الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال وشمال غربي سوريا، فجر يوم الإثنين الفائت، يُعد من أقوى الزلازل منذ عقود، حيث بلغت قوته 7.8 درجة على مقياس ريختر، ووصل عدد الضحايا لأكثر من 16,400 قتيل حتى الآن والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير بالنظر إلى أن المئات، إن لم يكن الآلاف، ما زالوا تحت الأنقاض، وسط استمرار عمليات البحث من قِبل فرق الإنقاذ.

الزلزال وفق الخبراء يمثّل كارثة إنسانية مروعة، فبغض النظر عن العدد الكبير من الضحايا، فإن مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، أصبحوا الآن بلا مأوى في الشتاء البارد والممطر. بالإضافة إلى ذلك، يأتي هذا الزلزال في وقت حساس ومهم للغاية، فهو اختبار سياسي واضح لحكومة “حزب العدالة والتنمية” التركي، وهي حكومة ستقيس فعاليتها وشرعيتها قبل أشهر فقط من الانتخابات الحاسمة المقررة إجراؤها في أيار/مايو المقبل.

منذ وقوع الزلزال، تصاعد الغضب والانتقادات في الشارع التركي بشأن ما يُعتقد أنه فشل حكومي في الاستعداد بعد مقتل الآلاف في الزلزال. كما أقرّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بوجود ثغرات في الاستجابة للزلزال الذي ضرب بلاده، مستنكرا في الوقت ذاته الانتقادات المضللة. في موازاة ذلك، تتصاعد حالة غضب سياسية متزايدة، فضلا عن اتهام الحكومة بالتراخي الشديد في استجابتها للزلزال، وعدم استعدادها بشكل كافٍ في دولة معرضة للزلازل، واستنادا إلى تلك الانتقادات، قال كمال كيليجدار أوغلو، زعيم حزب المعارضة الرئيسي في تركيا “إذا كان هناك شخص واحد فقط مسؤول عن هذا، فهو أردوغان”.

لذلك، فإن الأسئلة الأكثر إلحاحا هنا هي ما إذا كانت الانتخابات البرلمانية والرئاسية ستُجرى في موعدها المقرر في 14 أيار/مايو أولا، ثم كيف سيؤثر الزلزال على الوضع السياسي في تركيا، وكيف ستكون الإدارة السياسية لأزمة الزلزال، وهل ستصب في مصلحة “حزب العدالة والتنمية” وحظوظ أردوغان بما يعزز مكاسبه الانتخابية، وأخيرا تداعيات هذا الزلزال على الوضع الاقتصادي ومن ثم تداعياته السياسية.

تغيير الخارطة السياسية؟

الزلزال الذي ضرب تركيا ليس الأول ولا الأقوى، إذ سبقه زلزالان كبيران أولهما عام 1939 وأسفر عن مقتل 30 ألفا، وآخر عام 1999 وأسفر عن مقتل 17 ألفا، وعلى الرغم من أن الزلازل تُعدّ ظواهر طبيعية، ولا تُسأل الحكومات عن سبب وقوعها، لكنها تُسأل عن طرق التعامل معها، وتخفيف تداعياتها.

هذا وقد كان زلزال تركيا نفسها عام 1999 أحد أسباب تغيير الخارطة السياسية في البلاد بعدها بعامين، بسبب شكاوى الأتراك من تقصير السلطات الرسمية في مواجهة آثاره وأظهرت فشل الحكومة في تطوير استراتيجية وطنية للتعامل مع الزلازل على المستوى الوطني، وفتح ذلك الباب لولادة “حزب العدالة والتنمية” الذي نافس في الانتخابات البرلمانية عام 2002 وحاز على 34 بالمئة من مقاعد البرلمان ليشكل الحكومة الـ 58 في الجمهورية التركية منفردا برئاسة عبد الله غول، وليستمر في تشكيل الحكومات التالية حتى الآن، وفق تحليل للعديد من المواقع الصحفية.

التبعات السياسية بعد الكوارث الطبيعية القوية تكون متباينة وكلّا حسب طبيعة الدولة، ففي حين توضح دراسة أجرتها جامعة “أوبسالا” السويدية أن الثقة السياسية في الحكومة لدى المواطنين لا تتأثر بشكل عام، إلا أن السياق السياسي لهذه الكوارث يتيح استغلالها بشكل استراتيجي من قبل الجهات الفاعلة لشن مزيد من الانتقادات ضد الحكومة في المواقف المتوترة سياسيا، وهو ما ينطبق إلى حدّ كبير على الحالة التركية المقبِلة على انتخابات عامة، وتشير يفغينيا جابر الباحثة في مركز “الدراسات التركية الحديثة” في جامعة “كارلتون” إلى أن التلاعب السياسي بالمأساة محتمل بدرجة كبيرة، وهناك خطر من العواقب المدمرة للزلزال قبل أشهر فقط من الانتخابات الحاسمة التي يُنتظر أن تشهد قدرا من المزايدات السياسية والإعلامية في الداخل والخارج، وفق ما نقله موقع “إندبندنت”.

