وسط موجة جدل حادة، يستعد البرلمان العراقي إقرار قانون انتخابات “مجالس المحافظات” المؤجل منذ سنوات، والذي طرأت عليه تعديلات أخيرة، ينظر إلى أنها عودة إلى قانون “سانت ليغو” حيث كان العراق يعتمده في الانتخابات النيابية منذ العام 2014، والذي كان أحد أسباب اندلاع الاحتجاجات الشعبية لعدة مرات، آخرها تلك التي اجتاحت الشارع العراقي وأطاحت بحكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الذي أُجبر على تقديم استقالته في العام 2019، بضغط جماهيري واسع.

الاثنين الماضي، أنهى “مجلس النواب” جلسة المجلس إلى إشعار آخر، وذلك بعد أن أنهى المجلس القراءة الأولى لقانون التعديل الثالث لقانون انتخابات “مجالس المحافظات”، الأمر الذي أثار حالة رفض واسعة من قبل الحراك الشعبي والفعاليات الاجتماعية إلى جانب النواب المستقلين، حيث اعتُبر تعديل القانون محاولة للعودة إلى “سانت ليغو” تمهيدا للانتخابات النيابية التي يُفترض إجراؤها خلال العام الحالي، وفق ما تعهّد به رئيس الحكومة الحالية في برنامجه الحكومي محمد شياع السوداني.

السوداني الذي نالت حكومته ثقة “البرلمان” العراقي، قبل أكثر من 100 يوم بقليل، كان قد تعهّد بإجراء انتخابات برلمانية خلال عام، في موقف فسّره مراقبون محاولة منه لمغازلة زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر، الذي كان قد انسحب من العملية السياسية وتوجيه أعضاء كتلته النيابية التي فازت بالانتخابات الأخيرة التي أُجريت في تشرين الأول/أكتوبر 2021، بأكثر عدد من مقاعد “البرلمان”، بالاستقالة، على خلفية أزمة سياسية هي الأطول في تاريخ العراق ما بعد 2003، مع غرمائه في “البيت الشيعي”.

السوداني حينها قال خلال عرضه المنهج الوزاري لحكومته، إنه يتعهد تعديل قانون الانتخابات النيابية خلال 3 أشهر وإجراء انتخابات مبكرة خلال عام، بالإضافة إلى إجراء انتخابات “مجالس المحافظات” وتحديد موعد إجرائها في البرنامج الحكومي.

الضغوط الشعبية والقوانين الانتخابية 

في عام 2019، صوّت “البرلمان” العراقي على حلّ “مجالس المحافظات”، ضمن حزمة قرارات اتخذها لتنفيذ مطالب المحتّجين الذين اعتبروا تلك المجالس غير شرعية، بسبب انتهاء ولايتها من أربع سنوات، وتعذّر تنظيم انتخابات جديدة، فضلا عن اتهامات لاحقت بعضها بالفساد.

بعد ذلك، واستجابة لاستمرار ضغط الجماهير التي استمرت في اعتصاماتها وإضراباتها لعدة أشهر، أقر “مجلس النواب” في أواخر عام 2019، قانون رقم 9 استجابة لمطالب احتجاجية والذي جاء مغايرا لما تم اعتماده في الانتخابات التشريعية الأربعة التي سبقت ذلك التشريع.

اقرأ/ي أيضا: الأجسام الغامضة في سماء العالم.. هل تشعل حربا؟

بموجب قانون 2019، تم تقسيم البلاد إلى 83 دائرة انتخابية على عدد مقاعد “كوتا” النساء في “مجلس النواب”، والذي يلزم الدستور بحصولهن على 25 بالمئة من المقاعد النيابية البالغ عددها 329 مقعدا، وبحسب مضامين ذلك القانون فإن ذلك يُعدّ تحوّلا في عملية حساب الأصوات والفوز للمرشحين؛ إذ إنه يحدد الفائز بأعلى الأصوات بدلا من اعتماد طرق حسابية معقّدة تجعل دخول المستقلين إلى “مجلس النواب” مهمة شبه مستحيلة.

يضاف إلى ذلك، أن الأصوات تذهب مباشرة إلى المرشح، بدلا من القائمة كما كان الحال في القوانين الانتخابية السابقة، ولا يوزّع الفائض منها على مرشحَين في حزب ما، أو القائمة الانتخابية ذاتها، الأمر الذي سهّل صعود نواب يمثلون أحزابهم وليس جمهورهم.

