الوضع الاقتصادي المتدهور الذي يمر فيه لبنان منذ نهاية 2019، والمصحوب بتراجع بقيمة العملة المحلية، أعاق إلى حد كبير سحب الودائع بالعملة الأجنبية من المصارف، ونتيجة لذلك لجأ البعض إلى اقتحام البنوك تحت تهديد السلاح لاسترجاع ودائعهم، إذ ينبئ ذلك عن يأس من حل الأزمة الاقتصادية اللبنانية.

المصارف التجارية اللبنانية تلجأ بشكل شبه مستمر إلى تنفيذ إضرابات مفتوحة، مرجعة ذلك إلى قرارات قضائية تعسفية ضدها، الأمر الذي يزيد من عرقلة تسيير الشؤون المالية لآلاف اللبنانيين الذين فقدوا ثقتهم بهذه المنظومة والتي استحوذت على أموالهم من دون أي سند دستوري أو قانوني.

أول أمس الخميس 9 أذار/مارس الحالي، أعلنت المصارف التجارية اللبنانية أنها ستستأنف إضرابها المفتوح اعتبارا من الـ 14 من الشهر الجاري، حيث كانت البنوك قد علقت لفترة وجيزة إضرابا كانت بدأته أوائل شباط/فبراير الماضي، بسبب الإجراءات القانونية المتزايدة ضدها إثر أزمة الانهيار المالي في لبنان، والتي أدت إلى حرمان معظم المودعين من مدخراتهم، بحسب موقع “سكاي نيوز عربية”.

ما الغاية من الإضراب؟ 

“جمعية مصارف لبنان” رفضت في بيان لها قبل أيام قليلة، “القرارات القضائية التعسفية التي تكيل بمكيالين، فتلزم المصارف بقبول تسديد الديون العائدة لها بالعملة الأجنبية بذمة المقترضين بشيك مسحوب على مصرف لبنان، أو بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف 1500 ليرة للدولار الواحد، فيما تلزم المصارف بتسديد أو بتحويل الودائع بالعملة الأجنبية نقدا وبالعملة نفسها ولمصلحة بعض المودعين على حساب المودعين الآخرين”، وفق موقع “أندبندنت عربية”.

المصارف لم تترك وسيلة قضائية للمطالبة بتصحيح الخلل إلا وسلكتها إنما من دون جدوى، كما أن بعض القرارات القضائية التي وصفتها بـ “الانتقامية زادت من خطورتها”، بحسب بيان الجمعية.

المصارف في لبنان أصبحت جزء لا يتجزأ من مشكلة الانهيار القائم في لبنان، وقد ارتكبت ما ارتكبته سواء من ناحية التصرف بودائع المودعين أو من ناحية الاشتراك مع السلطة في تبديد الأموال وإرسالها إلى الخزينة كي يتم إنفاقها بطريقة غير سليمة أو غير صحيحة، ولكن ما تمت ملاحظته من قبل المصارف خلال فترة الانهيار الاقتصادي في السنوات الثلاث الأخيرة، أنها تُركت وحيدة تواجه قدرها لا بل تم التركيز عليها بأن تتحمل كامل المسؤولية عن الخلل المالي والخسائر التي حُققت في النظام المالي اللبناني، بحسب حديث الخبير الاقتصادي، بلال علامة، لـ”الحل نت”.

قد يهمك: اقتحام البنوك يقسم الشارع اللبناني

هذا الموضوع من وجهة نظر علامة، يتطلب فعليا اشتراكا بتحمل المسؤوليات من قبل الأطراف المعنيين الذين هم المصارف والسلطة السياسية، حيث إن الأخيرة تقاعست كليا عن إقرار القوانين اللازمة لحماية النظام المصرفي، وتم الدفع باتجاه اعتبار المصارف هي المسؤولة عن كل هذه العملية في وقت أرادت السلطة السياسية التنصل من كل المسؤولية.

