مؤشرات عديدة ترسم الخطوط العريضة لمستقبل النظام الإيراني، منها المادي ومنها معنوي مُذخر، لإرادة الشارع الإيراني المنتفض ضد هذا النظام، والذي لم يعد مقبولا حتى ضمن أسرة “المرشد الأعلى للثورة الإيرانية”، علي خامنئي.

 إذ كشفت شقيقة المرشد، بدري حسيني، عن تصدعات كبيرة داخل النظام الإيراني، وقالت في رسالة نشرها ابنها محمود مرادخاني في كانون الأول/ ديسمبر 2020، “أنا أعارض أفعال أخي. أعبر عن تعاطفي مع جميع الأمهات اللاتي صرن ثكالى على إثر جرائم نظام الجمهورية الإسلامية، من عهد مؤسسة آية الله روح الله الخميني، إلى العصر الحالي للخلافة الاستبدادية لعلي خامنئي”. معلنة براءتها من شقيقها، والذي وصفته بأنه “ليست له آذان صاغية ويواصل طريق الخميني في قمع وقتل الأبرياء”.

ذلك يأتي بالتزامن مع صدور حكم لأحد المحاكم الدينية الإيرانية، قضى بالسجن 15 عاما، على فريدة مرادخاني، ابنة أخت خامنئي، تم تخفيضه لاحقا بعد الاستئناف.

 فريدة ابنة رجل الدين الإيراني علي مرادخاني، هي مهندسة مدنية، تعمل كناشطة في الدفاع عن حقوق المعتقلين الإيرانيين، تعرضت للاعتقال مرتين، آخرها كان في كانون الثاني/ يناير العام الماضي، بعد نشرها شعرا يتغنى بملكة إيران السابقة فرح بهلوي، وكان والدها قد هرب مع عائلته إلى العراق في ذروة الحرب بين البلدين، بعد أن أمضى أشهرا في السجن بمدينة مشهد، إلا أنه عاد إلى إيران عام 1995 فحُكم عليه بالسجن لمدة 20 عاما، قبل أن يطلق سراحه عام 2005.

الانشقاقات داخل عائلة “المرشد”، بالإضافة لانشقاق عناصر من الجيش الإيراني أثارت التساؤلات حول مدى تأثيرها على النظام الحاكم بدموية “الحرس الثوري”، والفتاوى الولائية الشاذة لحكم يستمد شرعيته من الله، لا مكان للشرعية الشعبية فيه.

الجنرال حسين صفر علي زاده، مسؤول التفتيش وإجراءات السلامة في محافظة فارس، طالب مرؤوسيه، في وقت سابق، بتقديم تقرير يومي عن اعتقال أي من قوات الجيش أو عائلاتهم خلال الاحتجاجات، فضلا عن الانتباه إلى “الأعمال التخريبية”، وفق قوله، ضد المنشآت العسكرية وموضوع كتابة الشعارات على جدران الثكنات، ويشير للأوامر التي أصدرها قائده العسكري الأعلى في محافظات أصفهان ويزد وجهارمحال وبختياري، بحسب موقع “إيران إنترناشيونال”.

الجيش الإيراني، والذي يقع الرهان عليه في حماية الشارع من بطش “الحرس” و”الباسيج” وسواهما، على غرار دوره في ثورة 1979، قال قائده العام عبد الرحيم موسوي “إننا لن نسمح للأجانب بالتدخل في شؤون بلادنا والتعدي عليها، وإن القوات المسلحة تساند بعضها بعضا، وتقف في الصف الأول للحفاظ على أمن البلاد ومواجهة التهديدات”.

هو بذلك يتبنى رواية المؤامرة التي يروّج لها “المرشد الأعلى” وزبائنه السياسيين. بدا ذلك في كلام موسوي “إن العدو يشن هجمات واسعة ومشتركة على إيران، لعرقلة طريق الثورة والحضارة الإسلامية الجديدة وتهيئة الأرضية لظهور صاحب الزمان” وفق وصفه.