قد يهمك: العقوبات والحملة الممنهجة.. مخاوف من استغلال دمشق للزلزال سياسيا؟

الصحافي في “إندبندنت” البريطانية بورزو دراغاهي، يقول إن تركيا التي شهدت زلزالا مأسويا عام 1999 خلف 17 ألف قتيل، وضعت قواعد بناء جديدة وطبقت أكوادا إلزامية لتأمين كلّ المباني من التأثر بالزلازل القوية، ومع ذلك حذر المهندسون المعماريون والمخططون الحضريون لسنوات عدة من أن القواعد لا يتم اتباعها بدقة كافية، مما قد يكون سببا لمزيد من التدقيق العام حول هذه القضية قبل الانتخابات التركية المقررة في أيار/مايو المقبل.

أردوغان من جهته يدرك تماما أن حظوظه الانتخابية مرتبطة بهذا الزلزال المباغت، ولهذا فهو سارع بحكم مسؤوليته إلى الالتحام بالحدث منذ اللحظات الأولى، معلنا بنفسه وسط فرق الإنقاذ حجم الأضرار التي وقعت، وسارع وزراؤه بدورهم أيضا إلى المناطق المنكوبة ليكونوا وسط المتضررين مباشرة. لكن المعارضة والشارع التركي بشكل كبير انتقدوا الحكومة التركية بشكل حاد واتهموها بعدم القيام بمسؤولياتها على أكمل وجه، وعلى إثر هذه الانتقادات المتزايدة التي طالت رد الحكومة التركية على الزلزال تعذّر الدخول إلى منصة “تويتر” عبر مزوّدي خدمات الهاتف المحمول الرئيسيين في تركيا يوم الأربعاء الماضي.

الأكاديمي والباحث السياسي في الشأن التركي، الدكتور مهند حافظ أوغلو، يستبعد حدوث تداعيات سياسية على خلفية الزلزال موضحا أن “المصاب كبير وحساس ولا يمكن للمعارضة أو الحكومة أن يكون تركيزها إلا على الأزمة الإنسانية التي تعتبر الأول من نوعها في تركيا”.

بالرغم من الآراء التي تحاول بعث حالة استقطاب سياسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتي يصفها حافظ أوغلو لموقع “الحل نت” بأنها “اصطياد في الماء العكر” إلا أن المعارضة تصطف لجهة رفع الضرر  وإنهاء آثار الأزمة على كافة المستويات.

المراقبون يقولون أن بقاء موعد الانتخابات على حاله يعتمد على عاملين؛ الأول ما إذا كانت الظروف المادية للانتخابات موجودة في أقرب وقت، وما إذا كان أردوغان سيقرر أنه في مصلحته إطالة أمد الدولة. حيث تم الإعلان عن حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر بعد الزلزال.

طبقا للمادة 119 من الدستور التركي، يمكن إعلان حالة الطوارئ عند حدوث كارثة طبيعية أو أزمة اقتصادية قوية أو لدى انتشار حالات عنف ووقوع اضطرابات خطيرة في النظام العام.

كذلك، يعتقد بعض المراقبين أن خطاب أردوغان بعد ساعات فقط من الزلزال، وأنه حشد الآلاف من عمال الإنقاذ الذين لن يدخروا جهدا رغم قسوة ظروف الشتاء، بالإضافة إلى طلب المساعدة الدولية، يمكن أن تساعد فرصه في الانتخابات المقبلة. وقالت مجموعة “أوراسيا الاستشارية” إن “تعامل أردوغان بسرعة وثبات مع الأزمة، من المرجح أن يؤدي إلى تلميع صورته كزعيم قوي قبل الانتخابات، إذا تمكنت الحكومة من مواصلة جهودها الفاعلة التي بدأتها مبكرا”. لكن كل هذا يبقى في طور الكلام النظري فقط، فالاستجابة الحقيقية تكّمن فيما بعد، من حيث احتواء الأزمة والقدرة على إجابات وانتقادات الشارع التركي المحتقن ضد الحكومة التركية في الوقت الراهن.

التبعات الاقتصادية

في المقابل، من المرجح أن تصل تكاليف إعادة الإعمار إلى عدة مليارات من الدولارات، مما يجهد الاقتصاد الذي يعاني بالفعل من تضخم بلغ 58 بالمئة في تركيا. ويقول خبراء اقتصاديون من المتوقع أن يحد الاضطراب في المنطقة التي يسكنها 13 مليون نسمة، من النمو هذا العام.

من وجهة نظر أتيلا يسيلادا، من “غلوبال سورس بارتنرز”، فإن حجم الضرر الذي وقع على امتداد مئات الكيلومترات وتأثر به ملايين الناس ومنازلهم، من شأنه أن يغير تماما صورة الاقتصاد والسياسة في تركيا. واستخدم مصطلح “البجعة السوداء” في الإشارة إلى الزلزال الذي بلغت قوته 7.8 درجة، وهي نظرية تشير إلى الأحداث غير الواردة في الحسبان ويمكن أن يترتب عليها عواقب وخيمة. وقال إنه لم يتضح بعد ما إذا كان يمكن إجراء الانتخابات في المناطق الأشد تضررا من جراء الزلزال.

