وسط توجس دول إقليمية، أخد الاهتمام التركي يتزايد تدريجيا بالسودان، الحالة التي تفسّر تطور العلاقات بين البلدين، ومساعي أنقرة في تمديد نفوذها إلى الخرطوم، حيث بدأت المنافسة تتركز في الجانب الاقتصادي بعد أن قطعت شوطا على الصعيدين الأمني والسياسي، ما دفع دول عربية مثل مصر للشعور بعدم الارتياح.

إذ تسعى تركيا على ما يبدو إلى منافسة غير معلنة لمشاريع خليجية تحدثت عنها تقارير، وأشارت إلى استعداد بعض دول الخليج لضخ استثمارات كبيرة في مجال الزراعة بالسودان، والاستفادة مما يمتلكه هذا البلد من أراض خصبة تتوفر لها بسهولة مياه نهر النيل وروافده، ووصفته دراسات عربية بأنه يمكن أن يصبح سلة غذاء العالم العربي.

كمؤشر على الرغبة التركية في بسط نفوذها على الساحة السودانية، أبرمت تركيا والسودان مذكرة تفاهم تهدف إلى التعاون في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية، وقد وقّع عن الجانب التركي نائب الرئيس فؤاد أوقطاي ووزير شؤون مجلس الوزراء السوداني حسين عثمان في أنقرة، الجمعة الماضي.

مضامين تركيا والسودان الزراعي

المذكرة تهدف إلى التعاون وتحقيق المصالح المشتركة على مستوى الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية وتطوير صناعة المعالجة والارتقاء بالتجارة بين البلدين، وذلك في الوقت الذي ينظر إلى مستقبل السودان كأحد أهم ساحات الاستثمار الاقتصادي لاسيما في مجال الزراعة.

ذلك يأتي بعد نحو أسبوع من إرسال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان، إلى السودان للقاء كبار المسؤولين هناك، والتقى رئيس الاستخبارات التركية خلالها، رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو الملقب بـ “حميدتي” في العاصمة السودانية الخرطوم، فضلا عن مدير المخابرات العامة السوداني الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل.

اقرأ/ي أيضا: عودة ملف المفقودين الأردنيين في سوريا إلى الواجهة.. هل يفرق الجارتين؟

ظاهريا، حاولت تركيا إرسال رسالة بأن زيارة رئيس الاستخبارات التركية إلى السودان، هدفها التأكيد على دعم أنقرة لـ “الاتفاق الإطاري” الذي وقّعه المكون العسكري السوداني مع القوى المدنية في البلاد في إطار إيجاد حل للأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد منذ العام 2019، إضافة إلى جهود تحقيق الاستقرار في السودان. فيدان أعرب عن استعداد تركيا لتقديم الدعم للسودان بما يحقق الاستقرار في البلاد.

غير أن تقارير، أشارت إلى زيارة رئيس الاستخبارات التركي بأنها تأتي لتعزّز مساعي أنقرة المتعلقة بالتغيير الحاصل في توجهاتها الخارجية، حيث تعمل على استبدال التحركات الأمنية بأخرى اقتصادية لتطوير علاقاتها السياسية وترسيخ حضورها في المنطقة.

في سياق ذا صلة، تعود النقطة المفصلية في العلاقات بين البلدين إلى كانون الأول/ديسمبر 2017، حين أدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة وصفت بالتاريخية إلى السودان، وعرفت توقيع 22 اتفاقية ومذكّرة تفاهم في مجالات عديدة.

تركيا تثير مخاوف إقليمية

التقارب التركي السوداني هذه المرة أثار مخاوف دول وقوى إقليمية من تحول دولة لها موقع إستراتيجي مميز مثل السودان إلى ساحة نفوذ مركزية لتركيا، وعلى الرغم من حالة التنافس في تدفق الاستثمارات الخليجية والتركية إلى السودان، تنظر مصر إلى التعاون الاقتصادي السوداني التركي الصاعد في المجال نفسه، بتوجس شديد؛ لأن هذا التوجه يخلق نفوذا سياسيا لهذه الدول يقلل من الثقل التقليدي للقاهرة في السودان، وينعكس سلبا على مشاريع التعاون الاقتصادي المفترضة بين هذا البلد ومصر، كما أنه يتيح لأنقرة التسلط على مصير الأمن المائي المصري الذي يغذّيه نهر النيل.