الثعبان يقضم ذيله

عالم الاجتماع الإيراني فرهاد خسروخافار، في مقالة له في صحيفة “اليبراسيون” الفرنسية، اعتبر أن “نظام الملالي ينهج النهج السوري، من خلال إطلاقه للإسلاميين المتطرفين، وتسليحهم وتضخيم أفعالهم بشكل مصطنع، مع نشر أخبار كاذبة لتهديد المجتمع وجعل السكان يخشون تقطيع أوصال إيران من قبل مجموعاتها العرقية في غياب قوّة قاهرة”.

حركة الاحتجاج تمثل طابعا جديدا بمرونتها، وفقا لخسروخافار، رغم أنها بلا قيادة ولا تنظيم. لكن غياب أي مُحاور يمكن أن يجعل الحوار مستحيلا. فالسلطة لا تعرف من تلجأ إليه، فتواصل أعمال الترهيب وإدارتها القاتلة للاحتجاجات. لذا ليس من مجال لحل وسط بين المتظاهرين والنظام الثيوقراطي، والشباب الإيراني لا يرى أن النظام فاسد فحسب، بل هو ضد بهجة الحياة. وليس لديه أي رسالة أمل للشباب. فيما يستمر في تدمير حياتهم.

الإصلاحيون الذين كان يُنظر إليهم كبديل خجول ومعقول للحكم الديني المتشدد، قضي عليهم في عام 2009، حين فاز بانتخابات مزورة محمود أحمدي نجاد بدعم نشط من جيش “الحرس الثوري” والمرشد الأعلى، منذ ذاك الحين سُدت سبل الحوار والتسوية، وانقلب قمع النظام على نفسه، مثل ثعبان يقضم ذيله. كلما زاد قمعه، زاد تمرد المجتمع، فأصبحت التسوية مع قوة مكروهة أمرا بعيد الاحتمال، بحسب خسروخافار.

قد يهمك: إدارة الاحتجاجات الاجتماعية في إيران.. اللاقيادة تجعل القمع صعبا

الانشقاقات والاعتراضات داخل عائلة خامنئي تعد انعطاف بتسلسل الأحداث التي تشهدها إيران، بحسب حديث الكاتبة السياسية عالية منصور، لـ”الحل نت”، حيث ترى أن حديث شقيقة خامنئي سيعطي زخما للتحركات المضادة للنظام في طهران، وللشباب الثائر، بالإضافة لأنها رسالة واضحة بأن هذا النظام لا يمكن إصلاحه، وليس برأي الشباب والشارع المعارض، بل حتى ضمن عائلة خامنئي، وفق تعبيرها.

إن أي انقسام أو انشقاق يحصل في صفوف النظام الإيراني، بحسب منصور، سيكون دافعا للشارع المنتفض. وتأتي هذه الانتقادات والاتهامات للنظام الإيراني، بأنه لم يجلب سوى المعاناة للإيرانيين منذ عام 1979 من داخل الحلقة الضيقة، ومن داخل العائلة نفسها.

 بالتالي هي شهادة لصالح المنتفضين وتكذيب لكل الاتهامات التي ساقها ويسوقها النظام الإيراني بحق الحراك في المقابل، من خلال الحكم على ابنة شقيقة خامنئي بالسجن، يرد النظام برسالة واضحة جدا، أنه سيضرب بيد من حديد كل من يعترض على حكمه وقمعه، وهو لا يميز في ذلك بين قريب أو بعيد، وفق منصور.

المئات من الكتاب والمترجمين والباحثين والناشطين الثقافيين، أصدروا بيانا يعارضون فيه موجة الإعدامات الجديدة في إيران، بحسب موقع “إيران إنترناشونال” مطالبين بإنهاء سريع لـ”هذه العمليات المشؤومة”.

البيان يؤكد بأن “النظام الذي لا يستمع لأصوات المتظاهرين، ولا يعطي الناس الفرصة للتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم، هذا النظام الذي يخفي افتقاره للشرعية باللجوء إلى التهديد والترهيب والإعدام، سيرى قريبا جدا دعائم قوته وهي تنهار”.

