الوضع في سوريا، ما يزال يمضي يوما بعد يوم، في مسارات أكثر تعقيدا وغموضا، لا سيما على مستوى اقتصاد البلاد. فبعد تقليص الأعمال العسكرية بشكل عام في مناطق الحكومة السورية، بدت الأزمة الاقتصادية تطفو على السطح تدريجيا، حتى أمست أشبه بشبح مرعب يرافق حياة السوريين في الداخل، وتبعث بسجالات جمّة تشغل أوساط السوريين المقيمين في الخارج.

الشارع السوري ككل، كما أنصار السلطة الحاكمة في دمشق، باتوا يتخوفون من هذا التدهور الاقتصادي قبل غيرهم، وبالتالي أصبح الشارع محتقنا وأشبه ببندقية ساخنة على وشك الانفجار.

بالنظر إلى الحكومة السورية يبدو أنها قد أدركت تداعيات الوضع الاقتصادي الصعب، مؤخرا، فبدأت، وكنوع من المخاتلة كما هي العادة في سياساتها، بإحداث تحولات مهمة ولافتة في السياسة الاقتصادية لبعض مؤسساتها، وربما أبرز هذه التحولات تتمثل في قيام “المصرف المركزي السوري” بتخفيض سعر صرف الليرة السورية مقابل النقد الأجنبي. ولأول مرة منذ عام 2011 يكاد يساوي سعر صرفه مع سعر السوق الموازية أو السوق السوداء كما يسمونه.

هذه التحولات المباغتة نوعا ما قد أثارت عددا من التساؤلات بين السوريين عموما، وبين الخبراء والمحللين بوجه خاص. فهي تدور حول أسباب ودلالات هذا التخفيض في الوقت الراهن، وهل يعني ذلك إفلاسا وانهيارا كاملا للحكومة السورية. وكيف سيؤثر هذا القرار على سعر الصرف في السوق السوداء وعلى السوريين والاقتصاد والحكومة والجيش ككل.

بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك تساؤلات أخرى حول ما إذا كان هذا القرار مرتبطا بإحجام إيران وروسيا عن دعم دمشق بسبب انشغالهما بأزماتهما الداخلية، أو هو عامل ضغط جديد على الحكومة السورية للتصالح مع تركيا. ثم ما هي إمكانية أو احتمالية معالجة هذا الوضع الاقتصادي الذي يُعد بمثابة مشكلة بنيوية وهيكلية تطال المؤسسات وأجهزة الحكومة، مع الأخذ في الحسبان أن استدارة الحكومة للاستحواذ على السوق السوداء ربما سيفاقم من واقع شبكات الفساد في سوريا.

قرار متأخر!

“مصرف سوريا المركزي”، قال يوم الخميس الفائت، عبر بيان رسمي إنه قرر خفض سعر الليرة أمام الدولار إلى 6650 بعدما كانت 4522، أي بنسبة 47 بالمئة. ويعتبر هذا هو الخفض الثاني لسعر الليرة السورية مقابل الدولار من قبل “المصرف المركزي” منذ مطلع العام الحالي 2023.

كان “المركزي” قد أعلن في 2 كانون الثاني/يناير الماضي أنه خفّض سعر صرف الليرة الرسمي مقابل الدولار إلى 4522. بعد أن كان السعر الرسمي لليرة في السابق 3015 ليرة للدولار الواحد. ويبلغ سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية في السوق السوداء والمستخدم في معظم الأنشطة الاقتصادية نحو 6750 ليرة.

هذا وبينت الأرقام الصادرة عن “المصرف المركزي” رفع سعر شراء الدولار لتسليم الحوالات الشخصية الواردة من الخارج بالليرات السورية إلى 6650 ليرة سورية بدلا من 4500 ليرة مقابل الدولار الواحد. وبحسب قرار “المركزي”، يحقق هذا القرار ميزات مهمة إضافةً إلى تعديل سعر الحوالات والتصريف، وتسهيل عمليات التصريف المباشر لدى المصارف، ورفع سعر تصريف الحوالات الواردة عبر شبكات التحويل العالمية كـ”الوسترن يونيون”.

