذائية الأساسية مثل القمح، والفول، والعدس والمعكرونة، وقدمت حوافز وفرضت أنظمة جديدة على منتجي القمح المحلي في محاولة لتعزيز الإمدادات المحلية. إضافة إلى ذلك، فرض الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حدا أعلى لسعر الخبز غير المدعوم. وبالتالي فإن الآلام المترتبة على الارتفاع الكبير في الأسعار على السكان بشكل عام ينبغي أن تبقى محدودة خلال عام 2022.

الأردن من جهته يشهد زيادات في الأسعار، تتسبب بشكل رئيسي في صعوبات جمّة للسكان المحليين، حتى مؤخرا اندلعت احتجاجات شعبية على إثر غلاء المعيشة، وبالمُجمل يعود هذا الارتفاع إلى عمليات التربيح التي يقوم بها التجار ومستغلّي الأزمات. لقد حاولت الحكومة معالجة هذه المشكلة من خلال وضع سقوف لأسعار سلع مثل الأرز، وزيت الطبخ والغاز، وأخضعت المخالفين للعقوبات. كما تقوم الحكومة بتقديم دعم جزئي لهذه السلع لتفادي التضخم عند ارتفاع أسعار السلع عالميا. وعموما، فإن أثر الأزمة على الاقتصاد الأردني كان محدودا وليس كارثيا مثل سوريا وحتى الآن نسبيا.

في العديد من الدول الهشة والشبه منهارة اقتصاديا، مثل لبنان وسوريا والعراق، فقد اندلعت الاحتجاجات الشعبية في كلا منها على إثر ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق وتراجع قيمة العملات المحلية أمام النقد الأجنبي.

جرّاء ارتفاع الأسعار عالميا، فإن فاتورة واردات بغداد من الحبوب يُتوقع أن ترتفع ثلاثة أضعاف، من 900 مليون دولار في 2020-2021 إلى 3 مليار دولار في 2021-2022. كما تتزامن آثار الحرب الأوكرانية مع تلك التي أحدثها جفاف حاد خلال حصاد عام 2021، عندما عانى 37 بالمئة من المزارعين من فشل محاصيلهم، ما أجبر الحكومة على شراء المزيد من القمح من الخارج، وقد فاقمت برامج توزيع الغذاء العراقية غير الكفؤة من هذه المشاكل.

كما أن لبنان يستورد أكثر من 80 بالمئة من قمحه من أوكرانيا، الأمر الذي يتركه هشا أمام صدمات الأسعار. حيث فقدت البلاد أربعة أخماس قدرتها التخزينية في انفجار مرفأ بيروت عام 2020، والذي دمّر صوامع الحبوب الرئيسية في البلاد. أما المرافق التي ظلت موجودة في ميناء طرابلس، وفي صوامع يملكها أصحاب المطاحن في البلاد فبالكاد تستوعب استهلاك شهر واحد من القمح، وفق ما حلله “مجموعة الأزمات الدولية”.

خلال منتصف كانون الأول/ ديسمبر الجاري، ارتفع سعر الدولار في لبنان بينما استقرت أسعار العملات الأجنبية، حيث وصل سعر الدولار في لبنان بتعاملات السوق السوداء، مقابل الليرة اللبنانية نحو 43.550 ليرة للشراء، و43.350 ليرة للبيع، وذلك بعد أن كان مستوى 43.500 ليرة للشراء، و 43.300 ليرة للبيع مقابل الدولار الأميركي.

التضخم في لبنان زاد متوسطه خلال العام الجاري في 10 أشهر على 160 بالمئة، وبلغ تراكمه منذ بداية الأزمة أكثر من 1400 بالمئة. ويبدو هذه ليست الخاتمة، فالعام 2023 هو عام تضخم إضافي يمكن أن يضرب أرقاما قياسية جديدة، وسط الوضع المتدهور وأزمة الشغور الرئاسي وأزمة السدود المصرفية.

أما في سوريا، فهي من البلدان الأولى التي تأثرت بالغزو الروسي لأوكرانيا، حيث ارتفعت الأسعار فيها بشكل غير مسبوق، وانهارت الليرة السورية أمام النقد الأجنبي بشكل مهول، حيث وصل إلى نحو 6500 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد.

منتصف كانون الأول/ديسمبر الجاري، قامت الحكومة بدمشق برفع أسعار المحروقات، وحددت سعر مبيع لتر البنزين “المدعوم” أوكتان 90 بـ 3000 ليرة بدلا من 2500، في حين رفعت سعر لتر البنزين “الحر” إلى 4900 ليرة بدلا من 4000.