طلاب جامعة “العلم والثقافة” في طهران، نظموا مؤخرا وقفة احتجاجية في الجامعة، نددوا خلالها بقمع السلطات للمظاهرات. مرددين هتاف، “هذه رسالتنا الأخيرة.. إن تقتلوا ستكون ثورة”.

إياد حمود، مدير مركز “نورس” للدراسات، في حديثه “للحل نت”، اعتبر بيان بدرية حسيني خامنئي، واعتقال ابنتها فريدة مردخاني، يشكلان زخم معنوي للشارع الإيراني المنتفض، دون أي تأثير فعلي، كونهما معروفتين بمعارضتهن لنظام الملالي سابقا، ولكونهن من خارج المنظومة السلطوية الحاكمة.

كذلك حال الانشقاقات الفردية عن الجيش الإيراني، فلا تأثير فعلي لها، ما لم تصل لانشقاق وحدات عسكرية كاملة، أو للتهديد بفتح مستودعات أسلحتها أمام المنتفضين للدفاع عن أنفسهم، إسوة بما قامت به بعض الوحدات العسكرية الإيرانية خلال عامي 1978-1979. وهو ما تخشاه الأجهزة القمعية لنظام الملالي. لذا بقي الجيش الإيراني مهمشا ومبعدا عن دائرة السلطة الداخلية والخارجية، وفق تعبيره.

في بيان أصدره وزير الداخلية الإيراني الأسبق عبد الله نوري، قال فيه إن النظام “ليس من المقرر لديه أبدا سماع صوت ورأي غالبية الناس”. وأن سبب الاحتجاجات الراهنة، هو “الانسداد السياسي والاجتماعي وفشل الإصلاحات؛ ما أدى إلى اليأس من تحسين الأوضاع”.

 النظام بدلا من الاستماع لأصوات المحتجين والاهتمام بجذور الاحتجاجات وأسبابها الداخلية مع دور النظام في المشاكل الموجودة على نطاق واسع، لجأ إلى طريق العنف والقمع، من خلال الإسقاط وعزوها بشكل كامل للعملاء ووسائل الإعلام الأجنبية، وفق نوري.

تحت مقصلة الحرابة

الكاتب الإيراني ومؤلف كتاب “سليماني.. رجل الظل الذي حكم الشرق الأوسط”، أراش عزيزي، يرى أن “إيران تشهد ثورة فعلية”. وأن “النظام لا يعرف إلا القمع كأداة لمواجهة ما يجري. هو لم يتراجع أبدا أو يقدم تنازلات طوال موجات الاحتجاجات السابقة، بل في بعض الأحيان كان يُضاعف وسائل القمع”.

لدى خامنئي سجل طويل في العنف الوحشي باعتباره السبيل الوحيد للحفاظ على سلطته، بحسب أراش، إلى ذلك، اعتبر أنه “كلما أفرطوا في القمع كلما تقدمت الثورة خطوات إلى الأمام”، بحسب ما أورده موقع قناة “العربية”.

في هذا السياق، أصدر 227 عضوا بالبرلمان الإيراني بيانا اتهموا فيه المتظاهرين بـ”الحرابة”، وطالبوا القضاء بإعدامهم. اللافت في البيان، بحسب بعض المحللين، عدم تضمنه أسماء أعضاء البرلمان الموقّعينَ عليه، ما يشير إلى توخي الحذر بين صفوف النخبة الإيرانية. يعزز مصداقية هذا التحليل، تغيير لهجة الخطاب لدى رئيس مجلس النواب المتشدد، محمد باقر قاليباف، فبعد مطالبته السابقة بسحق الاحتجاجات، عبّر عن آمله في “أن يعود الأمن إلى البلاد قريبا، حتى تبدأ التغييرات المشروعة والضرورية في إرساء نوع جديد من الحكم، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ضمن أطر “الجمهورية الإسلامية”.

