فيما تتواصل عمليات الإنقاذ لليوم الثامن في مختلف المناطق المتضررة في تركيا وسوريا، لا تزال عمليات انتشال ناجين من تحت الأنقاض مستمرة، على خلفية الزلزال المدمّر الذي وقع في 6 شباط/فبراير الجاري، وبلغت قوته 7.8 درجة على مقياس ريختر، وكان مركزه جنوب تركيا وامتد أثره إلى سوريا أيضا، نظرا لقرب مركزه من الحدود السورية التركية. ويعتبر هذا الزلزال من أقوى الزلازل في تاريخ تركيا وسوريا. وراح ضحيته ما يقرب من 37 ألف قتيل حتى اللحظة وآلاف الجرحى، وخلّف أضرارا مادية جسيمة في كِلا البلدين، بالإضافة إلى الانشغال الكبير للحكومات والسلطات المحلية بهذه الكارثة ، ولولا المساعدات الدولية، لكان الوضع أكثر مأساوية مما هو عليه.

عادة خلال الأزمات والنزاعات والكوارث تنشط الخلايا الإرهابية، إذ إن هذه الظروف تشكل بيئة خصبة لانبعاث أنشطتهم، حيث يستغلون الثغرات الأمنية وضعف الناس، بجانب إطلاق الخطابات وتوجيه رسائل لاستقطاب الفئات المجتمعية. ومن ثم يقومون بتنفيذ أنشطتهم في المناطق الرخوة أمنيا، بغية تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب.

لعل الزلزال الكارثي الذي امتد إلى سوريا قبل أيام، وأودى بحياة الآلاف، ودمر أحياء ومباني بأكملها، قد شغل السلطات الأمنية وحتى الأهالي بهذه الكارثة وآثارها المدمّرة إلى حد كبير. وهذا الزلزال الذي ضرب مناطق واسعة في سوريا، تقع أجزاء منها في مناطق بمحافظات حلب واللاذقية وحماة الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، وأجزاء أخرى في مناطق شمال غربي سوريا الخاضعة لسيطرة فصائل “الجيش الوطني” المدعومة من تركيا.

اللافت للنظر أنه رغم هذه المأساة قام تنظيم “داعش” الإرهابي بهجوم مباغت في منطقة تدمر بريف حمص الشرقي، قبل نحو ثلاثة أيام، واستهدف نحو 75 شخصا، وأدى إلى مقتل 10 مدنيين، إضافة إلى عنصر من قوات الحكومة السورية، فيما لا يزال الآخرون في عداد المفقودين، حسبما أعلن “المرصد السوري لحقوق الإنسان“.

كذلك، يوم وقوع الزلزال في 6 شباط/فبراير الجاري، نفّذ نزلاء سجن في شمال غربي سوريا عصيانا، وتمكّن 20 منهم على الأقل من الفرار من المنشأة التي تضم سجناء غالبيتهم أعضاء في تنظيم “داعش”، وفق ما أفاد مصدر في السجن لـ”فرانس برس”.

هذا الأمر يفتح الباب أمام عدة تساؤلات حول كيف يمكن أن يوظف تنظيم “داعش” أحداث وتداعيات الزلزال لانبعاثات تكتيكية، وبالعادة يعمد التنظيم الإرهابي إلى الاعتماد في تنفيذ تحركاته وأنشطته الإرهابية بعد فترة اختباء في المناطق الرخوة أمنيا، فكيف يمكن للتنظيم أن يستغل هذه الشروط لإحداث ضربته الجديدة، والمناطق المستهدفة والمتوقعة.

“فقه استغلال الأزمات”

في خضم كارثة الزلزال، هاجم تنظيم “داعش” نحو 75 شخصا، يوم السبت الماضي، بينما كانوا يعملون في جمع الكمأة قرب تروازية حجيل بمنطقة آبار مرير شرق المحطة الثالثة في تدمر بريف حمص الشرقي، ما أدى إلى مقتل 10 مدنيين منهم بينهم امرأة، إضافة إلى عنصر من قوات حكومة دمشق.