مدير العمليات المصرفية في “مصرف سوريا المركزي”، فؤاد علي، قال إن القرار سيسمح للمواطنين الراغبين في استلام الحوالات الخارجية وتصريف المبالغ النقدية “كاش” باختيار أي مصرف أو بنك خاص مرخّص له التعامل بالقطع الأجنبي، وفق نشرة الأسعار التي سيصدرها “المصرف المركزي” بشكل يومي وهي قابلة للتغيير بحسب المعطيات.

الباحث الاقتصادي والدكتور في العلوم المالية والمصرفية، فراس شعبو، يقول إن هذا القرار جاء متأخرا في الحقيقة، ذلك لأن أسعار الصرف الرسمية دائما ما تكون مماثلة للأسواق الموازية، وذلك لجذب العملة الصعبة أو العكس، العملية المحلية، وبالطبع هذا في حال حدوث خلل وأزمة ما، لا سيما في سوريا، يوجد اليوم خلل كبير، وهناك عدة أسعار صرف للعملات، وهذا أمر غير طبيعي أو منطقي على الإطلاق.

قد يهمك: دخول إيران على مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق.. هدم للشراكة الروسية التركية؟

بحسب تقدير شعبو، الذي تحدث لموقع “الحل نت”، فإن “المصرف المركزي السوري يساهم في خلق هذا الخلل بالذات. فعلى سبيل المثال، يخصص سعر صرف خاص لكل من مؤسسات “الأمم المتحدة” وشركات التحويلات وشركات التأمين وشركات الصرافة والبنوك وعمليات الاستيراد. وهذا دليل واضح على ارتباك الحكومة وعدم صحة الإجراءات التي تتخذها”.

شعبو يقول، الحكومة السورية أثناء إصدارها هذا القرار اليوم، تكون قد شعرت أو عانت بشكل كبير من الأزمة الاقتصادية الدائرة في البلاد، بعد توقف وسائل الدعم، سواء كانت مالية أو على شكل سلع وخدمات، من قبل الدول الصديقة لدمشق، مثل روسيا وإيران، وبالتالي كان من الضروري اتخاذ هكذا خطوة.

على سبيل المثال، وفق شعبو، فإن التجار الذين يريدون بيع البضائع بمبالغ كبيرة خارج سوريا، بالتأكيد لن يتعاملوا من خلال مؤسسات الحكومة السورية، لأن سعر الصرف المركزي أقل بكثير من السوق السوداء، وبالتالي اعتبرت دمشق أنه بات من الضروري أن تساوي وتقارب سعر الصرف المركزي بالسوق السوداء لتحسين خزينتها بالعملة الصعبة من جهة، وتسهيل حركة التجار والصناعيين الاقتصاديين والحد من نشاط السوق السوداء من جهة أخرى، وذلك كله وفق مصالحها بطبيعة الحال.

الخبير الاقتصادي، كرم شعّار، يتفق مع الرأي ذاته، حيث قال تعقيبا على هذا القرار عبر صفحته الشخصية على منصة “الفيسبوك”، إنه منذ شهرين وحتى اليوم أصدرت دمشق عدة قوانين تعكس تسارعا واضحا في السياسة التحررية الاقتصادية، وبشكل عام، هذه السياسات من شأنها تحسين وضع “مصرف سوريا المركزي” ماليا وزيادة الثقة في قراراته، وتسهيل التعاملات الاقتصادية بشكل عام. ومن جانب آخر، رأى شعّار أن جزءا كبيرا من التعديلات المطلوبة، وصل متأخرا، ويعكس هذا وجود أشخاص أكثر كفاءة في التخطيط الاقتصادي.