واقعا، شكّل قانون الانتخابات الجديد حينها، مكسبا كبيرا للنواب المستقلين، كما أظهر هوة كبيرة في العديد من المفاصل، إذ تسبب بخسارة كبيرة لأحزاب فاعلة في المشهد السياسي ومسيطرة على السلطة منذ ما بعد العام 2003، حيث تراجعت مكاسب القوى المقرّبة من إيران إلى حدّ لم تستوعبه، وأتاح ذلك صعود أكبر عدد من النواب المستقلين إلى “البرلمان” العراقي خلال نحو عقدَين، ما تسبب فيما بعد بأزمة سياسية مقعدة.

الأحزاب الخاسرة في شرعية الانتخابات شككت ورفضت نتائجها بشكل قاطع وحمّلت القانون مسؤولة ذلك، كما وقفت أمام مشروع القوى الفائزة مستخدمة القضاء في ذلك، الأمر الذي دفع فيما بعد “التيار الصدري” الانسحاب من العملة السياسية، لتشكل القوى الخاسرة الحكومة وتتعهد بإجراء انتخابات مبكّرة جديدة خلال عام واحد.

تعويض الخسائر الانتخابية

يبدو أن القوى المتضررة من الانتخابات السابقة بقانونها الجديدة، تسعى جاهدة إلى اعتماد قانون جديد يتلاءم وتطلعاتها، حيث يجري العمل على دمج قانون “مجالس المحافظات” مع قانون انتخابات “مجلس النواب”، وذلك بعد تعديل 16 مادة في القانون بحسب تصريحات نيابية، فضلا عن إلغاء الدوائر المتعددة والعودة إلى اعتبار كل محافظة دائرة وذلك وفق ما كان معتمدا في قانون “سانت ليغو”.

الحديث عن إصرار القوى السياسية في العودة إلى قانون “سانت ليغو”، أثار تساؤلات عدة؛ منها ما يمكن أن يتسبب به ذلك على المستوى الشعبي، إضافة إلى ما يمكن أن يؤثر به على مستوى نتائج الانتخابات، وما دوافع الأحزاب في تجاهل أصوات الجماهير في العودة إلى “سانت ليغو”.

حول ذلك يقول رئيس حراك “البيت العراقي” محي الأنصاري في حديث لموقع “الحل نت”، إن المنظومة السلطوية استشعرت بالخطر بعد التفوق العددي الذي حصلت عليه قوى مدنية ونواب مستقلين مدنيين في الانتخابات الأخيرة، هذا ما جعلهم يسارعون لتمرير قانون انتخابات سيء الصيت رفضته الإرادة الشعبية العراقية في احتجاجات 2019 بشكل واضح.

اقرأ/ي أيضا: تخفيف الحصار على ميناء “الحديدة”.. تمهيد للسلام؟

رئيس حراك “البيت العراقي” أحد إفرازات احتجاجات ما باتت تعرف بـ “تشرين”، أكد أنه لا يمكن السماح بإعادة نظام الانتخابات لـ”سانت ليغو” المعدل، والذي شوّه نظام الانتخابات وافقد الشارع ثقته بإحدى المخرجات الديمقراطية للنظام البرلماني المشوّه الذي تحتال قوى السلاح والفساد عليه وتقتل آخر ما تبقى من فسحة مشاركة في العمل السياسي للبلاد.

الأنصاري، لفت إلى أنه من الضرورة تشكيل جبهة موحدة تضم كل القوى المؤمنة بالقيم الديمقراطية، تتولى على عاتقها تقديم مسودة تعديلات لقانون انتخابات “مجالس المحافظات”، بعد إشراك طيف واسع من الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والاتحادات والنقابات، والرأي العام، بما يلبي تطلعاتهم، مشيرا إلى أن تمرير القوانين ذات الصلة بالانتخابات والحريات المدنية والسياسية، لا ينبغي أن يمرّ من دون مشاركة حقيقية للقوى المدنية في صناعة القرار.