المصارف التجارية لاحظت عبر “جمعية المصارف” أن السلطة القضائية في لبنان بدأت تستهدف المصارف استنسابيا على قاعدة أن كل قاضي أو كل محكمة معينة، تذهب باتجاه اتخاذ قرارات حسب مقتضيات المصلحة واتجاهات القضاة والأطراف المعنية، علما أن هذا الموضوع يفتح باب الاستنسابية ويفتح باب المصالح الخاصة في مقاربة هذا الموضوع، إذ أصبح بعض القضاة مشرعين، كلا منهم يبتدع الأساليب والقرارات اللازمة، منهم من يتعاطف مع المودعين، ومنهم من يتعاطف مع أطراف السياسيين ومنهم من يتعاطف مع المصلحة العليا، حيث أصبحت القرارات مزاجية إلى حد ما، بحسب علامة.

المصارف اللبنانية تواجه اليوم خطر الإفلاس، لأنها تفتقد للسيولة، وعملية التمويل بالسيولة تحصل من قبل مصرف لبنان بطريقة مقننة. وبالتالي عندما تتخذ قرارات قضائية بإجبار أو إلزام بعض المصارف بالدفع نقدا وودائع كاملة، فهي تعرض باقي المودعين إلى الحرمان من النسب المعينة التي يحصلون عليها.

في هذه الحالة المصارف أرادت أن تأخذ موقف لتعبر عن امتعاضها من هذا الموضوع، فدخلت في عملية الإضراب، يقول علامة، حيث كان الإضراب في البداية تحذير لأجل تنبيه السلطة القضائية والسلطة السياسية، واليوم يبدو أنه سيتحول إلى أسلوب دائم لإيقاف الاستنسابية القضائية، والاستنسابية السياسية بالتعاطي معه، وفق تعبيره.

خلفيات الإضراب

ازدحام شديد للمودعين عند أجهزة الصراف الآلي، حيث يتدافع اللبنانيون يوميا لإجراء سحوباتهم، إذ أبقت المصارف على هذه الخدمة، لكن غالبا ما تكون فارغة من الأموال، أو تغذيها الإدارات بكميات محدودة للغاية لا تلبي حاجة عملائها.

الخناق اشتد على اللبنانيين الذين أهلكهم الانهيار المالي والاقتصادي خلال السنوات الأخيرة الماضية، في حين يواجهون انهيار الليرة اللبنانية المتواصل وبلوغها 80 ألفا للدولار الواحد، كذلك الارتفاع غير المسبوق بأسعار السلع الأساسية والمحروقات.

الإضراب بدأ في السابع من شباط/فبراير الماضي، بإعلان “جمعية المصارف” الإضراب المفتوح مقابل الاستمرار ببعض الخدمات لعملائها، ردا على قرار قضائي صدر بحق مصرف “فرانس بنك”، وسمح لمودعين اثنين الحصول على وديعتهما كاملة بعملة الإيداع أي الدولار، فأغلق المصرف جميع فروعه في لبنان، بحسب موقع “الجزيرة نت”.

طوال الأشهر السابقة، تجري القاضية غادة عون تحقيقات حول مصير قروض بمليارات الدولارات منحها “مصرف لبنان المركزي” للمصارف بالدولار، وتتمحور حول اشتباه النيابة العامة بتحويلها منذ بداية الأزمة إلى الخارج من دون مسوغ قانوني.

القاضية عون وحتى الآن، أصدرت قرارات قضائية متعلقة بالحجز على عقارات 5 مصارف من أصل نحو 13 مصرفا تجري حولها تحقيقاتها، ووضعت إشارات على عقارات وأسهم وممتلكات أحد رؤساء إدارة مجالس المصارف.

في عام 2022 وجهت عون تهم الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال وتبديد المال العام لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وآنذاك، اعتبر كثيرون أن التهم كانت مشحونة بصراعات سياسية وخلافات داخل الجهاز القضائي اللبناني.