محللون رأوا أن هذه التحولات مهمة، وتُظهر أن حركة الاحتجاج تُحقق قدرا من النجاح، في زرع الارتباك والذعر والخلاف داخل القيادات العليا، في نظام يهيمن عليه المتشددون، وأن هذه التحولات وآخرها تصريحات قاليباف، مؤشر مهم على أن النظام بدأ التعامل مع المحتجين كقوة اجتماعية شرعية.

كلما توسعت شريحة المنتفضين كلما زاد تأثيرهم، وازداد ارباك النظام، ويمكن أن لإضراب التجار، أن يضفي تأثيره على العجلة الاقتصادية شبه المعطلة أساسا. لذا يسعى الإعلام الرسمي الإيراني لتصوير البازار إلى جانبها وغير مشارك بالإضراب، لكن يتم إرغام التجار على إغلاق محالهم من قبل المنتفضين، بحسب عالية منصور، وتضيف، هذه الأنظمة تخشى تقديم أي تنازل مهما كان صغيرا لصالح الشعوب. حيث أظهرت الأحداث اللاحقة للإعلان المثير للجدل عن حل شرطة الأخلاق، أن الإعلان للاستهلاك الإعلامي لا أكثر، إذ بتنا نسمع بوتيرة متزايدة عن إعدامات ينفذها النظام بحق المحتجين.

تنازلات تفتقد المغزى الحقيقي

سانام وكيل، نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد “تشاتام هاوس”، في مقابلة مع “نيويورك تايمز”، نقلا عن صحيفة “الشروق”، يعتقد أن “قادة إيران، يحاولون فقط إثبات قدرتهم على التحلي بالمرونة، ولكن ما لا يفعلونه هو تقديم تنازلات ذات مغزى، وأن النظام الإيراني يبدو أنه يختبر ما إذا كانت مثل هذه التنازلات قد تقضي على الدعم الأوسع للتظاهرات بين الإيرانيين الذين لم يخرجوا إلى الشوارع حتى الآن”.

الضبابية سيدة المشهد الإيراني، في غياب مؤشرات حقيقية عن تصدعات مؤثرة في المنظومة الإيرانية الحاكمة، وهي عنصر أساسي في نجاح الثورات الشعبية، وكذلك لعجز السلطة الحاكمة عن إعادة المحتجين إلى بيوتهم، سواء بالقهر أو بالإرضاء. إلا أن الراجح، بحسب إياد حمود، عدم إمكانية العودة لما قبل أيلول/سبتمبر 2022، بعد أن حرّك الشارع الإيراني المياه الآسنة في مستنقع النظام، وأعادها إلى السطح، سواء بجدالات فكرية على مستوى النخب، حول شكل الدولة ومستقبلها، أو بغليان شعبي ينتظر اللحظة الفارقة، ونظام متوجس ومتأهب لاستخدام أقسى درجات العنف.

اقرأ أيضا: تعليق الأشكال الاقتصادية مع إيران خطوة محكمة لعزل موارد النظام؟

الثورة الإيرانية تتبلور أحداثها على وقع الحراك الشعبي الذي انطلق مع مقتل الشابة مهسا أميني، ويعلمنا التاريخ الإيراني الحديث والمعاصر أمرين، طول تمدد الفترة الزمنية لأي حراك شعبي إيراني. والثاني والأهم، ضرورة قيام بناء تحالف بين التيارات السياسية المعارضة أو القيادة الحركية للشارع، وبين المؤسسة الدينية، أو بعض وجوهها، حتى يؤتي الحراك نتائجه. وفقا لما أثبتته الأحداث الإيرانية خلال القرنين الفائتين ثورة “التنباك” والثورة “الدستورية”، الإطاحة بحكومة مصدق، ثورة 1978-1979. مع بقاء التعويل على الجيش الإيراني قائما، في ظل صراعه المكتوم مع “الحرس الثوري”، وعلى ضوء مستقبل الجيش الإيراني بعد الانقلاب الصامت لـ”الحرس الثوري” على نظام الملالي، منذ قرابة الثلاث سنوات، أصبحت بعده الدولة الإيرانية كالحكومة الجزائرية الخارجة من أحداث التسعينيات، دمى مدنية يحركها الجنرالات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة