منطقة القرن الإفريقي أصبحت أولوية سياسية بالنسبة لإيطاليا، منذ عام 2014، وتُركز الاستراتيجية الإيطالية على ربط إسهامها في إرساء الاستقرار والأمن في القرن الإفريقي بالدبلوماسية الاقتصادية، والاستثمار الصناعي، وتعزيز سياسات القوة الناعمة، كما يحظى مضيق باب المندب، المحاذي لمنطقة القرن الإفريقي، بأهمية خاصة بالنسبة لإيطاليا بعد أن أصبحت ثاني أكبر دولة مُصنعة في أوروبا، حيث يمكن استخدام المضيق لتوسيع الأسواق الاستهلاكية للسلع الإيطالية.

كما أنه و بالنظر إلى كون إيطاليا ممرا للمهاجرين الراغبين بالوصول إلى أوروبا، فإن روما تعمد إلى التعاون مع دول القرن الإفريقي، من أجل إدارة تدفق المهاجرين بهدف تعزيز الاستقرار المؤسسي في هذه الدول وزيادة قدرتها على فرض سيطرتها داخل أراضيها.

أيضا تتسم السياسة الخارجية الإيطالية في عهد حكومة جورجيا ميلوني الحالية بالاستمرارية السياسية لحكومة رئيس الوزراء السابق ماريو دراجي، وذلك بدعم العلاقات الوثيقة بين ضفتي الأطلسي والتكامل الأوروبي في وقت واحد، وإرساء الاستقرار في حوض البحر الأبيض المتوسط الواسع الذي يضم مناطق الشرق الأوسط والخليج العربي والقرن الإفريقي والساحل.

هذا الاهتمام الإيطالي بالقرن الإفريقي يدعو للتساؤل حول المصالح الإيطالية في هذه البقعة، وآثارها ومستقبل العلاقات بين إيطاليا ودول المنطقة.

مصالح متنوعة

في وثيقة السياسات الاستراتيجية الإيطالية لعام 2020، تمت الإشارة إلى مركزية القرن الإفريقي، وتهدف إيطاليا إلى استعادة القوة الناعمة في هذا الجزء من القارة الإفريقية، وتقديم مثال للتعاون على أسس متكافئة بين الاتحاد الأوروبي والدول الإفريقية. وبالإضافة إلى أن استقرار القرن الإفريقي شرط مسبق للسلام الإقليمي والنمو الاجتماعي الاقتصادي فإنه يُعد أداة لمنع انتشار الأزمات الإنسانية والأمنية إلى منطقتي الساحل والمغرب العربي، والتي بدورها ستنطوي بالتأكيد على آثار اجتماعية سياسية على أوروبا. وتتمثل إحدى أولويات حكومة ميلوني في الحقيقة بالسيطرة على تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى إيطاليا الذي يُعد تهديدا أمنيا وثقافيا على حد سواء.

سد النهضة

الاستراتيجية الإيطالية تجاه القرن الإفريقي، تغيرت منذ العام 2013، وتمثلت بربط إسهامها في إرساء الاستقرار والأمن في المنطقة بالدبلوماسية الاقتصادية والاستثمار الصناعي، وأصبح القرن الإفريقي عام 2014 أولوية سياسية بالنسبة لروما وذلك من خلال عقد مؤتمر إيطاليا إفريقيا الوزاري الأول بمشاركة وفود رفيعة المستوى تُمثل أكثر من 40 دولة.

المصالح الإيطالية في القرن الإفريقي يمكن أن تُمثل بالمصالح الرئيسية التالية، المصالح الاقتصادية وعلى رأسها سلامة خط التجارة الدولي عند مضيق باب المندب والذي يُشَكل نقطة العبور إلى البحر الأحمر وقناة السويس، وتطوير البنى التحتية خاصة في مجال بناء السدود، ومجال الطاقة المتجددة.