هذا القرار أشبه بالتنفيس للحكومة السورية أكثر من أي أمر آخر، والقدرة على الانخراط في عجلة الحياة والاقتصاد إلى حد ما، ولا يمكن اعتباره نتيجة ضغوط للتّقارب والمصالحة مع تركيا.

فهذه المصالحة ليست الحل السحري للأزمة السورية ككل وللأزمة الاقتصادية بشكل خاص، لاسيما وأن هناك رفضا غربيا كاملا لهذا التقارب، إلى جانب الانعكاسات السلبية المحتملة على إثره، وخصوصا في الجانب الاقتصادي.

اعتراف رسمي بالعجز؟

مدير العمليات المصرفية في “مصرف سوريا المركزي”، أضاف لوسائل الإعلام المحلية، أن المصرف قرر تحرير سقف السحب والتصريف بشكل كامل للمواطنين بعد أن كان سقف السحب 15 مليون ليرة، وضرب مثلا على ذلك قائلا “ممكن إذا صرّف الشخص بقيمة 10 ملايين دولار يمكن سحب قيمتها بالليرة السورية”.

أما بالنسبة لمساءلة المواطنين الراغبين بتصريف القطع الأجنبي لكون حكومة دمشق تجرم التعامل بغير الليرة السورية، قال علي إن قرار المصرف المركزي ومجلس النقد اللذين يعدان أعلى سلطة نقدية في البلاد واضح فلن يكون هنالك أي مساءلة مهما كان المبلغ.

بالعودة للباحث الاقتصادي فراس شعبو، يعتبر هذا القرار اعترافا رسميا إلى حد ما ولأول مرة من قبل الحكومة السورية بسعر الصرف في السوق السوداء، وهذا يشير إلى مدى تدهور الليرة السورية مقابل النقد الأجنبي، وبالتالي هذا يعني أن الأسعار سترتفع أكثر، ما ينعكس سلبا على مجمل مفاصل الحياة المعيشية للسوريين، على اعتبار أن الرواتب بالليرة السورية وتفقد قيمتها يوما بعد يوم، وثابتة دون ارتفاع.

يبدو أن المشكلة الرئيسية تكمن في الجزء المتعلق بتحرير الأسعار على وجه الخصوص وهو أنه يساعد الصناعيين والتجار، ومن ورائهم رجال الدولة فقط، وكله على حساب السوريين، ومن الضروري عدم تطبيقه بهذه الطريقة المجحفة، دون تقديم الدعم الاجتماعي للمحتاجين أو رفع الحد الأدنى للأجور.

باختصار، حسب تقدير شعبو، فإن هذا القرار هو بداية تعويم الليرة السورية، أو كما يطلق عليه علميا “التعويم المدار”، يعني أن الليرة مدارة من قبل الدولة، وشعبو يتفق مع هذا القرار، ذلك لأن تحرير سعر الصرف يؤمن أريحية في التعامل معه من جميع الفئات وخاصة التجار وغيرهم. وأيضا التوقف عند سعر شبه ثابت، والمساهمة في وقف عمليات المضاربة التي تقوم بها مجموعة من التجار المرتبطين بشكل غير مباشر بالسلطة الحاكمة في دمشق أصلا.

قد يهمك: بين شروط الأسد ورفض واشنطن.. أنقرة الحلقة الأضعف في التطبيع مع دمشق؟

هذا القرار، لا شك أنه سيؤثر ويضر بحال ووضع السوريين، بسبب احتمالية ارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع المعيشية أكثر فأكثر، لا سيما وأن مستوى الرواتب والمداخيل متدنية، إضافة إلى ضعف قدرة دمشق على الضبط، إذ بالكاد تستطيع تأمين جزء صغير جدا من الخدمات العامة، مثل الكهرباء والماء والمواد الغذائية والوقود وحتى التعليم والصحة وغيرها من القطاعات واقعهم سيء جدا، وبالتالي فإن الوضع السوري ككل يتجه نحو الأسوأ، وهذا يؤثر سلبا ليس فقط على المدنيين السوريين، بل على عناصر الجيش السوري، لأن الحكومة بالكاد تستطيع توفير القليل من المأكل والمشرب لهم، وفق تقدير شعبو.