مسودة التعديل التي صوت عليها “مجلس النواب” في قرائتها الأولى؛ تتضمن فقرات قانونية خطيرة من شأنها أن تقوض الديمقراطية، والمشاركة في الانتخابات، وعدالة التنافس، ونزاهة العملية الانتخابية، بحسب رئيس حراك “البيت العراقي”، مبينا أن مقترح القانون فيه مخالفة صريحة للمواد 49 و122 من الدستور العراقي، حين دمج المجلس القراءة الأولى بين قانون انتخابات “مجالس المحافظات” وقانون انتخابات “مجلس النواب” في قانون واحد، رغم اختلاف مهام وصلاحيات المجلسَين عن بعض.

رفض نيابي ونظرة بـ “سانت ليغو”

إلى ذلك، أبدى نواب مستقلون رفضهم تشريع قانون انتخابات “مجالس المحافظات” المعدّل لسنة 2023، معتبرين أن إلغاء الدوائر المتعددة والذهاب إلى “سانت ليغو” بعنوان مجالس المحافظات هو مرفوض، وأن الدوائر المتعددة هي الأنسب وربما تحتاج إلى تعديل، في حين كانت الحكومة العراقية قد أعلنت في وقت سابق، إجراء بعض التعديلات على قانون الانتخابات الحالي الذي جرت بموجبه الانتخابات البرلمانية الأخيرة وتحويله إلى “مجلس النواب” العراقي لإقراره وتنظيم انتخابات “مجالس المحافظات” نهاية العام الحالي لأول مرة منذ عام 2013.

بما يخص “سانت ليغو”؛ فهي طريقة ابتُكرت عام 1912 على يد عالم الرياضيات الفرنسي أندرية “سانت ليغو”، والغاية من هذه الصيغة هي توزيع الأصوات على المقاعد الانتخابية في الدوائر متعددة المقاعد، وتقلل من العيوب الناتجة بين عدم التماثل في الأصوات وعدد المقاعد المتحصل عليها، وهو عيب تستفيد منه الأحزاب الكبيرة على حساب الكتل الصغيرة، أما “سانت ليغو” المعدل فهو صورة معدلة الغرض منها توزيع المقاعد بطريقة أكثر عدالة.

تم استخدام هذه الصيغة لأول مرة في الانتخابات البرلمانية العراقية عام 2014 وتم من خلال هذه الصيغة توزيع المقاعد النيابية في العراق، وكذلك انتخابات “مجالس المحافظات” للدورة نفسها، وكان من نتائجها أن حصلت القوائم الصغيرة على مقاعد في البرلمان العراقي و”مجالس المحافظات”، وولدت الفوضى والانقسام في الكتل والائتلافات السياسية، بسبب تذبذب مواقف هذه الكتل الصغيرة، وتبدل آرائها بين ليلة وضحاها تبعا لمصالحها السياسية.

في ذلك الوقت اعتُمد القاسم الانتخابي 1.6 وكان من سلبياته أنه أظهر الكثير من القوائم الانتخابية، التي لا حصر لها ولا عدد، وفي التطبيق العراقي لهذه الطريقة يتم تقسيم أصوات كل قائمة على متوالية الأعداد الفردية فقط “1.6، 3، 5، 7، 9، … “، ومن ثم یتم توزيع المقاعد حسب الترتيب التنازلي لنواتج القسمة، فالأرقام الناتجة عن عمليات القسمة هي نواتج القسمة، ثم یتم ترتیب تلك النواتج ترتيبا تنازليا، وتوزع المقاعد حسب الترتيب بداية من أعلى رقم إلى أن ینتهي توزیع كل المقاعد.

هذه الآلية تسببت في صعود شخصيات لم تحصل على أصوات انتخابية تؤهلها إلى بلوغ “مجلس النواب”، وذلك من خلال ما يمكن أن يُضاف لها من أصوات الفائز الأكثر من ذات القائمة، فما إن كان يخسر مرشحا، حتى يتم تعويضه بأصوات مرشح آخر من قائمته.

مع كل ذلك، فإن ما لم يجري الحديث عنه بعد هو موقف “التيار الصدري” الغائب عن المشهد، والمؤيد لقانون الانتخابات الجديد، ما يعني أن احتمالية إجراء تعديلات جديدة على قانون الانتخابات والعودة إلى “سانت ليغو”، أو ما يشابهه، من شأنه أن يشعل خلافا سياسيا جديدا بين القوى السياسية، وهذا من جانب سياسي فقط، فيما سيبقى لدى الحراكات الشعبية والتيارات المدنية موفقا آخر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.