في مقابل ذلك، وللحديث عن دوافع تركيا في التوجه إلى السودان البعيدة عنها، يقول المحلل السياسي عبدالله الكناني إن أنقرة تنظر لنفسها كقوة دولية صاعدة، يتطلب منها التواجد في كل مكان في العالم، وذلك لحجز مقعد لها في سياق التنافس الاقتصادي والسيطرة على مصادر الطاقة والاستثمارات الأخرى، وبناء على ذلك فإن القارة الإفريقية تتمتع بأهمية كبيرة ضمن خارطة التدافع الدولي حول مصادر الطاقة والتمويل وتسعى تركيا لأن يكون لها موقعا ضمن ذلك.

اقرأ/ي أيضا: زيارات أميركية إيرانية لبغداد.. تحوط استراتيجي في سياسة طهران تجاه واشنطن؟

الكناني بيّن في حديث لموقع “الحل نت”، أن السودان تمتلك موقعا استراتيجيا في القارة الإفريقية، كما أنها تُشرف من ناحية البحر الأحمر على المصالح المصرية التي تسعى تركيا لخنقها وإعادة رسم تموضعها، في محاولة للضغط على القاهرة في الصراع الدائر في شرق البحر المتوسط، وبمحاولة لردعها عن الاصطفاف إلى جانب اليونان الغريم التقليدي لتركيا، والذي تقف مصر إلى جانبها في صراعها ضد تركيا.

بحسب المحلل السياسي، امتلاك السودان لمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية المتميزة، يمكن أن توفر لتركيا مصدرا اقتصاديا كبيرا في حال تمكنت من استثمارها في ظل التنافس الحاصل بين عدد من الأطراف الدولية والإقليمية، مبيّنا أن هذه الاستثمارات في حال تنفيذها فهذا يعني أنها تحتاج إلى مصدر ري مستدام واستراتيجي، وهو ما قد يدفع إلى بناء سدود على نهر النيل، الأمر الذي سيضيق الخناق على مصر إلى حد كبير.

كذلك أشار الكناني إلى أن العالم يشهد سباقا كبيرا حول الاستثمار في مصادر الطاقة، لاسيما مع التحول إلى الطاقة البديلة التي تسعى لها الدول المتقدمة، وفي سياق ذلك تتطلع تركيا إلى التحول في مصادر الطاقة البديلة والاستثمار في مصادر الطاقة، والتي تمثل إفريقيا مركزا حيويا واستراتيجيا لما تحتويه من مصادر الطاقة المهمة، بالتالي تسعى أنقرة بالتوازي مع تواجدها في ليبيا إلى شق طريقها إلى القارة الإفريقية من خلال السودان.

تركيا وتهديد الأمن المائي لمصر

في غضون ذلك، كان السودان قد تلقى وعودا بإقامة سدود على نهر النيل لن يتحمل تكاليفها، وحصل ذلك على بعض دراسات الجدوى للتنفيذ، إلا أن قياداته المختلفة ترددت في قبول عروض مشاريع عديدة خوفا من توتير العلاقات بين الخرطوم والقاهرة، خاصة في الوقت الذي يمر فيه السودان بأزمة سياسية طاحنة وتواجه فيه مصر تحديات في ملف المياه.

بينما تجري أنقرة بحثا تقنيا شاملا حول البنى التحتية للري الخاصة بنهر النيل والمياه الجوفية ومياه الوادي، وهي مصادر الري الثلاثة لمشروع “الهواد” التنموي على مساحة مليوني وأربع مئة ألف فدان، وذلك بالتنسيق بين وزارة الزراعة والغابات التركية ووزارة الري والموارد المائية في السودان.

في حين تتضمن مذكرة التفاهم الأخيرة إنشاء مزرعة تجريبية بالشراكة بين البلدين، بهدف تحسين البذور وتطوير المراعي الطبيعية والإنتاج الحيواني، وتقديم الدعم لمزارعين ومربي مواشي مشاركين في المشروع، كذلك في إطار الاتفاق الجديد أيضا سيقوم وفدان من وزارة الزراعة والغابات ووزارة الطاقة والموارد الطبيعية في تركيا بزيارة إلى السودان في الأيام المقبلة لتعزيز التعاون.

على هذا النحو، فأهمية السودان بالنسبة لتركيا تكمن في الاستثمارات التركية هناك، فضلا عن أهمية موقع البلاد، إذ يمكن أن تكون بوابة تركيا نحو شرق إفريقيا والقارة السمراء عموما، ذلك أن السلطات التركية تهتم كثيرا بزيادة نفوذها ومكانتها في القارة الإفريقية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.