تداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا في السادس من شباط/فبراير الماضي، بدأت بالظهور تباعا على الصعيد الاقتصادي، حيث جاءت الكارثة في الوقت الذي تعاني فيه الأسواق من ارتفاع أسعار متواصل لتحد بذلك من جهود الحكومة التركية الهادفة إلى مكافحة التضخم الآخذ في الارتفاع.

وكالة “رويترز” نقلت عن مسؤول حكومي تركي واقتصاديين، تأكيدهم أن الزلزال المدمر في تركيا سيبقي على معدلات التضخم فوق 40 بالمئة خلال الفترة السابقة للانتخابات القادمة، وسيجعل من الضروري إقرار ميزانية إضافية.

المصادر قدرت كلفة الزلزال الاقتصادية بأكثر من 50 مليار دولار أميركي، مرجحة أن يسجل معدل التضخم بما في ذلك الغذاء والسكن في الأشهر المقبلة وتيرة أقل بكثير مما كان متوقعا، مؤكدة أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سيكون أمام تحديات كبيرة على صعيد الاقتصاد إذ يلتهم التضخم الآخذ في الارتفاع شعبيته كما زاد الزلزال من الصعوبات قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

الإبحار في التضاريس القاسية للتضخم

الليرة التركية، حسب “رويترز” تواجه تحديات أيضا، إذ تظهر بيانات البنك المركزي أن صافي الاحتياطيات انخفض سبعة مليارات دولار منذ الزلزال كما ينتظر مصرفيون من السلطات خطوات أخرى للحد من الطلب على العملة الأجنبية.

في أكتوبر/تشرين الأول 2022، بلغ التضخم في تركيا معدلات هي الأعلى منذ 24 عاما، حيث تجاوز 85 بالمئة مدفوعا بسلسلة من القرارات غير التقليدية لخفض أسعار الفائدة سعى إليها أردوغان قبل أن ينخفض إلى 58 بالمئة في مطلع العام 2023.

كان من المتوقع قبل الزلزال أن يواصل التضخم التراجع إلى ما يتراوح بين 35 و40 بالمئة في حزيران/يونيو القادم، لكن الزلزال دفع بالتوقع إلى أن يكون التضخم بين 42 و46 بالمئة وقت الانتخابات.

أردوغان أضاف وفق تصريحات نقلتها قناة “تي آر تي” التركية، أن الحكومة أثبتت للداخل والخارج أنه لن يتمكن أحد من التحكم بالاقتصاد التركي من خلال التضخم والتلاعب بأسعار صرف العملة والفائدة، مشددا على أن حكومته عملت على تعويض خسائر المواطنين الناجمة عن التضخم، وعالجت الأسباب المؤدية إلى غلاء المعيشة، ووسعت نطاق المساعدات الاجتماعية.

الإيجارات ومواد البناء.. التضخم في أوجه

خبراء في الاقتصاد التركي توقعوا في حديثهم لـ”الحل نت” أن ترتفع أسعار مواد البناء في عموم تركيا بنسبة كبيرة، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع أسعار المنازل وبدلات الإيجار، ما يعني زيادة في الأعباء المعيشية في تركيا.

الباحث الاقتصادي في جامعة “يوزنجويل فان” التركية، الدكتور أحمد ناصيف، قال لـ”الحل نت”، إن الزلزال يعيق إلى حد ما الجهود الحكومية التركية الهادفة إلى مكافحة التضخم، موضحا أن “التضخم سيظهر بوضوح في مواد البناء، نظرا لزيادة الطلب على هذا المواد وخاصة حديد البناء”.

بالفعل، قال وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو إن “الزيادات الباهظة في الإيجارات مؤلمة مثل ألم الزلزال الذي ضرب المنطقة، هذا يحزننا، ونحن كدولة سنقوم بما هو ضروري”.

بدورها، حذرت وسائل إعلام تركية من أن ارتفاع الإيجارات في تركيا قد يتحول إلى أزمة اجتماعية لأن إجراءات الحكومة لم تتمكن من وقف ارتفاع  الأسعار بعد تزايد الطلب بسبب الزلزال، وأضافت: “مشكلة أسعار الإيجارات في تركيا، على وشك التحول إلى أزمة اجتماعية، هذه الأسعار باشرت بالارتفاع مع بدء الوباء في 2020، وأدى الوضع في أوكرانيا وتزايد الهجرة من أفغانستان وباكستان والخليج العربي وشمال إفريقيا وتزايد وتيرة التضخم، إلى خروج هذه الأسعار تماما عن نطاق السيطرة، وأخيرا، مع هجرة مليون شخص من منطقة الزلزال إلى غرب البلاد، ارتفعت أسعار الإيجارات وحلقت عاليا”.

