في زيارة مباغتة لمسؤول أميركي رفيع المستوى ولأول مرة لشمال شرقي سوريا، تثار تساؤلات عديدة حول ذلك، لا سيما في خضم التطورات اللافتة في المشهد السوري، ولعل أبرزها تلك الزيارات العربية المتعددة لدمشق في أعقاب الزلزال المدمّر الذي ضرب كل من سوريا وتركيا في 6 شباط/ فبراير الماضي.

هذه الزيارة كانت لرئيس “هيئة الأركان الأميركية المشتركة” الجنرال مارك ميلي، وقد أجراها لشمال شرقي سوريا، لتفقّد قوات بلاده في المنطقة، ليكون الرتبة العسكرية الأعلى التي تزور سوريا منذ انتشار القوات الأميركية فيها. والجنرال ميلي وصل إلى المنطقة قادما من تل أبيب، بعد لقاء مع وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت، ناقشا من خلاله قضايا الأمن الإقليمي وتنسيق الدفاع ضد التهديدات الإيرانية.

مصادر صحفية مطلعة أفادت أن زيارة الجنرال ميلي تضمنت جولة سريعة على القواعد العسكرية الأميركية الرئيسية شمال شرقي سوريا بما فيها قاعدة “التنف” وحقل “العمر” النفطي، في ظل تصاعد الهجمات بالطيران المسيّر الإيراني. واستطلع الوضع الميداني للقوات الأميركية، لدراسة إمكانية تدعيمها، أو إنشاء قواعد إضافية تساهم في حماية الجنود الأميركيين، خاصة أن التوقعات تشير إلى احتمالية تصعيد إسرائيلي قريب ضد مواقع إيرانية.

بالتالي التساؤلات المثارة تدور حول كيف يمكن فهم الزيارة في ضوء التصعيد الإسرائيلي على دمشق، وما إذا كانت هناك علاقة بين تلك الزيارة والترتيبات السياسية والإقليمية التي جرت بعد الزلزال، وماذا تعني هذه الزيارة الأميركية لمستقبل شمال شرقي سوريا.

أبعاد ورسائل سياسية

الجنرال ميلي زار شمال شرقي سوريا يوم السبت الماضي، والتقى مع القوات الأميركية هناك، وقال إن نشر تلك القوات في سوريا منذ ما يقرب من ثمانية أعوام لمحاربة تنظيم “داعش” الإرهابي لا يزال يستحق المخاطرة. وكان الجنرال ميلي توجه جوا إلى سوريا لتقييم الجهود المبذولة لمنع عودة ظهور الجماعة المتشددة ومراجعة إجراءات حماية القوات الأميركية من الهجمات، بما في ذلك من الطائرات المسيّرة التي تطلقها فصائل مدعومة من إيران، بحسب الكولونيل ديف باتلر، المتحدث باسم رئيس “هيئة الأركان الأميركية المشتركة”.

هذا ولا يزال المئات من مقاتلي تنظيم “داعش” الإرهابي يتمركزون في رُقعٍ غير مأهولة بالمنطقة، والآلاف الآخرون محتجزون في مراكز احتجاز تحرسها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بشمال شرقي سوريا، وهي الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في البلاد. ويقول مسؤولون أميركيون إن “داعش” لا يزال بوسعه النهوض مجددا ليشكل تهديدا كبيرا.

لدى سؤاله من صحفيين مرافقين له عما إذا كان يعتقد أن نشر حوالي 900 جندي أميركي في سوريا يستحق المخاطرة، ربط الجنرال ميلي المهمة بأمن الولايات المتحدة وحلفائها، قائلا “إذا كنت تعتقد أن هذا مهم، فإن الإجابة هي نعم. وأنا أعتقد أنه مهم”، مضيفا  “لذلك أعتقد أن إلحاق هزيمة دائمة بتنظيم داعش والاستمرار في دعم أصدقائنا وحلفائنا في المنطقة.. أعتقد أن هذه مهام ضرورية يمكن القيام بها”، وفق وكالة “رويترز“.

من جانب آخر، كثّفت طهران من طلعات الاستطلاع والهجمات على قواعد رئيسية أميركية شمال شرقي سوريا خلال كانون الثاني/ يناير، وشباط/ فبراير الماضيين. كما أن التوقعات تشير إلى احتمالية تصعيد إسرائيلي قريب ضد مواقع إيرانية، يرجح أنها تحتوي مختبرات لتطوير الأسلحة النووية، وبالتالي فإن واشنطن يبدو أنها تريد تحصين قواتها في سوريا ضد هجمات انتقامية إيرانية محتملة، إذ باتت قاعدتا “التنف” وحقل “العمر” النفطي هدفين محبّبين للطيران المسيّر الإيراني للرد على أي ضربات إسرائيلية أو أميركية ضد القوات المدعومة إيرانيا.