في عام 2020، صدر عن الرئيس السوري بشار الأسد، المرسومان رقم 3 و4 القاضيان بتشديد العقوبات على المتعاملين بغير الليرة السورية، بالتزامن مع ارتفاع نشاط دوريات الأمن الجنائي التي اعتقلت عددا كبيرا من الأفراد وأغلقت شركات صرافة بتهمة التعامل بالعملات الأجنبية.

الأزمات البنيوية

في سياق المشاكل الهيكلية والبنيوية للاقتصاد السوري، فإن تدهور الليرة أمام النقد الأجنبي يُعد من إحدى مشاكل اقتصاد البلاد المتدهور، وفق رأي شعبو، وهناك العديد من المشاكل التي ساهمت وما زالت تتسبب في الأزمة الاقتصادية الحادة؛ سواء مشاكل الفساد أو سيطرة فئات معينة على مفاصل الاقتصاد، إلى جانب خروج قطاعات معينة من خزينة الدولة حتى عام 2011، بالإضافة إلى عدم وجود رؤى اقتصادية أو سياسات نقدية حتى، و”وزارة المالية السورية” أشبه بالجباية وليست بوزارة لتنشيط الاقتصاد أو دعم عمليات التشغيل، بمعنى أن المؤسسات المالية السورية بشكل عام بعيدة جدا عن شيء يسمى الاقتصاد وكيفية تطويره وتنميته، وهذه مشكلة بحد ذاتها.

من جهة أخرى، إذا ما كان قرار تخفيض سعر الصرف سيفاقم من واقع شبكات الفساد في سوريا، فإن هذا ممكن بطبيعة الحال، وفق وجهة نظر شعبو، على اعتبار أن الفساد والمحسوبية وجميع الأعمال غير القانونية مستشرية في هذا البلد حتى النخاع، أي أن القضاء على الفساد يعني القضاء على السلطة الحاكمة في دمشق. لأن وجود الأخيرة مرتبط حتما بالفساد.

شعبو يعتبر أن هذا القرار هو بمثابة قيام الحكومة بإجراء إصلاحي ليقول للشعب السوري المحتقن والذي لم يعد قادرا على تحمل كل هذه الظروف الاقتصادية البائسة أنه يقوم بتحسين واقع وضع البلاد الاقتصادية، وبالتالي قام بتغيير بعض المسؤولين في الحكومة، وبعث الأمل بأن الوضع في المستقبل سيتحسن وأن بوادر التغيير والإصلاح قادم، ولكن للأسف هذا ليس سوى إجراء لامتصاص يأس الشارع وغضبه، أي أنه طالما رأس السلطة هو نفسه ولم يتغير، فمهما تغير أعداد المسؤولين في الوزارات والمؤسسات الأخرى، لن يجدي نفعا أو حلحلة في الوضع السوري المأزوم.

على الرغم من أن هذا القرار الذي يعد جيدا نوعا ما، ولكنه طالما لا ينصب في مصلحة المستهلكين، وطالما أن رواتب ومداخيل السوريين ثابت على حالها، لا سيما رواتب العاملين في القطاع العام، فإن معدل التضخم في البلاد سيرتفع إلى مستويات أعلى.

بالتالي سترتفع نسب البطالة والذين يرغبون بالهجرة وترك أعمالهم ووظائفهم. ومهما صدر قرارات من قبل هياكل السلطة الحاكمة في دمشق، والتي لن يكون لها فوائد على عامة السوريين، بجانب عدم وجود حل سياسي شامل لجميع السوريين، فإن الوضع سيبقى على ما هو عليه، وستبقى سوريا في هذا الدرك المظلم إلى أجل غير مسمى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.