أما عن أسعار المواد الغذائية والمواد الأساسية الأخرى، حسب ناصيف، فإن نسبة التضخم ستعتمد على استكمال الحكومة التركية للإجراءات والسياسات المالية الهادفة إلى خفض نسبة التضخم، مشيرا إلى أن تركيا ليست البلد الوحيد الذي يعاني من التضخم، ويقول: “العديد من الدول تعاني من التضخم، وبالتالي سيزيد الزلزال من معاناة الحكومة التركية في هذا الإطار”.

رئيس قسم الاقتصاد الإسلامي في جامعة “صباح الدين زعيم” بإسطنبول الدكتور عبد المطلب أربا، يقول في تقرير نشره موقع “الجزيرة نت” إن “القطاع الزراعي لم يتأثر بشكل كبير بفعل الزلزال، حيث قامت الدولة بتوفير دعم وحوافز كبيرة للمزارعين والمستثمرين”، معتبرا أن “التخوف الأكبر هو حدوث هجرة للعاملين في هذا القطاع إلى المدن، وهو ما سيؤثر على الأيدي العاملة في هذا المجال، ويعتقد أن هذه الكارثة لو أصابت دولة أخرى بهذه القوة وعلى هذه المساحة لن تتعافى منها بسهولة، مشيرا إلى أن الاقتصاد التركي مستمر ونشط”.

تأثيرات مباشرة وغير مباشرة 

آثار الزلزال قد تظهر على الاقتصاد التركي من خلال محاور عدة، كما يؤكد الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر لـ”الحل نت” من خلال مؤشرات عديدة، منها الناتج المحلي الإجمالي، ومعدل النمو الاقتصادي وغيرها من المؤشرات، وهذا التأثير يوصف بأنه تأثير مباشر، أما التأثير غير المباشر فيظهر على مؤشرات عدة منها التضخم، وأثر الزلزال على التضخم بدوره يظهر على مراحل قصيرة الأمد ومتوسطة وطويلة الأجل.

“على المستوى قصير الأجل سيكون أثر الزلزال محدود، ويسهم برفع محدود للتضخم نتيجة زيادة نسبية في الطلب وتراجع في العرض، نتيجة تعطل جزء من المنشآت الاقتصادية”، أما على المستوى المتوسط، من المتوقع أن ينخفض معدل التضخم بشكل محدود نتيجة الاستثمار العقاري في إعادة الإعمار، وعلى المستوى الطويل سيكون أثر الزلزال إيجابي على التضخم نتيجة تحسن الانتاج، والاستفادة من مخرجات اقتصاد الكوارث، والذي سيؤدي لتحسن الإنتاج وزيادة العرض في السوق، على حد تقدير السيد عمر، الذي اختتم حديثه بقوله: “بشكل عام فإن أثر الزلزال على التضخم، سيكون محدوداً، وسيكون في المسار العام إيجابي أي يخفض معدل التضخم لا سيما على المدى الطويل”.

الواضح من استئناف البنك المركزي التركي سياسته المتمثلة في خفض سعر الفائدة الرئيسي حتى في الوقت الذي تكافح فيه البلاد مع ارتفاع معدلات التضخم وعواقب الزلزال المدمر، أن الحكومة التركية تبدو عازمة على خطواتها.

بعد الزلزال الأول بأيام، خفض البنك المركزي سعر الفائدة المعياري بمقدار 0.5 نقطة مئوية، نزولا إلى 8.5 بالمئة، وذلك على الرغم من التضخم المرتفع في البلاد.

البنك المركزي أضاف في بيان، إن “الزلزال لن يؤثر على اقتصاد تركيا على المدى المتوسط، ويجري تقييم تأثير الزلزال على الإنتاج والاستهلاك والتوظيف والتوقعات على نطاق واسع، بينما من المتوقع أن يؤثر الزلزال على النشاط الاقتصادي في المدى القريب، فمن المتوقع ألا يكون له تأثير دائم على أداء الاقتصاد التركي على المدى المتوسط”.

كان اتحاد الشركات والأعمال في تركيا، قدر حجم خسائر الزلزال بنحو 84 مليار دولار، متوقعا ارتفاع عجز الموازنة من 3.5 إلى 5.4 ب المئة على الأقل. ومع مرور حوالي شهر على الزلزال، لا زال من المبكر لأوانه الحديث عن أرقام دقيقة لخسائر الزلزال، وحصر تداعياته على الاقتصاد، ومع الوقت ستتكشف الخسائر تباعا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.