أيضا هناك مصالح أمنية تتمثل في محاربة التنظيمات الإرهابية مثل “حركة الشباب”، وخلايا تنظيمي “داعش ” و”القاعدة”، و المساهمة في مهام سياسة الأمن والدفاع المشتركة التابعة للاتحاد الأوروبي، خاصة بالشراكة مع الصومال، من أجل دعم والحفاظ على النظام الداخلي، والسيطرة على الحدود، ومكافحة القرصنة والصيد غير الشرعي على طول سواحل الصومال من خلال “عملية اتالانتا” التي تنفذها القوة البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي في الصومال وعملية “درع المحيط” التابعة لحلف “الناتو”.

كما أن هناك مصالح تتمثل في دعم عمليات التكامل الإقليمي على المستوى الثنائي، وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، كتحسين التجارة والأمن والحوكمة من خلال الاتحاد الإفريقي، و التعامل مع تَغَيُّرْ المناخ، و الالتزام بلعب دور الوساطة ومنع النزاعات من خلال الأمم المتحدة.

إلى جانب ذلك هناك مصالح تتعلق بالأمن الإنساني، حيث ساهمت إيطاليا، إلى جانب تمويل وكالات الأمم المتحدة للإغاثة الإنسانية، في “مبادرة تعليق سداد خدمة الديون” التابعة لمجموعة العشرين لصالح جيبوتي وأوغندا وإثيوبيا خلال جائحة كورونا، إضافة إلى التعامل مع أسباب الهجرة غير الشرعية.

الدكتورة هبة البشبيشي، الخبيرة في الشؤون الإفريقية ترى خلال حديثها لـ”الحل نت”، أنه عند الحديث عن القرن الإفريقي لا بد من التمييز بين النطاق الضيق الخاص بالصومال وإريتريا وجيبوتي وإثيوبيا، فالمصلحة الإيطالية هنا لا تتعدى أهداف الاستثمار المباشر كما يحدث في سد النهضة في إثيوبيا حيث الوجود الإيطالي المباشر.

قد يهمك:“حصار شامل”.. الصومال بمواجهة مباشرة مع الإرهاب الإلكتروني؟

أما إذا تم توسيع النطاق حتى يشمل السودان وكينيا وجنوب السودان وأوغندا، فالموقف يختلف حيث تتوسع الأهداف إلى أهداف استراتيجية فكرية مختلفة، حيث تختلف الأهداف وتشمل نظرة توسعية بخلاف الاستثمار المباشر تهدف إلى استقرار في هذه البلدان لزيادة وارداتها من إيطاليا، وأيضا تهدف إلى تجفيف منابع الهجرة غير الشرعية وإيقاف نزيف التدخل غير المرغوب فيه إلى أوروبا وذلك عن طريق زيادة فرص العمل للأعمار الصغيرة في بلدانهم وزيادة الوعي والارتباط بأوطانهم والاستقرار فيها، حسب البشبيشي.

آثار التواجد الإيطالي ومستقبله

الواقع يشير إلى ترابط أكثر من أي وقت مضى بالنسبة لإيطاليا في إرساء الاستقرار في القرن الإفريقي، حيث تسبب استمرار النزاعات المسلحة لمدة طويلة في الصومال والسودان وإثيوبيا وإريتريا في فرار نحو 3 ملايين شخص من المهاجرين وطالبي اللجوء، إضافة إلى 12 مليون نازح. كما تعرَّضت المنطقة إلى آثار سلبية نتيجة جائحة “كورونا”، وغزو روسيا لأوكرانيا، ما أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار الحبوب والوقود. وقد يؤدي اعتماد دول القرن الإفريقي الكبير على واردات الحبوب، خاصة من روسيا وأوكرانيا إلى حدوث مجاعة لدى الملايين في المنطقة.