الدكتور زارا صالح، الباحث السياسي في دراسات السلام وحل النزاعات الدولية في جامعة “كوفنتري” ببريطانيا، يقول إن زيارة مسؤول أميركي بهذا المستوى الرفيع “رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية” وهو عائد من إسرائيل لها أبعاد ورسائل سياسية لأكثر من جهة؛ فأولا هي رسالة واضحة لطهران وميليشياتها في استمرار الوجود العسكري الأميركي مع بقاء الضوء الأخضر للعمليات التي تشنها تل أبيب وطيرانها لضرب أذرع طهران بسوريا، في ظل التهديدات الإيرانية المستمرة ضد القواعد الأميركية سواء في قاعدة “التنف” أو حقل “العمر” النفطي، التي شهدت عمليات استهداف متكررة من قبل المسيّرات الإيرانية.

قد يهمك: الزيارة المصرية لدمشق.. دبلوماسية الكوارث تحيي الدور السياسي للقاهرة؟

ثانيا وفق تقدير الدكتور صالح لموقع “الحل نت”، هو ردّ واضح على موسكو ومحاولاتها للحدّ من النفوذ الأميركي في شرق الفرات من خلال رعايتها لخطة التطبيع بين أنقرة ودمشق. كما أنها رسالة أميركية إلى “حليفها” في “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو)، بشأن عدم الرضا عن عملية التطبيع مع الرئيس السوري بشار الأسد. وأن واشنطن تواصل دعم حليفتها “قسد” وخطتها الاستراتيجية للحفاظ على قواتها وقواعدها العسكرية في شمال شرقي سوريا ودعم الأكراد في الحرب ضد إرهاب “داعش”، الذي لا يزال خطره قائم في المنطقة.

هذا ومنذ عدة أشهر تسعى موسكو بشكل حثيث لإعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق، بعد قطيعة دامت لأكثر من 10 سنوات، وقد انعقد اجتماع ثلاثي في موسكو، بين تركيا وسوريا وروسيا وعلى مستوى وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات في الدول الثلاث حول الوضع في شمال سوريا، بعد أن كانت النتيجة الرئيسة لهذا الاجتماع عودة الجانب التركي عن نيّة التوغل ضمن الأراضي السورية بعمق 30 كيلومترا، بحجة إخراج القوات الكردية المنضوية ضمن “قسد” من المناطق الواقعة تحت سيطرتها، والتي تعتبرها أنقرة “إرهابية” وتقوض الأمن في تركيا.

رفض تعويم الأسد

إن عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق وبوساطة وإصرار روسي، بعد أن عارض الأسد هذا التقارب مع الجانب التركي، لكن يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أقنعه بعد ذلك، ومؤخرا صارت إيران طرفا مشاركا في الاتصالات الاستخباراتية والأمنية بين هذه الأطراف.

الإصرار الروسي على هذا التقارب، وتجميع هذه الأطراف في شمال سوريا، اعتبره البعض امتدادا لصراعها مع واشنطن في أوكرانيا إلى الداخل السوري، ويبدو أن زيارة الجنرال ميلي للمنطقة رسالة واضحة لهذه الأطراف، بأن واشنطن لن تترك المنطقة وباقية مع قواتها، بل ويبدو أنها تسعى لإنشاء قواعد عسكرية جديدة. كما تؤكد رفضها تطبيع العلاقات مع الأسد، الذي تعتبره واشنطن ذا سلوك “وحشي” ولا يمكن التطبيع مع هكذا نظام، وفق تحليل صالح.

الزيارة الأميركية هذه جاءت بالتزامن مع محاولات دول عربية لاستغلال كارثة الزلزال والدفع باتجاه إعادة تعويم دمشق، وهي إشارة ودلالة واضحة بأن موقف الولايات المتحدة رافض تماما للاعتراف بالحكومة السورية كسلطة في سوريا. ويبدو أن هذا الأمر أغضبت دمشق ومن ثم سارعت لإصدار بيان عبر وزارة خارجيتها، اعتبرت فيه الزيارة “غير شرعية”.