كذلك، نفذ نزلاء سجن في شمال غرب سوريا، يوم وقوع الزلزال، عصيانا بعد الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة، مما تمكن العديد من الفرار من السجن، ويحتجز السجن في بلدة راجو قرب الحدود التركية نحو ألفي سجين، قرابة 1300 منهم يشتبه بانتمائهم لتنظيم “داعش”.

هذا وتأتي حادثة راجو في أعقاب هجوم لتنظيم “داعش” في كانون الأول/ديسمبر الماضي، حيث تم استهدف مجمع أمني في الرقة، بهدف تحرير رفاقهم المتطرفين من سجن هناك. وأدى الهجوم الفاشل آنذاك إلى مقتل 6 من أفراد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، والتي تسيطر على المنطقة.

الباحث المتخصص في قضايا الأمن الإقليمي، محمد فوزي، يقول إنه من المعروف عن تنظيم “داعش” أن نهجه الحركي يقوم على ما يُعرف بـ “فقه استغلال الأزمات”، بمعنى الاستثمار في أي أزمات تشهدها الدول التي ينشط فيها، من أجل تعزيز نهجه العملياتي الإرهابي، فالتنظيم بالأساس نشأ من واقع استغلال أزمات بنيوية عميقة كانت تعاني منها دول العراق وسوريا “دول المنشأ”، حيث استغل حالة الاضطراب السياسي والاحتقان الطائفي والمذهبي وغياب الدولة الوطنية في مرحلة ما بعد 2011.

قد يهمك: التقارب التركي السوري.. كيف يوظفه “داعش” لاستهداف مصادر الطاقة؟

مؤخرا ووفق تقدير فوزي لموقع “الحل نت”، حرص التنظيم على استغلال أزمات عديدة لنفس السبب، ومن بينها جائحة “كورونا”، والحرب الأوكرانية وما ترتّب عليها من تأثيرات على جهود مكافحة الإرهاب الدولية، وصولا إلى الزلزال المدمّر الذي ضرب الأراضي السورية، إذ يدرك التنظيم أن الدولة السورية نفسها والمجتمع الدولي والدول الفاعلة في المشهد السوري، منشغلة حاليا بقضية الزلزال، وهو ما يمثّل فرصة مواتية له لشن عمليات نوعية كتلك التي جرت في ريف حمص الشرقي.

استراتيجيات “داعش”

بعض التحليلات الصحفية تقول إن ومنذ وقوع الزلزال، بدأ تنظيم “داعش” من خلال منصاته لا سيما عبر قناته على منصة “تلغرام” في استغلال الحدث، وذلك عبر إرسال وتوجيه رسائل بأن شدة الكارثة كانت نتيجة تعاون المواطنين مع القوات المحلية والدولية لردع التنظيم، وأن ما حدث هو “عقاب إلهي” لهم.

كما لم يوفر التنظيم فرصة لدعوة المواطنين في مناطق وقوع الزلزال للانتقال إلى مناطق تواجده والانضمام إليه، وذلك عبر رسائل إغرائية بأن مناطق البادية السورية خالية من أضرار الزلزال وعواقبه، وأنه أفضل مكان آمن.

في سياق متّصل، تتعدد أوجه مساعي التنظيم لاستغلال الزلزال الذي ضرب الأراضي السورية، فمن جانب سعى التنظيم إلى تفعيل استراتيجية “كسر الأسوار” وهي الاستراتيجية التي تنشط بين الحين والآخر، وتستهدف إطلاق سراح بعض عناصره الموجودة في السجون، ومن جانب آخر يسعى التنظيم إلى تنفيذ عمليات يغلب عليها طابع “التنكيل” اعتقادا منه أن هذه العمليات تزيد من وطأة الضغوط على خصومه في سوريا، وتعزز من تموضعه، وفق تقدير فوزي.