مع ازدياد المهاجرين وطالبي اللجوء من هذه الجول والذين يمرون عبر ليبيا إلى إيطاليا بشكل خاص، برزت لدى إيطاليا مصلحة بالمساهمة في إدامة الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي، فضلا عن الشمال الإفريقي، من خلال دعم تحسين الحوكمة. وعلى سبيل المثال، وفي سياق المُجتمعات الزراعية في منطقة القرن الإفريقي، تحدُث العديد من “النزاعات العرقية” نتيجة عدم التوزيع العادل للموارد الطبيعية الأساسية مثل المياه والأراضي.

لكن لا يزال أمام إيطاليا وقت طويل حتى تتمكن من ترسيخ وجودها في هذه الدول، مقارنة بدول أخرى كالولايات المتحدة والصين وفرنسا، إضافة إلى القلق من التمدد الروسي الخشن في المنطقة من خلال دعم أنظمة تعتبرها إيطاليا وأوروبا ديكتاتورية.

في هذا السياق وحول مستقبل العلاقات بين إيطاليا ودول القرن الإفريقي، ترى البشبيشي، أن العلاقة بين إيطاليا وهذه الدول غير تاريخية بمعنى أن الوجود الإيطالي غير قديم ويحتاج لمحفزات كبيرة ومختلفة حتى يستمر خصوصا في ظل التنافس الصينى الأميركي في هذه المنطقة.

كما أن إيطاليا تحتاج لاستراتيجية جديدة تعلن عنها إيطاليا كما فعلت فرنسا وأعلنت عن استراتيجيتها الجديدة في غرب إفريقيا، حسب البشبيشي.

مواقف إيطاليا من نزاعات المنطقة

بالنسبة لمواقف إيطاليا من النزاعات الأخيرة في المنطقة، فإن روما انتقدت الانقلاب الذي حدث في السودان في عام 2021، وتمنّت عودة البلاد إلى عملية الانتقال السياسي بين المَدنيين والجيش، التي بدأت في عام 2019. وتُشجّع روما على إدامة الضغط من أجل التفاوض السلمي بشأن الأزمة، دون أن توقف اهتمامها بالبلاد بعد أن تنتهي الحالة الطارئة التي تمر بها حاليا.

حضور إيطالي في القرن الإفريقي

أيضا تتمتّع إيطاليا بعلاقة صعبة مع إريتريا المعزولة بسبب ماضيها كقوة استعمارية في البلاد. ووفقاً لبعض الخبراء، يُستخدَم الخطاب المُعادي للاستعمار من قبل إريتريا من أجل منع مُناقشة سجل حقوق الإنسان الخاص بها، وتُشجّع إيطاليا إعادة الإعمار الصعبة في الصومال، وإعادة إدماجها التدريجي في المُجتمع الدولي، وعلى سبيل المثال دعم إلغاء الديون.

كما أنه في عام 2019، وقّعت إيطاليا اتفاقية تعاون عسكري مع إثيوبيا لمواجهة إرهاب الجماعات الجهادية. ومع ذلك، وعندما اندلعت الحرب الأهلية بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير شعب تيغراي عام 2020، علّق وزير الدفاع الإيطالي، غوريني، تصدير أي أسلحة أو مواد مزدوجة الاستخدام إلى البلاد، مُطالباً بإنهاء الأعمال العدائية، وانسحاب القوات الإريترية من إثيوبيا، ووصول المساعدات الإنسانية إلى البلاد، ودعم تحقيقات الأمم المتحدة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في إقليم تيغراي. وهناك بعض الاستثمارات الإيطالية في إثيوبيا التي لها آثار جيوسياسية في المنطقة خاصة سد النهضة الإثيوبي في عام 2011.

إفريقيا باتت محط أنظار القوى الكبرى في العالم وحتى الدول الأوروبية التي تسعى لجعل دول القارة السمراء سوقا لها من جهة، ومحاولة الحد من الهجرة الشرعية إليها من هذه الدول من جهة أخرى، لهذا تسعى إيطاليا مثل بقية الدول لإيجاد مكان لها في إفريقيا وترسيخه.

إقرأ أيضا:مخاوف مصرية من اتفاق سوداني أثيوبي حول سد “النهضة” دون القاهرة

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.