حيث أدانت “وزارة الخارجية والمغتربين السورية”، يوم الأحد الفائت، الزيارة التي وصفتها بـ”غير الشرعية”، لرئيس هيئة الأركان الأميركي إلى شمال شرق سوريا. ونقلت “وكالة الأنباء السورية” (سانا)، عن مصدر رسمي في وزارة الخارجية والمغتربين قوله إن “سوريا تدين بشدة الزيارة غير الشرعية لرئيس هيئة الأركان الأميركي إلى قاعدة عسكرية أميركية غير شرعية في شمال شرقي سوريا وتؤكد أنها انتهاك صارخ لسيادة وحرمة أراضيها ووحدتها”.

المصدر ذاته أردف أن سوريا “تطالب الإدارة الأميركية بالتوقف فورا عن انتهاكاتها الممنهجة والمستمرة للقانون الدولي ووقف دعمها لميليشيات مسلحة انفصالية، وأن سوريا تتوجه إلى الدول التي تنشد الأمن والاستقرار في منطقتنا والعالم لإدانة هذه الانتهاكات الأميركية ووقفها”، موضحا أن دمشق “تؤكد أن هذه الممارسات الأميركية لن تحرفها عن نهجها في مكافحة الإرهاب والحفاظ على سيادتها وأمنها واستقرارها”.

صالح يرى أن واشنطن بهذه الزيارة تريد إيصال رسالة إلى عدة أطراف وتريد أيضا طمأنة الجانب الكردي مرة أخرى بأنه لن يتركه بمفرده في هذه الظروف الحرجة من التهديدات التي يواجهها سواء من “داعش” أو تركيا أو الحكومة السورية، وهي بالتأكيد رسالة أميركية قوية من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الحليف الكردي مفادها أنها ستبقى حتى بعد الانتخابات المقبلة، ولن تتكرر تجربة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، عام 2021.

أنقرة غاضبة!

زيارة الجنرال ميلي تأتي قبل أيام من الذكرى الرابعة لإعلان هزيمة تنظيم “داعش” في معركة الباغوز بشرق سوريا، ويبدو أيضا أن هذه الزيارة هي لمراجعة إجراءات حماية القوات الأميركية من أي هجوم إرهابي محتمل. وتنشر الولايات المتحدة في شرق وشمال شرقي سوريا قرابة 900 جندي في إطار مهمة لدعم “القوات المحلية الشريكة”، أي “قسد”، في مكافحة تنظيم “داعش” وضمان عدم عودته مجددا.

على إثر هذه الزيارة الأميركية، استدعت “وزارة الخارجية التركية”، السفير الأميركي في أنقرة جيف فليك، إلى مقرها، وطلبت منه تقديم توضيح بشأن زيارة الجنرال ميلي إلى المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، وتوجد بها القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا.

هذا ويثير الدعم الأميركي لـ”قسد” في إطار مكافحة على “داعش” غضب أنقرة، ويمثل أحد الملفات المعقدة في العلاقات التركية الأميركية. وجاءت زيارة الجنرال ميلي، غداة احتجاج تركيا على تقرير “وزارة الخارجية الأميركية” حول مكافحة الإرهاب لعام 2021، معتبرة أنه “يشوه بشكل متعمد حرب تركيا ضد التنظيمات الإرهابية التي تشكل تهديدا مباشرا لأمنها”.

المتحدث باسم “وزارة الخارجية التركية”، تانجو بيليجيتش، زعم في بيان، يوم الجمعة الماضي، بالقول إن “تركيا تواصل مكافحة التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني والوحدات الكردية وتنظيم داعش وتنظيم فتح الله غولن، دون تمييز وفي إطار القانون”، مدّعيا إلى تقديم تركيا “إسهامات فاعلة في الجهود الدولية على صعيد مكافحة الإرهاب”.

قد يهمك: سيناريوهات ما بعد الزلزال.. إعادة هيكلة الخريطة الأمنية على الساحة السورية؟

المحلل السياسي، الدكتور، صالح، يقول إن ردة الفعل الغاضبة والسريعة من قبل دمشق وأنقرة على هذه الزيارة تعكس حجم أهميتها، حيث وصفتها الأولى بـ”غير الشرعية” فيما استدعت الخارجية التركية السفير الأميركي في أنقرة.