كما قامت دمشق برفع أسعار المحروقات، حيث بيع سعر لتر المازوت “المدعوم” الموزّع من قبل شركة محروقات للقطاعين العام والخاص، بـ 700 ليرة بدلا من 500، ولتر المازوت المخصص للفعاليات الاقتصادية بـ 3000 ليرة بدلا من 2500 ليرة، وهو ما أثر على عموم الحياة المعيشية في البلاد.

فمثلا شهدت مناطق سيطرة دمشق خلال شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري أزمة حادة في الوقود، تكاد تكون الأسوأ على الإطلاق بالنظر إلى حالة الشلل التام التي أصابت القطاعات كلها، وأسفرت عن شلل كبير في المواصلات والكهرباء وتوقف كثير من الفعاليات والصناعات والأعمال، وسط فشل مؤسسات النظام في تأمين أبسط الاحتياجات الأساسية.

قد يهمك: أزمة وقود وأوضاع متهالكة.. إلى أين يتجه الاقتصاد السوري؟

سوريا اليوم تقف على أعتاب كارثة اقتصادية مدمرة، بل مجاعة تهدد حياة الملايين السوريين في البلاد بالرغم من اصطفافها مع روسيا في غزوها، وسط غياب أي حل سياسي شامل للأزمة السورية الممتدة منذ أكثر من عشر سنوات، على إثر تعنت الحكومة في دمشق بعدم إجراء أي حوار سياسي جاد مع القوى المعارضة وعدم تطبيق القرار الدولي “2254”.

خلاصة واستنتاجات

بالنظر إلى ما يحدث من متغيرات على الساحتين الإقليمية والدولية، وفي حين ما تزال الحرب في أوكرانيا مستمرة ومن غير المعروف متى وأين وكيف ستنتهي، ليس من الممكن تحديد قياس الأثر الكامل والنهائي للحرب على الأزمات في الشرق الأوسط، لكن بات من الواضح أن التداعيات ستكون متعددة الأبعاد.

حتى الآن، تقتصر آثار الغزو الروسي لأوكرانيا على المستوى الاقتصادي بشكل حاد، وإلى حد ما في المجال العسكري وكذلك على المستوى السياسي فالمنطقة مضطربة وغير مستقرة من الناحية السياسية والأمنية وتحديدا سوريا، بالتزامن مع قيام أطراف الصراع بإعادة التموضع في مواجهة بعضها بعضا وحيال العالم الخارجي.

لكن بالنسبة للأمن الغذائي واقتصادات بعض دول المنطقة مثل سوريا ولبنان والعراق ومصر والأردن وعقودها الاجتماعية المتوترة أصلا فقد تكون التداعيات مدمرة وكارثية، مع معاناة سكانها بدرجة أكبر من الحرمان والجوع، خاصة وأن هذه الدول تعتمد بشكل مفرط على استيراد الغذاء والطاقة، الأمر الذي يتركها هشة وضعيفة على نحو خاص أمام الصدمات الاقتصادية نتيجة الحرب في أوكرانيا؛ إذ إن بعض الدول تشتري كميات كبيرة من القمح من أوكرانيا وروسيا. خاصة وأنه من المرجح جدا أن تحدث كلفة متزايدة للنفط والغاز، والذي سيؤثر حتما على ارتفاع كلفة النقل وبالتالي أسعار السلع بشكل عام، الأمر الذي سيفرض ضغوطا تضخمية ويمكن أن يعطل سلاسل الإمداد بالسلع الأساسية وغير الأساسية بشكل يزعزع الاقتصادات الهشة.

بجانب ذلك، فإن ارتفاع أسعار الوقود سيجبر الدول الفقيرة بالنفط على تخفيض سعر صرف عملاتها الوطنية، ما سيُحدث انخفاضا في الدخول وتردّيا في الأحوال المعيشية. وقد لا يكون أمرا يصعب تصديقه أن تشهد المنطقة اندلاعا آخر للاضطرابات الاجتماعية وحتى الصراع نتيجة للصعوبات الاقتصادية وعدم قدرة الحكومات على معالجتها بشكل مناسب.

أما دول الخليج العربية، الغنية بالنفط والتي تمتلك احتياطيات كبيرة، فإنها لن تتأثر إلا هامشيا إذا ما امتدت الحرب الأوكرانية لعدة سنوات مقبلة، بمعنى أدق، فإن اقتصاداتها محمية من الركود والتضخم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.