بالتالي، فعمليات التنظيم قد تأخذ الشكل التقليدي متمثلا في عمليات القتل، وقد تأخذ شكل عمليات الاختطاف التي يستغلها لتحقيق مكاسب سياسية أو مالية، فضلا عن سعي التنظيم لاستغلال الحادث من أجل الترويج لسرديات متطرفة يتبناها، فمع وقول الزلزال بدأت المنصات الإعلامية التابعة للتنظيم تروّج بأن النتائج الكارثية للحادث “كانت عقابا إلهيا للمواطنين لتعاونهم ضد التنظيم، وعقاب لهم على هجرتهم من مناطق الخلافة”، وفق تعبيره.

مناطق الاستهداف

على الرغم من الضربات التي تستهدف تنظيم “داعش” الإرهابي سواء قادته أو تحركاته أو مواقعه، إلا أن هذا التنظيم لا يزال قادرا على شنّ هجمات وتنفيذ اعتداءات متفرقة، خاصة في أوقات الأزمات والظروف الصعبة، لا سيما في المناطق الحساسة.

أحد التقارير أشار إلى أن الهجمات التي ركز عليها عناصر التنظيم المتطرف بالتوازي مع تطورات سياسية ولوجستية متسارعة كالتقارب التركي السوري من جهة، وما تعيشه دمشق من ضائقة بالحصول على مصادر الطاقة من جهة ثانية، إلى أن التنظيم “كأنه أراد القول من خلال هذا الاستهداف إننا ما زلنا في ساحة الميدان”، وأن التنظيم كورقة لا يمكن اجتثاثها بسهولة، وهي رسالة للأطراف الدولية جميعها. والآن بعد كارثة الزلزال، فإنه من المرجح أن يزداد نشاط “داعش” أكثر، ولا سيما في المناطق الرخوة أمنيا، والتي بها مشاكل جمّة، سواء سياسية أو قَبلية أو حتى اقتصادية.

الملاحظ أن ضحايا الزلزال الذي ضرب سوريا، كان أكثرهم من مناطق  شمال غربي سوريا وخصوصا مناطق إدلب وريف حلب، وهي مناطق تموضع معظم تنظيمات العنف والإرهاب الفاعلة في سوريا، سواءً “القاعدة” أو “هيئة تحرير الشام”، أو “داعش”، وفي الوقت الذي غلب فيه الهدوء النسبي على تعامل “القاعدة” مع الحادث، والانخراط في عمليات الإنقاذ في حالة “هيئة تحرير الشام”، سعى التنظيم لاستغلال حالة الخفوت التي طغت على أنشطة هذه التنظيمات، وراح يستأنف عملياته، وفق وجهة نظر الباحث المتخصص في قضايا الأمن الإقليمي.

في اعتقاد فوزي، فإن المناطق المنكوبة في سوريا قد تكون بؤرة نشاط كبيرة في الأيام المقبلة بالنسبة لتنظيم “داعش”، من منطلق أن الأوضاع في هذه المناطق مواتية لنشاط التنظيم، فضلا عن مناطق البادية السورية الممتدة بين محافظات حمص وسط سوريا ودير الزور شرق البلاد قرب الحدود مع العراق، وهي المناطق التي يتمركز فيها معظم مقاتلي التنظيم في سوريا.

قد يهمك: “داعش” والقنبلة الموقوتة التي تواجه العالم.. الدوافع والاحتمالات؟

بالتالي، فإن العديد من المناطق الحساسة لا سيما مصادر الطاقة لن تكون بمنأى عن ضربات التنظيم المتشدد، بل هي ضمن أولوياته ربما. وغير مستبعد أن يكون هناك تصعيد متنامي للتنظيم ومحاولة للضغط أكثر، باتجاه كل الأطراف التي تتشاطر مناطق نفوذ البادية، خاصة وأن قادة التنظيم لن يجدوا سوى مواقع النفط لتحقيق ضربات موجعة، حيث تم استهداف مصادر الطاقة وأماكنها أولا، عندما صعد وظهر “داعش” بشكل فعلي في عام 2014، لذلك يجب على “التحالف الدولي” بقيادة واشنطن أن يركز على ملف محاربة التنظيم لما له من آثار سلبية كبيرة، إذا ما نشط واستعاد نوعا من القوة مرة أخرى في المنطقة الهشة أصلا على مختلف المستويات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.