واشنطن باقية في المنطقة

منذ وقوع الزلزال الكارثي في سوريا، تلقّى الأسد، سيلا من الاتصالات من قادة الدول العربية، إضافة إلى زيارات عديدة؛ إماراتية، أردنية، ومؤخرا زيارة وفد من “الاتحاد البرلماني العربي”، ولعل أبرز هذه التطورات هي زيارة وزير الخارجية المصري إلى دمشق مؤخرا، والتي تُعتبر الزيارة الرسمية الأولى منذ عام 2011، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول توقيت الزيارة وانعكاساتها، مثل باقي الزيارات العربية الأخيرة.

حديث الأسد مع الزيارات العربية الأخيرة لدمشق، كان واضحا أنه يسعى بشكل حثيث ولا يوفر على نفسه فرصة كي يستغل وينتهز الوضع والظرف المأساوي للشعب السوري، لجهة تعويم نفسه عربيا أو حتى دوليا. فالأسد كان معزولا دبلوماسيا على المستوى الإقليمي والدّولي، وعضوية سوريا في “جامعة الدول العربية” التي لا تزال معلّقة منذ عام 2011. وبعد الزلزال المدمّر ومن ثم استئناف دول عربية التواصل معه، يعتقد المحللون، أنه يمكن للأسد أن يستفيد من هذه المأساة بالخروج من عزلته الدبلوماسية، خاصة وأن عددا من الدول الأعضاء في “الجامعة العربية”، وعلى رأسها العراق، ترغب باستعادة الحكومة السورية لعضويتها في الجامعة، التي تشهد انقساما حادا حول ذلك، وربما تكون الخطوة الأولى قد اتُخذت في هذا الصدد، إذ استقبل الأسد في دمشق، وفدا من “البرلماني العربي”، بجانب الزيارة المصرية اللافتة والمهمة.

بالعودة إلى أهمية زيارة الجنرال ميلي للمناطق الكردية بشمال شرقي سوريا وفي هذا التوقيت بالذات، ومحاولة بعض الأطراف استثمار التعاطف الدولي والعربي مع ضحايا الزلزال من أجل إعادة العلاقات مع الأسد، يراها صالح بأنها تأكيد أميركي على رفضها لعملية إعادة تعويم الأسد إقليميا ودوليا، وتقول واشنطن من خلال هذه الزيارة بكل صراحة إنها باقية بوجودها العسكري هناك ولن تتغير المواقف والوضع على الأرض حتى لو حصلت بعض خطوات التطبيع بين أنقرة ودمشق وبخطة روسية، ذلك لأن واشنطن بحاجة إلى المزيد من أدوات الضغط على الجانب الروسي ومنها في الملف السوري كجزء من استراتيجيتها في استنزاف موسكو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا واحتلاله لبعض المناطق بأوكرانيا.

يبدو أن توقيت الزيارة لم يكن عشوائيا من الجانب الأميركي لتكون الزيارة بمثابة رسائل صريحة لكافة هذه الأطراف وبأن موقفها لم يتغير فيما يخص سياستها تجاه سوريا وتحديدا الأسد، وزيادة التأكيد على استراتيجيتها وسياستها خاصة لجهة دعم حلفائها من “قسد”، وفق تقدير صالح.

بالنظر إلى أن الزيارات العربية الأخيرة لدمشق تأتي في إطار إعادة تأهيل الأسد كي يكون مقبولا من العالم ومن الداخل، وفق مراقبين، فإن كل هذه المساعي والجهود لن تكون مجدية ومثمرة، طالما أن واشنطن والدول الأوروبية ترفض هذا التعويم، لأنه بكل بساطة سياسة ونهج حكومة دمشق كما هي ولم تتغير؛ قمعية وشمولية، ولا زالت متشبثة بتبعيتها لكل من روسيا وإيران.

خلاصة القول، التطورات والتحركات الملحوظة التي تشهدها الساحة السورية، قد تعقّد وتُطيل من عمر الأزمة السورية، ذلك لأن إعادة تأهيل الأسد دون وجود خطط وأُطر سياسية ملموسة ترضي جميع الأطراف وسط عدم الترحيب الغربي بهذه الخطوة، غير ممكن أو مجدٍ حتى وإن جرى بعض التطبيع العربي معه خلال الفترات المقبلة، ومن جانب آخر لا يزال خطر تنظيم “داعش” قائم ولا يجب التغاضي عنه، كما تعتقد بعض الأطراف التي تساوم على المنطقة سواء موسكو أو أنقرة أو دمشق. بالإضافة إلى سياسة بعض الدول التي تتماشى مواقفها مع مصالحها فقط، لذا فكل هذه التحركات والتغيرات في المواقف بسوريا، يوحي بتوجه الوضع نحو التعقيد والتأزم أكثر مما هو عليه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.