منذ نحو عامين، يواجه سلامة دعاوى قضائية أمام المحاكم بسويسرا وفرنسا ولوكسمبورغ وألمانيا، ومنها اتهامه بتحويل نحو 400 مليون دولار لسويسرا بطريقة غير نظامية بمساعدة شقيقه ومساعدته، وفق ما نقله موقع “الجزيرة نت”.

اقرأ أيضا: الشرطة تنضم لحملة اقتحام البنوك اللبنانية.. تآكل في قطاع الدولة؟

المودعين اليوم هم ضحية والأداة التي يتم استخدامها في الصراعات المفتوحة على مصراعيها بين السلطة السياسية والمصارف والسلطة القضائية، وفق بلال علامة، وبمعنى أوضح من الممكن خلال فترة الإضراب أن يقنن دفع الموجبات أو الودائع حتى ولو كان بموجب تعميم مصرف لبنان، أي دفع نسب صغيرة وأرقام صغيرة وسقوف محددة للمودعين، ولكن تبقى آلات ومكنات الـ”أي تي أم” هي السبيل لسحب ما تمكن أو ما يسمح به، وفق تعبيره.

إجراءات للخروج من الأزمة

لا يمكن حلّ الأزمة التي تواجهها المصارف اللبنانية سوى عبر تسريع الحلول التي طال اعتمادها، وفي طليعتها قانون إعادة هيكلة المصارف وقانون “الكابيتال كونترول” والهدف من تطبيق الأخير ليس حماية المصارف، بل تنظيم التحويلات إلى الخارج والسحوبات بالداخل والحفاظ على احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، إذ إن هذا القانون هو أحد أبرز مطالب صندوق النقد الدولي، وحتى إن لم يكن بصيغته الحالية يتطابق مع كامل رؤية الصندوق.

اليوم مطلوب تنفيذ إجراءات سريعة وعلى السلطة أن تتحرك بأسرع وقت لترتيب الأمور، من وجهة نظر الخبير الاقتصادي علامة، وذلك من خلال إعداد خطة واضحة بعيدا عن المصالح الشخصية والاستنسابيات والسلطة القضائية والسلطة النقدية، بحيث يتم توزيع المسؤوليات والخسائر ويشترك الجميع في تحمل هذه المسؤولية.

بموجب قانون النقد والتسليف يوجد المادة 113 التي تسمح بتأسيس صندوق يسمى صندوق الاحتياط في مصرف لبنان، ويتم تحويل إليه فائض الإيرادات أو الواردات التي تأتي من أعمال تجارية أو تدفقات مالية تحول إلى هذا الصندوق، ويمول ربما من أرباح مالية معينة. في حال سجل خسائر على ما يسمى النظام المالي، يستطيع هذا الصندوق أن يغطي هذه الخسائر، بحسب علامة.

اليوم المصارف تناشد وتطلب تأسيس هذا الصندوق الاحتياطي وتطبيق المادة 113، حيث يوجد أكثر من حل بالنسبة لودائع المودعين، وفق علامة، بدأ من اشتراك الجميع بتحمل المسؤولية، أو بموجب وضع استثمارات معينة تدخل إيراداتها في الصندوق، وتستطيع من خلاله المصارف والسلطة السياسية والنقدية، أن تشترك في تمويل إعادة أموال المودعين حتى ولو كانت لفترات طويلة جدا.

أخيرا، لإضراب المصارف انعكاسات كبيرة على قيمة الليرة اللبنانية، لأنها تؤثر سلبا على تدفقات الدولار التي تدخل على السوق اللبناني، ويرى مراقبون بأن المصارف حتى وأن فكت إضرابها مرحليا، سوف تشتد الشكاوى بحقها داخليا وخارجيا، لأنها أداة الضغط الوحيدة التي يملكها المودعين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.