بالعودة للباحث السياسي، حافظ أوغلو، يعتقد أن العبء الاقتصادي كبير بطبيعة الحال، ذلك لأن المتضررين يُقدّرون بمئات الآلاف، ووفق وجهة نظر حافظ أوغلو، فإن المواطن يعرف جيدا أن ما حدث يفوق قدرات أي دولة مهما كان حجمها. وعليه التداعيات السياسية ليست مجدولة في هذه المرحلة على الإطلاق لا لدى الحكومة ولا لدى المعارضة، فضلا عن الشعب.

تململ وفساد حكومي؟

الباحثة في معهد “بروكينغز” في واشنطن أسلي أيدنتاسباس، في مقال رأي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” مؤخرا، تقول إنه مع تلاشي حلم تركيا الأوروبي، تآكل اهتمام الحكومة بالتزام معايير السلامة الأوروبية، وبعد ما يقرب من عقدين من الزلزال الهائل عام 1999 أقرت تركيا عام 2018 تشريعات في شأن الزلازل طال انتظارها، لكن تلك القواعد لم تحترم بدرجة كافية، في الوقت الذي وصف فيه أردوغان صناعة البناء بأنها جوهرة تاج الاقتصاد، مما شجع على الافتقار الضمني إلى الرقابة، بينما تميل العقود العامة الكبيرة في تركيا إلى الذهاب إلى المقربين أنفسهم من الحكومة، ولهذا تعتقد أيدنتاسباس أنه من حق الشعب التركي المطالبة بإجراء تحقيق شامل في هذا السؤال على وجه التحديد.

قد يهمك: تتربع على 3 خطوط.. لماذا تعتبر تركيا بؤرة جاذبة للزلازل؟

تقرير لـ”معهد الشرق الأوسط” يقول أنه لم تتضح هذه الكفاءة كثيرا في الساعات الأولى منذ الزلزال. فقد انهارت آلاف المباني، مما أدى إلى كشف أعمال البناء المتدلية التي ميزت طفرة البناء في تركيا واستهزاء بـ “مقاومة الزلازل” واللوائح التي كان من المفترض أن توجه المباني التركية الجديدة. ويبدو أن “ضرائب الزلزال” الخاصة قد اختلست؛ بالتأكيد، ليس لدى الحكومة الكثير لتظهره لهم. وأن الفساد أدى، وخاصة العلاقات الحميمة بين الحكومة وشركات البناء الصديقة، إلى تجاهل هذه اللوائح إلى حد كبير.

مع تضرر البنية التحتية الأساسية بشدة، يبدو أن فشل أردوغان في تعبئة الجيش بالكامل للمساعدة في ضمان توزيع الطعام والملابس على الناجين أمر لا يمكن فهمه. حيث اشتكى الجنرالات المتقاعدون علنا من أن الحكومة أوقفت السماح للقوات بالتدريب على الاستجابة للكوارث وأن وكالة الاستجابة للطوارئ التابعة للحكومة، والتي تديرها “وزارة الداخلية التركية”. ففي حين يحتد وسائل التواصل الاجتماعي بانتقادات ودعوات يائسة للمساعدة، يتساءل المواطنون الأتراك بطبيعة الحال عن سبب عدم تفعيل القوة الكاملة للدولة التي تم التباهي بها كثيرا.

بالتالي لا يمكن التراجع عن الإخفاقات في تنظيم البناء على مدى العقدين الماضيين. ومن الواضح أن الفشل في تعبئة الجيش على الفور لإعادة بناء البنية التحتية قد يكلف وقتا ثمينا والعديد من الأرواح. ومع ذلك، فإن إظهار الكفاءة والشفافية في الأسابيع والأشهر المقبلة يمكن أن يفعل الكثير للتخلص من الغضب تجاه تلك الإخفاقات. الأزمة التي تواجه تركيا حاليا كبيرة، ويعيقها تعطل البنية التحتية والطقس الشتوي البارد.

من المتوقع وفق الخبراء، أن تصبح مسألة تداعيات الزلزال أحد البنود الجديدة على رأس أجندة الحملات الانتخابية التركية، حيث ستسارع الحكومة إلى إنقاذ ملايين المنازل التي تقع في دائرة الخطر، والتي تشير تقديرات رسمية أنها بحدود 20 مليون منزل، بعضها يتطلب تغييرا عاجلا، مع معالجة الآثار الناجمة عن الزلزال الحالي والزلازل السابقة، وستبحث المعارضة عن الثغرات وأوجه القصور والإخفاقات قدر الإمكان ضد “حزب العدالة والتنمية” الحاكم في أنقرة.

لذلك، يجب على الحكومة التركية أن ترقى إلى مستوى التحدي، من أجل مواطنيها، وربما لضمان مستقبلها السياسي. وأردوغان يدرك ذلك تماما، ولكن هل هو بالفعل قادر على احتواء هذه الأزمة الهائلة بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية وتجاوز أو القفز فوق كل الانتقادات التي طالت وستطال في الفترات المقبلة حزبه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.